العرب وثلاث إيديولوجيات
حـسـن زهـيـر
كلّ من قرأ كتاب “الإيديولوجيا العربية المعاصرة” للمفكّر المغربي عبد الله العروي، يستحضر التقسيم الثلاثي المعروف للإيديولوجيين العرب: الشيخ (محمد عبده نموذجاً)، والسياسي (لطفي السيّد نموذجاً)، وداعية التقنية (سلامة موسى نموذجاً).
هؤلاء الثلاثة، ومن يسير في خطّهم العام، يُحيلون إلى أنواع الإيديولوجيات العربية التي سادت في المنطقة العربية، منذ بداية ما يُعرف بعصر النهضة العربية. كلّ واحد من هؤلاء قدّم رؤيته أو تصوّره أو فكرته حول ما يَعتبره أفضل السُّبل لإصلاح الأوضاع العربية المتّسمة بالتأخر التاريخي، مقارنة مع الأمم الأخرى التي فرضَت تقدّمها في العصر الحديث، بل الأكثر من هذا، فإنّ أيّ استنطاق نبيه للتاريخ يدفعنا إلى اكتشاف أنّ وراء ذلك الثلاثي المصري (عبده، السيّد، موسى) يوجد ثلاثي مماثل في المغرب أو في سورية، بل يوجد أيضاً نظير لهذا الثلاثي في بلدان أخرى كروسيا أو الهند أو الصين.
كلّ هذه الثلاثيات تسعى إلى تقليد أو “التناغم”، من قريب أو بعيد، مع ثلاثي أوروبي “أصلي”، صنع الحدث وفرض نفسه على الجميع منذ انطلاق العصر الحديث. ومن هنا يُطرح السؤال: هل هذه “المُماثلات الثلاثية” هي مجرّد وَحْي من الخيال أم أنها تجِد أساسها في استنطاق معطيات التاريخ الحديث؟
سنحاول في هذه المقالة الكشف عن سرّ العدد ثلاثة في هذا التشطير الإيديولوجي أو بعبارة أخرى: لماذا حصر عبد الله العروي الإيديولوجيات العربية المعاصرة في العدد ثلاثة، وليس أكثر أو أقل من ذلك؟
قد يبدو للوهلة الأولى أنّ هذا الحصر “الثلاثي” غير مبرّر بما يكفي، لكن، عند التدقيق، يُلاحظ أنّه تقسيم مُستمد من معطيات تاريخية فعلية حدَثتْ وفرضت نفسها على كلّ من أراد التعاطي بجدّية مع تاريخ الإنسان الحديث، ذاك الذي ساد العالم منذ مطلع عصر النهضة الأوروبية إلى بداية القرن العشرين، ذلك أنّ أيّ متتبّع يقظ لهذا المسار التاريخي الحديث، لا يمكن له إلّا أن يستخلص عُصارته من خلال ثلاثة أحداث عظيمة، (لاحظ العدد ثلاثة!)، التي طبعت وميّزت القرون الأربعة الأخيرة:
– الحدث الأول هو الثورة الدينية مع الكالڤينية و”مارتن لوتر”.
– الحدث الثاني يتعلق بالثورة السياسية مع روّاد الفكر الليبرالي الحديث.
– الحدث الثالث يرتبط بالثورة الصناعية مع العلم التقني الحديث.
كلّ واحدة من هذه الثورات الثلاث أَلقَت بإيديولوجيتها على المسرح التاريخي وفرضَت، بالتالي، نفسها على كلّ معنيّ بإشكالية التقدّم والتأخر في بلده وأمّته، إذ لا مفرّ له من الإنصات للتاريخ إذا أراد مواجهة مشكلته بالجدّية المطلوبة، وهكذا إذن، سينتهي الأمر بكلّ دارسٍ يقظٍ للإيديولوجيات إلى أن يستخلص، انطلاقاً من مبدأ وحدة التاريخ الإنساني، تصنيفاً أو نمذجةً ثلاثيةً، تسعى إلى محاكاة أو تَمثّل إحدى إيديولوجيات الثورات الغربية الثلاث المذكورة أعلاه، في محاولة للإجابة عن أسئلتها المُستفزّة، إذ كلّ واحد من هؤلاء الإيديولوجيين العرب المُصلحين يجد نفسه مضطراً إلى تَمثّل شخصية تاريخية حديثة واجهت نفس المشكل، أي الانحطاط والتأخّر، وساهمت في صنع إحدى الثورات الثلاث، ولهذا السبب وجد العروي نفسه مدفوعاً إلى ملاحظة أنّ هناك من يَتمثّل، عندنا، مارتن لوثر وإصلاحه الديني، وهو “الشيخ”، الذي يقول، مجيباً عن أسئلة الغير، أي الأوروبي المنتصر الذي أنجز إصلاحه الديني: ” نعم، يجب علينا، نحن المسلمين، أن نقوم بإصلاح عقيدتنا الدينية” (عبد الله العروي، “الفلسفة والتاريخ”، ص. 97). يقول الشيخ هذا الكلام، لأنه سمع العدو يستفزّه بالقول: “انحطّ الإسلام بسبب تعصّبه وتعلّقه بالخرافات”.
الشيخ والسياسي وداعية التقنية يمثلون، على التوالي، اللحظات الأساسية الثلاث التي مرّ بها الوعي العربي في محاولته لإدراك هويته وهوية الغرب. وهناك أيضاً من الإيديولوجيين العرب من يتمثّل الثورة الليبرالية وهو السياسي، أو الزعيم السياسي، الذي يقول: “ما ينقصنا ليس إصلاح سلوكنا الديني، بقدر ما هو إعادة النظر في نُظُمنا السياسية والإدارية، يجب أن نحرّر المواطن من تعسّف الحكّام”. (م. ن. ص.104)، وذلك حتى يعمّ العدل والانضباط. يقول رجل السياسة هذا الكلام، وقد سمع هو الآخر العدوّ يقول مُغرضاً: “لم يعرف الشرق، أبداً، سوى الاستبداد… حاكم مطلق ورعيّة مُستعبدة … في ظلّ العبودية لا تزدهر زراعة ولا تجارة ولا علم و لا فلسفة… إن العربي البدوي فوضوي وعدوّ للنظام”.
وأخيراً، هناك الثالث الذي يتمثل الثورة التقنية العلمية والصناعية، وهو ما يماثل، عندنا، ما سمّاه عبد الله العروي “داعية التقنية” أو “محب التقنية” أو “عاشق التقنية”، الذي يقول: “نعم، يجب أن نتولى قوانين الطبيعة، أن نستمع لما تُمليه علينا قبل أن نحاول استغلال خيراتها”، لأنه رأى بأُمّ عينيه فشل تجربة سابقيه، ولاحظَ بالملموس أنّ الإصلاح الديني بقي مُعلّقاً، وأنّ الإصلاح السياسي لم يعط ثماره، فلا بدّ، إذن، من الاهتمام بما “ينفع العباد في هذه الدنيا”، أي العلم والتقنية، أو بعبارة المفكّر المصري سلامة موسى: “إنّ الفرق بيننا وبين الأوروبيين هو الصناعة، وليس شيئا آخر سوى الصناعة”. يقول داعية التقنية هذا الكلام لأنه سَمع هو أيضاً الخصم أو العدوّ يختزل الشخصية العربية، بالقول: “إنّ الحقيقة الجغرافية والإتنولوجية هي أن الشرق شرق والغرب غرب، والفارق بينهما هو الدين”، وليس مجرّد علم وصناعة!
المُلاحظ، إذن، أنّ كلّ واحد من هؤلاء الثلاثة قد يجد تعبيراته الإيديولوجية في حزب سياسي محدّد، لكن على الرغم من التعدّد الكبير في الأحزاب السياسية العربية، إلّا أنّ وراء هذا التنوّع المُتزايد توجد “عقائد دفينة” لا تتجاوز ثلاث إيديولوجيات تضطّر للتفاعل أو الاشتباك مع تلك التي أفرزها التطوّر التاريخي، كما يتجلّى لنا من خلال مُعاينة وتمحيص تاريخ الغرب الحديث. هذا الأمر هو ما جعل المفكر عبد الله العروي، يقول: “ما لا يمكن إغفاله بحال هو الترابط بين الإيديولوجيتين العربية والغربية، أي ما يقوله العرب عن أنفسهم وما يقوله الغرب عن نفسه وعن العرب.” (عبد الله العروي، “الإيديولوجيا العربية المعاصرة”، ص. 48).
وهكذا، فإنّ الشيخ والسياسي وداعية التقنية يمثلون، على التوالي، اللحظات الأساسية الثلاث التي مرّ بها الوعي العربي في محاولته لإدراك هويته وهوية الغرب، منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى الآن، وكذلك في تفاعله أو اشتباكه، الإيجابي أو السلبي، مع الثورات الغربية الثلاث: الدينية والسياسية والصناعية. ومازال هذا التفاعل أو الاشتباك يفرض نفسه على جدول أعمالنا رغم كلّ الاختلافات والتباينات التي قد تبدو ظاهرياً بين “شيخ” اليوم وشيخ الأمس، وبين “رجل السياسة” اليوم والزعيم السياسي بالأمس، وبين “دعاة التقنية” اليوم وداعية التقنية بالأمس.