غاستون باشلار: النموذج الكبير (3-3)

  غاستون باشلار: النموذج الكبير (3-3)

  ترجمة: سعيد بوخليط              

     بوسعنا أن نلاحظ في هذه الصياغة حضور مختلف عوامل التأثيرات التي سردت أعلاه، بجانب إرث بروست: إسهامات التحليل النفسي، اكتشاف العالم والذات،مثلما اشتغل عليها غاستون باشلار وكذا وظيفة التجربة الإنسانية الجوهرية للفن.

   ألح ستاروبنسكي وجان روسي، بدورهما، على ديناميكية المسار المبدع الذي يتحول معه الكاتب مثلما القارئ. لقد خلق ستاروبنسكي نموذج ”مونتين متحرِّك” (1982)، فأرسى ضمن صفحات كتابه ”العلاقة النقدية” معالم نظرية التشويش بين الكاتب وعمله.

   يصطفُّ جان روسي بوعي ضمن التقليد الذي طبعه اسم جورج بولي(أهدى إليه كتابه المعنون بـ”الشكل والدلالة”)، مستشهدا في ملحوظة وردت في المدخل، باجتهادات الشكلانيين الروس، النقاد الانغلوساكسونيين، وبشكل خاص النقد الجديد، أخيرا بالنسبة لفرنسا لاسيما كتَّاب وشعراء مثل فلوبير، مالارميه بروست وفاليري (55).

   فيما يتعلق بالنقاد، عمل على تقديم لائحة تقريبا مستفيضة بخصوص ممثلي النقد التيماتيكي: أدرج أسماء مارسيل رايمون، ألبير بيغان، غاستون باشلار، جورج بولي، ليو سبيتزر، جان ستاروبنسكي جان بيير ريشار (56).

   بعد ذلك، وضع تعريفا للفن: ”يتجلى الفن من خلال هذا التماسك بين العالم الذهني والبناء الحسي، منظور وشكل”(57).

   أخيرا، تطرق إلى تفاصيل قراءة مبدعة تنمو ضمن سياق ديمومة يجدر بها جعل: “العمل متجليا عبر كل أجزائه في الوقت ذاته” (58).يلزم بقاء مجمل العلاقة النقدية بين العمل والملاحِظ ديناميكية، متحركة،و لايمكنها التجمُّد خلال لحظة من اللحظات: “حينما أجدني أمام عمل، أستوحي استقلالية نتيجة صدمة الاتصال الأول؛ حينما أضع الكتاب جانبا بعد طيِّه على جميع الاتجاهات، أبلغ لحظة، أستعيد معها تجربة مماثلة؛ أعود إلى ذاتي، والعالم المشترك، أترك ورائي جانبا من صنيعي؛ ما أحمله ليس مضمون العمل كُلِّية، مادام وقع هذا الحرمان من الحضور والتواصل اللذين لاغنى عنهما. أعتقد بأني انتزعتُ منه كل دلالاته وبنياته، ويلزمني الإقرار بملاحظة مفادها أني أفتقد شيئا ما، واستمر جانب من الحميمي متواريا خلفي، بين دفتي الكتاب الذي أغلقته، ضمن تلك اللائحة التي أضحت بعيدة عني. ما إن  أشحتُ بوجهي حتى انتابني شعور بضرورة ملء فراغ، خطوته الأولى العودة إلى تلامس لايضاهى، وحضور يستحيل اختزاله. وإن استلهمت أقصى مستويات الامتلاك نتيجة تناول الدلالات عبر الأشكال، أشعر جيدا بأنَّ علاقة العمل بقارئه، مبدعه و”ظِلِّه” لاتنطّ كي نميز وجودها سوى وفق إيقاع ذهاب وإياب لانهائي ثم استهلاك يعثر فقط على إشباعه مع ذلك الكِتاب”(59).

مدرسة جنيف الجديدة: جان روسي وجان ستاروبنسكي

   لكي نميز ممثِّلي مدرسة جنيف المعاصرين عن المؤسِّسين أو أساتذتهم الفعليين، أقصد تحديدا مارسيل رايمون وألبير بيغان، أقترح توظيف مفهوم ”المدرسة الجديدة”كي ينصب التركيز في هذا السياق على جان روسي وجان ستاروبنسكي.

* جان روسي:

    انطلقت كتابات جان روسي (1910 – 2002)، بدراسته”الشكل والدلالة”، متوخية فعلا توضيح المفهوم الديناميكي لهذا الرافد من النقد الأدبي. تناول روسي إشكالية الرواية خَطِّيا من القرن السابع عشر غاية بلزاك.

   أما كتابه الآخر: ”دي ماريفو وبنية سجله الثنائي”، فقد سلط الضوء على تعقُّد ماريفو انطلاقا من فرضية بناء نسقي مضاعف، سواء في رواياته وكذا المسرح. بالنسبة إلى الروايات، يتعلق الأمر بتداخل لحظتين على مستوى حياة السارد مما أتاح له الإفصاح باستمرار عن نظرة وكذا موضوعها وبما أنها محكيات وظفت ضمير المتكلم المفرد،تصب تلك ثنائية صوب وحدة. يحشد الكاتب مختلف اللحظات: ”لدى نفس الكائن بأن يقحم المسافة التي باعدت” بين حاضر الشخصية وماضيها(60). أيضا، يتحقق انتقال هذا النسق ضمن النصوص المسرحية. تتطور حسب روسي، شخصيات الكاتب دي ماريفو في إطار ثنائية تدريجية: ”من جهة، ابتهاج القلب بالذات ومن جهة ثانية الوعي المتفرج”، بينما تتوزع غالبا الوظيفتين شخصيتان (البطل والشهود) أو بين مجموعتين من الشخصيات.

   بالنسبة لروسي، تتبدَّى الخطاطة البنيوية لمسرحيات دي ماريفو مثل: ”هيكل متدرج تتقارب خطَّتاه تدريجيا غاية انضمامهما التام. تنتهي المسرحية حين تداخل المستويين بمعنى خلال لحظة يتأمل أثناءها أبطال المسرحية ذواتهم مثلما ينظر إليهم هؤلاء المتفرجون. النهاية الفعلية، ليس الزواج الذي يطرح كتعهُّد عندما يسدل الستار، بل لقاء الفؤاد والنظرة”(61).

   تعانق نظرة روسي قرونا عديدة، عبر صفحات مصنَّف مقالاته، بناء على دراساته لفلوبير وبروست: في رواية مدام بوفاري، تحدِّد تيمة النوافذ وكذا المناظر الفوقية التأمل الشارد، بينما نلاحظ انتظام التحليل حول تيمة الكتاب عند بروست (كتب بجوار مخدَّة السارد، القراءات المأثورة عند أمه وجدِّه، الكتب النموذجية) مما يفضي إلى خلاصة مفادها أنَّ البنية التعميمية للكتاب تقدم مفتاح دلالته.

   أنجز روسي في كتابه: ”الأدب في فرنسا خلال العصر الباروكي”(1953)، تركيبا بارعا بالانطلاق من التصنيف الباروكي الذي وظفه تاريخ الفن. تقرَّر التحديد الزمني للمتن خلال حقبة (1580- 1670)، فانتظمت الدراسة حول التيمات الكبرى للعصر الباروكي، وقد حدث التحول، بما ترمز إليه المرأة المخادعة وكذا التباهي الذي يجسِّده الطاووس.

   قوربت بعض الأنواع في إطار علاقتها العضوية مع  التيمات المميَّزة. يبدو أساسا روسي مرهف الحس نحو التداخلات بين مستويات نصوص أدبية مختلفة تتعقَّد غاية اللانهائي مع أشكال باروكية: ”بين بطل يعامَلُ مثل لعبة وكائن تحولات وكذا تركيب متصدِّع، منفتح منتظم حسب مركز متعدِّد. تتضاعف الحركة، يتمدَّد الزمان، تنكسر الخطوط، يتشابك الأبناء، يتنقل الممثلون، ينمو المضمون الدرامي، يقدم انطباعا بخصوص حركة التعقيد وكذا الحمولة الزائدة”(62).

   بفضل اللائحة التي تستعرض الأسباب الرئيسة المنطوية على المعنى (الحركة، الماء، النار، الشعلة، الغيمة، قوس قزح، الفِرار، الموت)، يكشف الناقد عن خلفية بأكملها متوارية بين الأعمال، ذات أساس من المخاوف، والآلام وكذا المشاهد الحزينة. 

   في أعقاب التحليل، يقترح معايير أضفت مسحة باروكية على النصوص التي درسها: التقلُّب، الحركة، التحول، أهمية المنظر والتأثيث. لاحظ روسي استمرارية بين الفنون الجميلة و نصوص العصر الباروكي، وكذا هيمنة وجهة نظر بصرية على الأعمال الأدبية. بناء على أبحاثه،يعثر الباروكي على وضعه المهيمن إلى جانب الكلاسيكية ويتحدَّد الاثنان من خلال علاقتهما بالحركة. ستكون الكلاسيكية أساسا في موقع التصادم مع الباروكية: ”بدل تقديم نفسه مثل وحدة متحرِّكة لمجموع متعدِّد الأوجه،يحقق العمل الكلاسيكي وحدته بتثبيت كل مكوناته تبعا لمركز ثابت”(63) .

   أتاحت هذه المقاربة التيماتيكية الجديدة، أمام جان روسي كي يكتشف أو يعيد اكتشاف كُتَّاب فرنسيين ضمن دراسته: ”مختارات من الشعر الفرنسي خلال العصر الباروكي” (في جزأين، (1961 ثم يعيد رسم لائحة الحقبة التي ظلت قبله متحجِّرة ضمن كتب التاريخ الأدبي.  

   في كتابه الآخر: ”التقت أعينهم”(1973) ، انصب اهتمام الناقد على التيمات الثابتة، التي تعكس بامتياز، وضعيات، أبطال،عناصر مشتركة بين نصوص عدَّة، كي يبرز من خلال ذلك شكلا ثابتا نعاينه في أغلب الروايات على امتداد قرون، فأضحى مشحونا بالمعاني حسب الفترات والكتَّاب.

   ميزت هذا الكتاب النظرة الأولى، الحبُّ من أول نظرة بين العاشقين القادمين، شروط اللقاء الأول الذي يبرمج مستقبلا كل الرواية في نظر جان روسي إذا أمكننا أن نستخلص من ذلك قانونا دائما، وكذا مقارنة تغيرات شفرة القاعدة الأساسية. أرسى تلك الشفرة على ثلاثة مفاهيم: التأثير، التبادل وكذا العبور حسب التحديد التالي للدوافع التيماتيكية التي تشبه: ”نواة دائمة فيما يبدو تتفادى التغيير أو هي النواة الحكائية”.

   بالنسبة للقاءات،فقد استخلص تغيرات نموذج نظري تؤلِّفه ثلاثة مفاهيم: التأثير، التبادل، العبور.أمكنه بخصوص هذه القاعدة النظرية، وضع جداول تركيبية حول مجمل الكوميديا الإنسانية لبلزاك. ثم تحديده خلاصات عبر فهرسة كل مشاهد اللقاء الأول، بالنسبة لكل تطور نواة الحكاية السردي، كما لو أنَّ هذا المشهد سيمثِّل نوعا من التكثيف لمجمل الرواية. 

هاهي بعض الأمثلة عن ”النظرة الأولى”، مستلهمة من روايات كتبت بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر:

-التبادل المبهج (تيوفيل غوتيه: رواية القائد فراكاس)

-صعوبات التبادل:

-تواصل أحادي الجانب(بلزاك: زنبق الوادي)

-تواصل معاق (مدام دي لافايت: الأميرة كليف)

-تواصل مؤجل (ستاندال: لوسيان لوين).

   يقترح روسي في عمله  ”أسطورة دون جوان” (باريس،1978)، بالاعتماد على نفس المنهجية، بلورة سيناريو دائم يعكس: ”إطارا ثلاثيا كحد أدنى”، ترسم أبعاده: الموت، النساء، والبطل.ما إن تتحدَّد بنية الأسطورة، نسافر بحرية عبر تحولات نوعية وتيماتيكية لعناصر مستمرة كي: ”نضفي حياة ونَفَسا على نسق معروف سلفا ويتم تعريفه ضمن جموده”.   

   بينما أظهر بحثه: ”نارسيس الروائي”، عودة نحو صيغ ضمير المتكلم المفرد في الأدب ويقدم تصنيفا لهذا النوع من السرد. يرتِّب حسب وضعية السارد،النظام الزمني وكذا المنظورات الروائية التوليدية،مما أتاح له تأسيس نظام كامل بالنسبة لهذا النوع من السرد.

   أما الكتاب الأخير لجون روسي ”القراءة الحميمة” (1986)، فقد ارتكز أساسا على جمالية التلقي وسنتحدث عنه في مبحث مستقل. 

   تبني جان ستاروبنسكي خيار العودة إلى نقد الوعي، أو سياق تخصصات متعددة تفرض مرجعيات تشمل الطب، التحليل النفسي، اللسانيات، الفنون، وكذا حقول أخرى تنتمي إلى العلوم الإنسانية.

   اهتم بنصوص كتَّاب مثل: مونتين، كورني، راسين، مونتسكيو، جان جاك روسو، ستاندال، بودلير، إلخ، فسافر بين القرنين السابع عشر والعشرين، علما بأنَّ حقبة إحالته اتجهت على وجه الاحتمال إلى القرن الثامن عشر مع روسو ومونتسكيو: ”شعارات العقل” و”ابتداع الحرية”.

   نكتشف تصوره لاشتغال النقد الأدبي، في مقدمة كتابه ”العين المتوقِّدة ”تحت عنوان ”ستار بوبايا”.هنا استفاض تطويره لشعرية النظرة: ”يتعلق الأمر بالنسبة إلى النظرة، الاهتداء بالفكر أبعد من مملكة المرئي: نحو مملكة المعنى”(64). ينبغي على الناقد مراعاة مسافات حيال الموضوع قصد الاحتفاظ ”بحق النظر” و بلوغ المعنى المضمر تحت دلالات جليَّة.

   المطلوب من النظرة تساميها الواعي عن مصيدتين:

   أولا، عدم التِّيه خلف”الوعي الرائع الذي يوحي به العمل”، بحيث قد يثير انجذابه منطلقا به في تجربة حسية وذهنية. إذا استسلمت لهذه المحاولة، تصبح تحت سلطة محاكاة مطلقة تسيء إلى موضوعها.

   ثانيا، يكمن الخطر الآخر في ابتعادها بكيفية مفرطة،مما ينتهي بها رهينة: ”منظور بانورامي”، يجعلها تائهة وسط مضمار فسيح، يفقدها سياق رؤية العمل في ذاته.

   يدرك النقد المثالي كيفية التوفيق بين الطرفين ويمزج مجموع ذلك عند حميمة حركة ديناميكية، دائمة التغير وكذا المنظورات.

   اهتمت الأبحاث التي انطوى عليها كتاب ”العين المتوقِّدة”، بدراسة تيمة النظرة لدى العديد من الكتَّاب والسعي ضمن هذا الإطار نحو إرساء منظورهم إلى العالم. أقدِّم إشارة مأخوذة من ”راسين وشعرية الرؤية”حينما قارن جان ستاروبنسكي بين أبطال كورني وراسين، لكن وفق وجهة نظر استثنائية على مستوى موضوعة النظرة:

   ”يمثِّل الكون شاهدا على بطل كورني. يعرف بل ويرغب أن تستعرضه عيون مختلف الشعوب على امتداد قرون. يستدعي نحوه جلّ أنظار العالم: يقدم ذاته كنموذج مبهر،منبع للصفاء. يتوخى بطل كورني، من خلال كل هذه الحركات، أن تتم رؤيته مثلما هو: يتجلى فورا، مشهد قراره، مجهوده الداخلي. بفضل النظرة، تضاعف لديه كل شيء ”(65). 

    تتجلى النظرة عند راسين بكيفية مختلفة، دون أن تفقد أهميتها: “تحظى النظرة لدى راسين بأهمية. لكن قيمتها ودلالتها مختلفين تماما.نظرة تفتقد للكثافة، بل الامتلاء،بحيث لايمكنها الحيلولة دون إمكانية تنصل موضوعها. يظل فعل أن ترى، بالنسبة لراسين، مسكونا  بالتعاسة. أن تكون تحت سلطة رؤية لايستتبع قط المجد، لكن الخجل. مثلما يتبدَّى، في إطار اندفاعه المتحمِّس، لايمكن للبطل الراسيني إقرار ذاته، ولا أن يكتشفه منافسوه. يعمل في أغلب الأحيان، كي يتحايل على نظرة الجميع، التي تشعره بالإدانة سلفا ”(66).  

   تقترح دراستان ذكيتان إعادة بناء النظام التيماتيكي خلال القرن الثامن عشر، كما تشملان أيضا تاريخ الأفكار، التاريخ الثقافي، الفنون والآداب.تراهن على تعبير عصر الأنوار قصد تمييز ”لذَّة النظر”: ”هكذا اتسم العصر المتيَّم بالأنوار، الصفاء، الشفافية، العقل، فبدت إجراءاته متصلة عن قرب بإجراءات النظر. والحال يعتبر الأخير أكثر قابلية للتمدُّد مقارنة بباقي حواسنا: ينتقل بنا بعيدا، بحركة مكتسحة. لاحقا،لن يكفيه قط العالم الحسي بفضل نجاح العقل نفسه. وضوحه، يقتفي آثاره فيما وراء التجليات الظاهرة؛ ويستشرف أهدافه عند مقدمة اللحظة الحسية. رغبتكَ، يعني أن تستشرف، وترى ما لم يتحقق بعد، عبر المعطى. عندما ينتصر أسلوب الإرادة، تغدو الأشياء وسائل غير محبوبة في ذاتها”(67).

   اهتم جان إيف تاديي بكل تفاصيل علاقة جان ستاروبنسكي بالتحليل النفسي وكذا فرويد، بحيث اهتم كتابه ”العلاقة النقدية” بتقديم توصيف عن مؤسِّس النظرية خلال فترة اشتغاله على بلورة أسس عقدة أوديب.

اتضح لدى تاديي بأنَّ جان ستاروبنسكي عالج موضوعه مثلما يفعل مع كاتب وكذا عمل أدبي ويضفي نسبية على الأطروحات الفرويدية مع احتفاظه بمسافة نقدية معتبرة. لقد تبيَّن له من خلال باقي مؤلفات الناقد البارعة، تطبيق ستاروبنسكي للنقد التيماتيكي بكيفية متسقة ضمن مضمار متحرِّك حتى يضفي بداهة على كل كاتب درسه و”يعيش ثانية” ”المسار”، مثلما اقترح قبل ذلك حول مونتين الذي تنبغي”مقاربته ضمن حركته المتكررة والمتنوعة بكيفية لانهائية”.

*جان بيير ريشار:

   تكمن صلات بين جان بيير ريشار وكذا النقد التيماتيكي ثم نقد الوعي، دون انتمائه لأيِّ منهما. ارتبط على نحو وثيق بأفكار جورج بولي، لكنه بدا أقل ذهنية من المفكر البلجيكي بحيث يمارس توجُّسا حسيا وملموسا نحو العالم. أحاسيس جوهرية تقدم مجالها بخصوص التحليل المميز: يبحث عن المستوى الأولي، ذلك المتعلق بإحساس خالص، إحساس خام، أو الصورة بصدد الولادة (القصيدة والعمق، باريس 1955).

   لم يتوقف جان بيير ريشار، منذ كتابه الأول (الأدب والإحساس) (1970)، عن اكتشاف مبدعين وموضوعات بقيت خارج حقل اهتمام النقد الجامعي، مثلا ”المرعى” عند فلوبير، دوخة التحول عند البطل الفلوبيري الذي يشيخ بحسبه ضمن”عدم استمرارية فوضوية لتحولاته”.

   كتابه الأهم خصَّصَه إلى مالارميه، وأوضح بجلاء مسار جان بيير ريشار. دراسة جعلتنا نعيش ثانية معطيات السيرة الذاتية تبعا لمنظور التيمات التي تهيكِل العمل. تشعرنا سلفا بهذا النزوع تلك الفصول المندرجة ضمن السرد البيوغرافي: “التأملات الشاردة العاشقة”، ”النور”،”ديناميكيات وتوازنات” إلخ. يقتفي خطى التراث الباشلاري الكبير عندما يقارب”علاقات الرؤيا العاشقة بالتأمل الشارد المائي”. تكشف قراءته الحسية والنقدية عن تقمص وجداني استثنائي، يظهر على امتداد صفحات الكتاب، ثم تنبجس البراعة من خلال المقطع التالي: ”في الطريق، وحده النبات، يكابد ندرة الأشجار، تتشابك أعصاب عارية للحائه المؤلم: يرافق نموها المرئي بلا نهاية، رغم غرابة سكينة حركة الهواء، شكوى ممزِّقة مثل عزف الكمان، تبلُغُ بأغصان موسيقية منتهى الأغصان المرتجِفة ”.

  يردِّد هنا دويُّ الكمان بروعة الانفعال العصبي البودليري: لانعلم قط إذا كان يبعث صياحه اللاذع على إيقاع معْي قطة أو عُرْي مسلوخ لجذع جديد. لكن خاصة يرسل موسيقاه في غضون نمو،غاية أقصى نشوة غصن، ذروة شكل تتيح غالبا أمام مالارميه حدودا مفتوحة بين الموضوع وفكرته.في مكان آخر، الشجرة مبعثرة إلى أوراق حمراء، تتفكَّك ببطء موسيقيا. يظل هذا الاندحار رغم كل شيء مؤلما. يصاحب أنين الكمان الممزِّق رجفة أوراق الشجر، موحيا ربما بالألم الأخير لموضوعية تستدعي الانفصال عن المادة، والتي تدعمها  غاية الآن، كي يتحقق انتزاع الذات بكيفية أفضل على نحو مثالي”.

   يتقاسم جان بيير ريشار مع الآخرين، الاعتقاد بضرورة تطلع النقد نحو تحقيق التماثل مع الذات، ديناميكية فكرية تخلق ثانية بدل أن تصف، وتنطوي على مجازفات، لكنها تصير المنهجية الوحيدة الأصيلة لمقاربة المبدعين: ”بدل البقاء عند عتبة العمل، أسعى في المقابل نحو الزواج بامتداداته. يتخذ النقد في نظري طابع عبور، وليس مجرد نظرة أو محطَّة. يعبر مسالك مناظر يفتح تطورها منظورات، تتكشف، وتتجلى. قصد تحاشي سقوط الناقد بين براثن لامعنى المعاينة، أو الاستسلام كي يمتصه الحرف الذي يتوخى النفاذ إليه، يلزمه التقدم دائما، يضاعف باستمرار زوايا التقاط النظرة. يتجنب السقوط بفضل اندفاعه، على هدى متسلقي الجبال خلال بعض المسالك الوعرة. إذا تجمد في مكانه، يؤدي به الوضع إلى السقوط، سواء على مستوى إعادة صياغة النص أو الاعتباطية(68) .

   الحركة والاندفاع المبدع، باعتبارها محرِّكات لكل بحث تيماتيكي، بالتالي يظهر واضحا، أنَّ نقد المبدعين أو النقد المبدع لحُكَّام الأدب، لازال بعيدا عن استثمار الممكنات المتسترة لهذه المقاربة الشعرية.

     هوامش المقالة:

*مرجع المقالة:

Ilona Kovacs :introduction aux méthodes de la critique littéraire ;Budapest . 2006

Page :42-59.

(55) الشكل والدلالة : باريس، جوزي كورتي ،1962،ص 10

(56) نفسه ص 16 – 17

(57) نفسه ص 10

(58) نفسه ص 13

(59) نفسه ص 23

(60) نفسه ص 52-  53

 (61) نفسه ص 58

(62) نفسه ص 135

(63) نفسه ص 192

(64) العين المتوقِّدة: دراسات حول كورني، راسين، روسو، ستاندال، باريس غاليمار1961 ،ص 15

(65) نفسه ص 71

(66) نفسه ص 210

(67) نفسه ص 210

(68) عالم مالارميه المتخيَّل، ص 35 

 

Visited 5 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي