حياة الإنسان بين الحرية والمسؤولية
سعيد بوخليط
أبرز الوجوديون بقوة نحو مضمار التفكير اليومي، مسألتي الحرية والمسؤولية، في خضم تكريس أفق أولوية الوجود عن الماهية،فاختاروا بذلك الوجهة المناهضة كليا لمختلف الأنساق الميتافيزيقية؛ ذات المنحى الثيولوجي أساسا، التي تجعل مصير الإنسان رهينة سلبية، دون إرادة عاقلة، لمنظومات قائمة سلفا، دائما وأبدا، تحدِّد استبداديا وشموليا بكيفية مبدئية وجهة الإنسان و تغتال قبل الولادة مشروعه الحياتي.
هكذا، بفضل إشارة الوجوديين، استعاد السجال الفلسفي الحديث مسألة حتمية تخلُّص الإنسان، أخيرا، من أنساق القَدَرية الخانقة والتواكل والسلبية ونمطية الحياة، نحو عوالم أخرى قوامها مركزية الذات ضمن نواة العالم وسيادتها الحرة، الواعية، على انبعاث ممكناتها، ثم استعدادها الإرادي كي تتحمل مسؤولية اختياراتها بكيفية مطلقة دون تأفُّفٍ ولا تخاذل.
طبعا، يستحيل البتة إغفال شروط العوائق الموضوعية، التي تسطو على الفرد كي تضعه وفق خلفية مقصودة بكيفية حتمية، ضمن مقتضيات نظام معين. غير، أنَّ قيمة الإنسان الحقيقية وحقيقته الأصيلة، تتجلى فعليا في مدى قدرته على بلورة تعبيرات ذاته ضدا على مختلف السياقات المضادة. ربما، اتخذ ذلك،كساء توفيق تكتيكي واستراتجي أو تماما قطيعة جذرية، حسب نوعية المرجعيات المتبناة من طرف الشخص ونوعية بناء شخصيته ومستويات شجاعته وكذا حدود قدراته الذهنية والنفسية.
إذن، رغم مختلف كوابح المنظومة الموضوعية، مجتمعيا وفكريا، المستوطنة بقوة خارج الذات، كي ترسخ في كل الأحوال، جملة عوائق مادية ومعنوية، أمام تحقيق وتحقُّق الحرية الإنسانية، بصيغة سوية، مكتملة النمو، متوازنة المناحي، فينبغي على الإنسان البقاء حرّا، مهما حدث، يحيا ممتلئا بحياته، يموت راضيا على يوميات مروره من هذا العالم، وقد نجا أخيرا بحياته، من حوادث موت اختزاله اعتباطيا إلى توافق مجتمعي بعينه.
وحدكَ أيها الفرد، يقع على كاهلكَ مآل مصير حياتكَ. أعظم دليل ملموس بخصوص هذه المعادلة، استحالة تحمُّل شخص ثان بدلا عنكَ، أوزار الاختبارات الوجودية النوعية، والوقائع الفردية المفصلية، يكفي استحضار معاناة المرض بمنحييه الفيزيائي والنفسي، وتراجيديا الأوجاع عموما، غاية منتهاها الأكبر، المتمثِّل في الموت. لن يموت أحد مكانكَ. بعد كل شيء، سترحل وحيدا. وحدها، المحن تشكِّل فيصلا بين معاني الحياة.
مقابل هذا الوضع، ربما حضر طيف الآخر دائما، بشكل من الأشكال، تبعا للسياقات العادية، وكذا احتمال تقاسمه عبء مايجري بناء على معايير زخم حِسِّه الإنساني، بيد أنَّ مستوى التماثل الوجداني المفترض، يظلُّ في النهاية محتملا ونسبيا، غير مضمون بتاتا، أو يمكن الرهان عليه كليا. عموما، لا تراهن سوى على ذاتكَ. لاتنتظر رحمة من أحد.
مهما بلغت كمَّاشة الظروف الموضوعية، مهما تعاظمت مقتضيات الفضاء المجتمعي، فلا قيمة تذكر للفرد إذا لم يناظر واعيا، مختلف ذلك، ملوِّحا بنموذج حياته الشخصي الذي يعبر عن ممكنات هويته الذاتية. يجسِّده باعتباره نموذجا قائما بذاته، يدافع عن مشروعه الوجودي الخاص، مثلما الشأن بالنسبة لباقي الذوات الأخرى.
بالتأكيد، يتعلق كل نموذج حياتي بجدارة حامله، يقدم في نهاية المطاف وجهة نظر صوب الحياة، ومنظورا بعينه، بالتالي تدافع زمرة نماذج كي تحقق من الحياة ماينبغي لها النَّهل منها، وتشعر بأنها حياة سخية، مطواعة. إذن، بناء على منطق الحياة نفسها، يتمتع كل شخص بحرية العيش وفق الأسلوب الذي يراه ملائما لوجوده، ولا يملك الآخر سلطة ضمن هذا المضمار. الشاهد الوحيد، تبلور جدلية مبدعة بين الحرية والمسؤولية، حتى لايبدو التأويل تائها وفضفاضا حدَّ التضليل، يبتغي فقط سوفسطائية التِّيه والخلط، وجب التأكيد باستمرار على أنَّ كل نمط حياتي يظل مستساغا ومقبولا جملة وتفصيلا، إذا حكمته مرجعيتي الحرية والمسؤولية: أنتَ حرّ بكيفية غير قابلة للجدل، يعني تحملكَ منتهى اختياراتكَ بمسؤولية راشدة.
أغلب البشر ليسوا أحرارا، و لاقدرة لهم على الانحياز إلى وازع الحرية بمسؤولية، بل يخضعون عُرْفيا فقط لما يجري، قد يتحقق ذلك بدون رغبة، أو ربما برغبة، لاأدري، لكنها بلا نكهة ولا ذوق، رغبة رمادية اللون أقرب إلى مذاق الحنظل.
يمتثلون علانية وضمنيا لسلط موضوعية عدَّة،أخذت سلفا تجليات أضحت حاليا كلاسيكية، اشتهرت بفظاظتها المادية المباشرة كما الشأن مع الأنظمة الشمولية السياسية والدينية والاجتماعية، التي ناشدت بالمطلق إنسانا حَجَرا محكوما فقط ببعد واحد.
تطورت هذا الصنف المرعب، نحو قبضة ماكينة ميكروفيزيائية منسابة خيوطها هُلاميا بطرق مُخْملية، تشتغل بآليات سحرية جدا، بإيماءات الجنِّ، كما الحال بالنسبة لمنظومة الاستهلاك الجشعة المدمِّرة لصفاء الإنسان ثم حيل ومكائد المقتضى الرقمي الذي لَوَّث جوانب كثيرة من العمق الإنساني.
وضع مختلف يستدعي ويقتضي، من الذات ذكاء وجوديا ثاقبا للغاية، متيقظا، كي لايقع المرء فريسة سهلة تحت قبضة هذا المثيرات الجديدة، ويحافظ على حريته الداخلية.
ليس الحشد بالضرورة على حق، كما أن الفرد لا يكون دائما صائبا، لذلك تكمن الحلقة المفقودة بخصوص توازن المعادلة العويصة، في كيفية تنظيم تلك العلاقة من خلال المحافظة على أولوية اختيارات الذات واحترامها، ثم في نفس الوقت احترام حياة الآخر. أساس الأفضلية والتميُّز، حرية الاختيار بوعي وجودي، ثم الشغف بهذا الاختيار.
هنا، نواة خيوط السعادة التي يتطلع نحوها الجميع، أي الانطلاق من الذات والعودة إليها، يتوارى كنهها خلف العثور على معادلة الحرية والمسؤولية.
لا توجد قيمة بديلة تشكِّل في ذاتها ثروة أبقى للإنسان، ولو امتلك الأخير العالم برمته، إذا انعدمت حريته، بل إن رحابة هذا العالم أو ضنكه، تتصلان عن كتب بإشباع مدى الحرية أو بالعكس تضاؤلها، لحظتها تكبر تعاسة البشر وتغدو حياتهم بلا معنى. فقط، تدور عجلة الزمان بلا طائل كي يلتهم بجنون حضوره.