شوشو .. عبقري الكوميديا أقلقته المدينة والحرب أحرقت ما تبقى (2)
د. إبراهيم حلواني
الجزء الثاني: دور محمد شامل والتعبير الفكاهي عند شوشو
في الجزء الأول كتبتُ عن حسن علاء الدين ومواهبه الفطرية في التمثيل وفن الإضحاك وبداية بنائه لشخصية “شوشو”. لمّحتُ إلى غنى حركاته ومهاراته في الارتجال والابتكار، وشددت على قوة اندفاعه ومحاولاته الحثيثة المبكرة لتحقيق ذاته وكيف أنّ تلك المحاولات سيكون لها تأثيرها البالغ في بناء شخصية شوشو القادمة في المستقبل.
اللقاء مع محمّد شامل
أولُ لقاء بين محمّد شامل وحسن علاء الدين كان سنة 1960، أو قبلها بأشهر، أو بعدها بأشهر.
مقالاتٌ كثيرة في الإنترنت تذكر أنّ أول تعارفهما كان سنة 1965، ذلك خطأ انتشر بسبب عمليات نسخ متكررة عن خطأ أوّليّ. في الواقع أمضى حسن علاء الدين سنوات تحت رعاية شامل قبل أن يؤسس المسرح الوطني مع نزار ميقاتي سنة 1965.
من المعروف أن حسن علاء الدين، في بداية تفتحه و”صبيناته” في عالم الفكاهة، دعا شاملا لمشاهدة أعماله، وأصرّ في دعوته. في البداية، لم ينبهر محمد شامل كثيرا بالشخصية الفكاهية الجديدة، ولكن حسنًا أصر على ملازمته حتى أقنعه.
شكل محمد شامل عتبة الانطلاق في مسيرة حسن علاء الدين الفنية. بدأ بإعطائه أدوارًا بسيطة ثم دورًا في “يا مدير” في الإذاعة.
وفي أوائل الستينات، أطلقه في برنامج دنيا الأطفال على شاشة تلفزيون لبنان. كثُرٌ يذكرون عبارته الممغوطة “كيفك يا شخص”.
لم تمض أشهر على ظهوره التلفزيوني الأول حتى عشقه الصغار والكبار وراحوا ينتظرون إطلالته الأسبوعية، أو النصف أسبوعية، … وكنتُ وإخوتي من المنتظرين.
بعدها راح شامل يكتب له اسكتشات للإذاعة ثم عددا من البرامج التلفزيونية، منها يا مدير وشارع العز، كما أطلقه في السينما في فيلم “شوشو والمليون”.
استمرّ في عمله مع محمّد شامل لثماني سنوات تقريبا، من 1960 إلى 1968 حسب تقديراتي.
في النصف الأول من الستينات تزوج حسن علاء الدين من السيدة فاطمة، كريمة محمد شامل، ورزق منها ثلاثة أولاد.
القصة والحوار ودور محمّد شامل
تأليف القصة والحوار شرطان أساسيّان لنجاح العمل الكوميدي.
في بداية مسيرته المهنية منذ عمله في الإذاعة والتلفزيون ترك حسن علاء الدين مهمة القصة والحوار على عاتق معدّ البرامج، الكبير محمّد شامل. ولكني أسارع إلى القول إن حسنًا، في أعماله المسرحية بعد الـ 1965، كان يرتجل بعض العبارات معدلا في الحوار أحيانا، مضيفا “قفشاتٍ” من خواطره، ما كان يزيد من متعة الحضور.
القصة والحوار من المهمات الصعبة في فنّ الإضحاك.
ابتكار القصة صعب، ابتكار المواقف الطريفة صعب، كلّ لقطة يجب أن تكون مضحكة، كلّ عبارة يجب أن تنسجم مع الموقف، كلّ كلمة يجب أن تكون لها وظيفة. حتى اختيار أسماء الشخصيات فن دقيق بحد ذاته، وقد أتقنه شامل إلى أبعد الحدود.
كان من حظ حسن أن الأقدار أخذت به إلى حضانة شامل، وقد شارك حسنٌ بصناعة تلك الأقدار. وأقول إنّ حسنًا كان محقّا في إصراره على ملاحقة شامل. فمحمّد شامل يُعتبر من القلة الذين يستطيعون الابتكار في مجال الترفيه والكتابة فيه بغزارة، وقد وفّر برامج إذاعية وتلفزيونية شكلت فرصًا ذهبيّة أمام حسن علاء الدين لكي يطل علينا بشخصية شوشو ثم لينطلق بسرعة صاروخ في عالم النجومية.
هل كان شوشو مقلِّدا؟
يُذكر في المراجع أن حسن علاء الدين تأثر في فتوّته ببشارة واكيم وإسماعيل يس وشارلي شابلن. ذلك معقول وليس بغريب.
هل كان يقلّد أحدا منهم؟ … في أدواره في الإذاعة والتلفزيون ثم في مسرحياته لا يبدو أنه كان يقلّد أحدًا من أولئك الكبار. غير أنّي أعتقد بقوة أنّه تأثر بطرائقهم وتعلّم منهم كيف يكوّن شخصية فكاهية ناجحة خاصة به.
وللأمر وجهٌ آخر … عادة عندما تتفجر موهبة لأول مرة في عمل فنّيّ فهي تأتي تقليدًا لأعمال سابقة. لذلك أفترضُ أنّ حسنًا، ربما، بدأ بتقليداتٍ صوتية لفكاهيين استمع إليهم عبر الإذاعة.
هنا تستوقفني شخصيّة “عبد العفُوّ الإنكشاري” التي كان يؤدّيها عبد الرحمن مرعي في الخمسينات، في برنامج “شامل ومرعي” الإذاعي: رجل ساذج يتعامل مع الناس بشيء من البساطة والغباء.
ما زلت أذكره، أي مرعي، بلهجته البيروتية “ينجلق” بصوته ويمطّطُ فيه ويُرنّحه تبعًا للمواقف.
الحركات الصوتية عند شوشو، خاصة في بداياته، كانت قريبة جدا من مثيلاتها عند عبد العفوّ الإنكشاري.
لذلك أفترض أن حسنًا ربما قلّد إلى حدّ ما تعابير ذلك العبد العفوّ اللفظية.
المهمّ في الأمر أنّ حسن علاء الدين تابع بإصرار بناء شخصيته الفكاهية المستقلة حتى طلع علينا بـ “شوشو”: شخصية فريدة من نوعها، لا أعرف ولا أنتم تعرفون، شخصية تشبهها أو حتى قريبة منها.
من صَنَع شوشو، محمّد شامل أم حسن علاء الدين؟
يخطئ من يقول إن شخصية شوشو ابتكرها محمّد شامل.
نعم، شامل فتح الطريق أمام “شوشو” وهو الذي أطلق الإسم “شوشو”، ورعى حسنا واحتضنه ووجّهه وعلّمه الكثير.
ولكن من المنصف أن نعترف لحسن علاء الدين بجهاده وقدراته الفنّيّة وأهليته وسعيه إلى النجاح.
وإذا كان شاملٌ استمرّ في إسناد الأدوار إلى حسن في المسلسلات التي كان يُعدّها، فذلك لأنّ حسنًا كان يثبت جدارته وكان يستقطب، يومًا بعد يوم، المزيد من النجاح ومن إعجاب المشاهدين… حتى أني أعتقد أن شاملا هو الذي أمسى يلاحق حسنًا ليعمل معه، وليس العكس.
أقولها بكلّ اقتناع: حسن علاء الدين هو الذي بنى “شوشو”.
أدعو القارئ الكريم إلى الرجوع إلى طفولة حسن التي فصّلتُ عنها في الجزء الأول ليجد السند والبرهان فيما أزعم.
عندما تعارف الرجلان، حوالي 1960، كان حسن علاء الدّين قد أمضى طفولته وفتوّته في بناء أسس شخصيته الفكاهيّة. ولم يكن صعبًا على النقّاد الذين شاهدوا “شوشو” في أوائل إطلالاته التلفزيونية أن يدركوا أنّ هذا الوجه الجديد لم يكن مبتدئا، بل كان يحمل خبرة إلى جانب موهبة متّقدة.
لا شك أن وجود حسن في كنف شامل كان مفيدا له، بل كان بابَه إلى عالم الفكاهة الواسع. ذلك أنّ شاملا كانت له، إضافة إلى قدراته في القصة والتأليف الإذاعي، خبرة معروفة في الإخراج والتمثيل تعود جذورها إلى أكثر من ثلاثين خلت قبل تعارف الرجلين.
لماذا انفصل حسن علاء الدين عن محمّد شامل؟
في أواسط الستينات، نشأ خلاف بين محمد شامل وحسن علاء الدين، ولعلّ من أسبابه زواجُ حسن من ابنة شامل الذي لم يكن راضيا عن هذا الزواج.
من جهة أخرى، عندما كان شوشو يؤدّي أدواره في برامج شامل التلفزيونيّة، طلب إلى شامل أن يكون له الدور الرئيس فيها، غير أنّ شاملاً أصرّ على التوازن في توزيع الأدوار.
في اعتقادي، مهما كانت الأسباب الظرفية، فإنّ انفصال حسن عن شامل كانت له دوافع أخرى خفيّة وقويّة:
ـــــ الموهبة عند حسن ما زالت طاغية متفجرة تريد أن تأخذ مداها.
ـــــ حنين حسن إلى نجاحاته الأولى أمام رفاقه وأهله والجمهرات العفوية في الأحياء المجاورة وخشبات المسرح القديمة، ما زال يُذَكره بطعم النجاح أمام الجمهور ويدفعه إلى هناك.
ـــــ رغبة حسن بالانطلاق بسجيّته وعفويته في التمثيل الفكاهي بدون شكليّات التمثيل وقيود المخرج وشروط الإذاعة أو التلفزيون وجموديّة المكان.
ـــــ العودة إلى التواصل مع الجمهور المتفرج الصاخب المقهق المشجع، والتمتع بإثارة إعجاب المشاهدين وعيش انفعالاتهم وسماع إطراءاتهم.
ـــــ أضيف إلى ذلك السبب المادّيّ. فمن حقّ حسن أن يطمح إلى تحسين تحصيله المادّيّ انسجاما مع إيمانه بقدراته وقيمته الفنية. وأعتقد أنّ طموحه كان يُصوّب على ذلك.
في مقالة الغد: الجزء الثالث والأخير (التعبير الفكاهي والتمثيل المسرحي عند شوشو).