شوشو .. عبقري الكوميديا أقلقته المدينة والحرب أحرقت ما تبقى (3)
د. إبراهيم حلواني
الجزء الثالث والأخير: التعبير الفكاهي والتمثيل المسرحي عند شوشو
قرأنا بالأمس قصة اللقاء بين شامل وحسن علاء الدين، وعن دور محمد شامل في انطلاق شخصية “شوشو” وتحضيره للدخول في مجال الأعمال الإذاعية والتلفزيونية الكبيرة. كما شددنا على مواهب حسن الذاتية وطموحه الجارف ودوره في صناعة “شوشو”. خرجنا بالنتيجة أنّ حسن علاء الدين هو الذي بنى “شوشو”، دون إنكار الدور الكبير الذي لعبه شامل في ذلك. نوجه اليوم صوب الخصائص المميزة التي تمتع بها شوشو والتي جعلت منه ذلك النجم الكبير.
التعبير الفكاهي
الفكاهي الناجح يتميّزُ بطريقة تعبير خاصة ناجحة: قد يكون التعبير بالحركات أو بالصوت أو بردود الفعل.
التعبير الذي أشير إليه يختلف عن التمثيل ولو أنه يتقاطع معه. في التعبير الفكاهي يأتي الممثل بحركات وأصوات وانفعالات غالبا ما تخرج عن السياق الطبيعيّ وتكون نافرة مضيئة على جوانب معيّنة وتطرح مفاجآت وتحدّيات “منطقية” أمام المتابع.
في التمثيل تكون حركات الممثل طبيعية تقوم على التقليد وتقمّص الشخصية.
الفرق بين التعبير الفكاهي والتمثيل كبير: الأول رسم كاريكاتوريّ والثاني تصوير فوتوغرافيّ.
سيد التعبير الفكاهي في العالم هو شارلي شابلن، لا منازع. استغنى عن الصوت واكتفى بحركة مدروسة غنيّة وقويّة.
التعبير الفكاهي الحركي
طوّر شوشو تعابيرَ فكاهية كثيرة خاصة به. تعابير حركية وصوتية وانفعالية تتميز بالتالي:
- في المظهر:
فتى نحيلُ الجسم، كثيفُ الشعر أشعثُه، كثُّ الشاربين، يلبَس سروالا فضفاضا بحمّالتين، وأحيانا يغور في سترة تكاد تبتلعه. ولكنه لم يكن على ثبات في ملبسه كما فعل شابلن، فقد كان يجتهد في ابتكار الجديد لكلّ قصة.
- في الحركات:
كان كثير التعابير في تقاسيم وجهه: حركاتُ عينيه وشفتيه وعضلات وجهه ورقبته كانت معبّرة ومؤثرة. كان يوظفها ليرسم بثقة بالغة لمساتٍ كاريكاتوريّة قوية.
كانت حركات يديه الطويلتين جزءا مهما من العرض الفكاهي. كان يطوّح بهما شاغلا حيّزا واسعًا من الفضاء حوله.
أحيانا كان يستعمل كفّيه ليرسم بهما، بالإشارة، صورًا فكاهية مبتكرة تنتزع الضحكة من المهموم، كما تنتزعها من الممثل المصدوم، بشكل قسريّ غير مقرر في العرض.
كان خفيفَ الحركة وكثير التنقل على المسرح. أحيانا تراه يتربع على كتف أريكة وأحيانا تراه قافزا “معربشا” على أحدهم.
لا تجد مثل تلك الكثافة في الحركات التعبيرية الجديدة والناجحة عند الباقين من كبار الفكاهيين.
إذن، كان شوشو كثير التعابير في حركات جسمه وأطرافه وتقاسيم وجهه، وكان دائم التجديد فيها.
التعبير الفكاهي الصوتي والانفعالي
التعابير الفكاهية، حركية كانت أو صوتية أو انفعالية، هي أهم ما يميّز الفكاهي الناجح. استعمل شوشو كلّ جوارحه في بناء تعابيره الفكاهية:
ـــ في الصوت:
استعمل شوشو لهجة بيروتية مطاطة أحيانا ومتكيفة أحيانا أخرى.
كان يطوّح بالعبارة كما يطوح بيديه،
كان يدلّل العبارة أحيانا ويغمّسها بابتسامة عريضة،
كان يخطفها أحيانًأ مع عبسة ظريفة، لم أعرف العبسات الظريفة إلا عند شوشو،
كان يمددها أحيانا على بساط متموّج من الهسهسات أو الهمهمات أو الأهْأهات، أو ما هو مثل ذلك مما لا يُغني فيه الوصف عن المشاهدة والسماع.
ـــ في الانفعالات:
تضحك عندما يبشُّ لخبر سعيد، وعندما يتكلّف البسمة استهزاءا.
تضحك عندما تراه يزأر بعينيه مهدّدا وعندما يلوّح بكفّه غاضبا.
تضحك عندما تراه يشد حاجبيه متعجبا، عندما يرفع جفنيه متفاجئا، عندما يُطبق على غريمه مباغِتا، عندما يعبث بشاربيه متسائلا.
تضحك عندما تراه يضحك، وتضحك عندما تراه يبكي.
باختصار، لم يترك شوشو عضلة من عضلات جسمه ولا جارحة من جوارحه إلا أشركها في تأدية دوره، منتزعًا القهقهات والغُشيّات الضاحكة. وبذلك تجاوز كلّ ملوك الفكاهة في العالم العربي، وربما خارج العالم العربيّ.
هل كان شوشو مبتكرًا؟
أميل إلى القول إنّ كلّ تعابير شوشو الفكاهية الغنية، والتي ذكرتُها أعلاه، كانت من ابتكاره. تلك التعابير لم تكن قليلة، فهي تكاد تؤلف لغة ابتكرها بنفسه. وقد بدأ تكوينَ تلك اللغة ومفرداتها منذ طفولته كما رأينا.
عند وصوله إلى حقل العمل المسرحيّ كان لا يزال يُغني تلك اللغة بحركات جديدة وأصوات جديدة وانفعالات جديدة.
اسألوا بشكل خاص الذين تابعوه في مسرحياته، في الخمس الأخيرة من حياته: 1970-1975.
شوشو على المسرح
كلّ النقّاد متفقون على أنّ اسم شوشو بدأ يحلّق عاليا منذ انتقاله إلى العمل المسرحيّ نهاية 1965.
من أقوال كبار النقّاد والمخرجين في لبنان:
ــــ “شوشو هو العبقرية الوحيدة في المسرح اللبناني”.
ـــ أكثر المسرحيات التي مثلها شوشو كانت أجنبية مترجمة، وهي “إنّما عُرضت بهدف إيجاد مبرر قصصي لصعود شوشو على الخشبة”.
ــــ روّاد المسرح كانوا يقصدونه، ليس لمتابعة القصة أو متابعة الحبكات فيها، بل لمتابعة شوشو والعيش معه في كلّ صولاته وبهلوانيّاته وفلتاته وارتجالاته التي عشقها الجميع.
هذه الآراء الثلاثة تؤكد من جديد كم كان الرجل مبدِعًا في التعبير الفكاهيّ.
على المسرح
ــــ أفلت شوشو عبقريته في الارتجال على مداها، وكان يُكثر من الخروج عن النصّ، وابتداع المواقف.
ــــ لعب بكلّ خبراته السابقة، تلك التي بناها بنفسه صغيرا، وتلك التي اكتسبها خلال عمله مع شامل.
ــــ طوّر في أدائه باستمرار، وفي ابتكاره لتعابير فكاهية جديدة.
ــــ كان يحضّر للمسرحية من كلّ النواحي، وكان يتدرب عليها مع أعضاء فرقته عشرات المرات قبل تقديمها.
ــــ كان يطرب لتصفيق الجمهور، ويتمتع بتفاعله معه.
ــــ خُلق حسن علاء الدين مجهّزا بكلّ ضرورات العمل المسرحيّ الفكاهيّ، وأوتيَ فيه ما لم يؤتَ أحد.
هل نجح مسرح شوشو؟
العمل المسرحي في لبنان عمره أكثر من مئة وعشرين سنة.
قبل 1965، لم يستطع هذا العمل أن يفرض نفسه إلا في المسرحيات الغنائية الاستعراضية، وقد كانت موسمية.
في الآتي بعض أسباب تعثر المسرح اللبناني حسب رؤيتي المتواضعة:
ــــ الثقافة المسرحية غير متأصلة في لبنان ولا في المنطقة، كما هي الحال في أوروبا.
ــــ الثقافة الشعبية في لبنان غير موحدة تجاه المسرح بسبب التنوع والاختلاف الثقافي والاجتماعي والإتنيّ.
ـــــ عانى المسرح اللبناني من قلّة الكتاب المسرحيين.
ــــ الاضطرابات السياسية في لبنان كانت قائمة باستمرار.
تجاوزَ مسرحُ شوشو كلّ تلك الصعوبات وحقّق ما لم يتحقق في لبنان قبل شوشو:
ــــ كان المسرحَ الوحيد الذي قصده الناس يوميّا.
ــــ كان المسرح الوحيد الذي قصده الناس على اختلاف ثقافاتهم.
ــــ كان المسرح الوحيد الذي قصده سياسيون كبار: كميل شمعون، صائب سلام، كمال جنبلاط …
ــــ كان المسرح الوحيد الذي قصده العشرات من كبار أهل الفن: أمّ كلثوم، عبد الوهاب، فريد الأطرش، يوسف وهبي،
ــــ استمرّ مسرح شوشو عشر سنوات: من 1965 إلى 1975.
حصد نجاحا باهرا بفضل عبقرية “شوشو” الفنّيّة، ثم سقط بسبب سوء إدارة حسن علاء الدين المالية.
كان حسن يستدين من البنوك بفائدة مرتفعة، الأمر الذي حمّله ضغوطا مالية ونفسية كانت السبب في موته المبكر.
أعماله
قدّم حسن علاء الدين حوالي 50 عملا فكاهيا، بين إذاعة وتلفزيون وسينما ومسرح، وكان ناجحا فيها. غير أن نصيبه الأكبر من التألق والنجومية وجده في عمله المسرحيّ:
ــــ شارك في حلقات فكاهية عديدة في الإذاعة والتلفزيون
ـــــ شارك في خمسة مسلسلات إذاعية تقريبا
ــــ شارك في خمسة مسلسلات تلفزيونية تقريبا
ــــ شارك في سبعة أفلام ولعب دور البطولة في أحدها
ـــ لعب الدور الرئيس في كلّ المسرحيات التي قدمها، وعددها حوالي 27، منها مسرحيتان للأطفال (دون ذكر المسرحيات التي قدّمها في مطلع تفتحه على العمل الفكاهي، قبل عمله في الإذاعة والتلفزيون مع محمد شامل).
وافته المنيّة في تشرين الثاني 1975، عن 36 سنة، إثر نوبة قلبية تسببت بها عوامل كثيرة: هموم المسرح والديون والإفراط في السهر وشرب القهوة والتدخين.
فترة إنتاجه الفنّيّ كانت قصيرة، لم تتعدّ 16 سنة.
لو أنّ القدر مدّ في عمره لكان أتحفنا بإرث عريض من العمل الفنّيّ المبهر وغير المعهود … ولكنه مجدٌ لم يكتمل.
رحمه الله.