قرابين في معرض الكتاب

قرابين في معرض الكتاب

لحسن أوزين

     ألم في الأعماق يمزق الرجل، ينظر الى الحضور بحرقة موجعة. والغريب في الامر أنه لا يقوى على الكلام. المسألة لا تتعلق بالخوف، أو الحرج وقلة جرأة وشجاعة. لديه الكثير من الأسئلة العالقة في القلب والدماغ والأوردة، وهو  يرى ما لا يصدق يصدق. ويكتسب مصداقية وقبول وتقبل واعتراف، ليس فقط من قبل عامة الناس، بل المؤلم أن أصحاب الباع الطويل في النضال والثقافة والفكر، يرون في ذلك واقعية معرفية، منطقية وسياسية. ولا داعي، في نظر سدنة الكعبة الثقافية والسياسية، للمزايدات والتهور المعاكس لمنطق التاريخ والتحولات الاجتماعية الموضوعية.

   المؤلم بالنسبة الى هذا الرجل، الى حد العذاب الصامت واللامرئي، أن هؤلاء المثقفين والمناضلين الأشاوس، كانوا قدوة في سيرورة تاريخه الفردي، وبناة هويته الشخصية في الشك والرفض والنقد واكتشاف السؤال، وبناء الفكر النقدي…

   السياق الأخلاقي يدفعه للتحفظ والانكماش، تحسبا للانزياحات في المعنى والدلالات. فهو يدرك خطورة التأويل السيئ القصد، في زرع الألغام، في التركيب، ومنح السياق دلالات جهنمية، لوضعه في قفص الاتهام بالحقد والضغينة والمؤامرة والنية الدنيئة المبيتة. لذلك يقول في نفسه: من يضمن لي ألا يؤول كلامي بشكل مغرض. وأنعت بالوقاحة والحقد والتهجم على هذه الاهرامات الكبيرة والمتجذرة في التاريخ الثقافي والسياسي المغربي الحديث والمعاصر.

    يقول هذا في نفسه بصدق في التقدير والاحترام، ولا يسعى بتحايل في اللغة والخطاب الى نوع  من السخرية المقرفة، في المس بقيمة الاخر مهما اختلف معه، بالأحرى، هؤلاء الرجال الذي كانوا له قدوة حسنة، في فترة صعبة من حياته طفلا فقيرا غاضبا من حياة ليست هي الحياة، وشابا في مقتبل العمر، عنيدا ومتمردا، وراغبا في الثورة والتغيير.

    لهذه الاعتبارات وغيرها كثير يتحامل هذا الرجل على نفسه ويكويها في قلبه وجلده. يشعر بفداحة الخيبة، ورعب الانكسار. هكذا انهار كل شيء دفعة واحدة، وصارت المبادئ والأفكار والقيم التي دُفع في سبيلها الدم والروح، واغتصبت من أجلها مرحلة جميلة من العمر، مجرد غبار حلم أغرق الذات في ذاتيتها الحميمة، بين السيرة والتخييل الذاتي، هروبا من قلعة المنفى الى سمرقند. وبعيدا عن ماضي دليل العنفوان، وعن أحلام وكوابيس كان وأخواتها، أو  عصابتها المتحركة على الأرض.

   شيء ما، ملتبس ومتوتر يغلي في نفسية الرجل. كما لو كان بركانا على أهبة الانفجار. يقول بصمت في نفسه: “هكذا تحول مجانين الثورة والتغيير والأمل الشاق، الى عقلاء يعرفون من أين تؤكل الكتف. وأقصى طموحهم أن يصدر لهم كتاب بغلاف أنيق، ساحر جذاب في الرواية والشعر والفكر…

    تراهم سعداء بقرائهم، وهم يوقعون كتبا مدفوعة الثمن، مفعمة بالابتسامات والتقاط صور مختلفة الزوايا والمنظورات، لغرض في نفس يعقوب…

   وفجأة، تتدخل الذاكرة بعنف، كأنها تضع هذا الرجل أمام الحقائق التي يغيبها قلقه وتوتر أعصابه. يتذكر حوارا جمعه بنصر حامد أبي زيد، على درب الخطاب والتأويل. يتذكر الألم الفظيع والسؤال الصعب الحافر في القلب والتاريخ العربي الإسلامي، كيف انتصر مثقف الحاكم على مثقف الفئات المهمشة والمسحوقة؟ كيف تغلبت القوة، السلطة، العنف على المعرفة والعقل والعدل؟ كيف حسم المركز المعركة في وجه الهامش؟ وكيف أجبر أبو حامد الغزالي  ابن رشد على الصمت والرحيل…؟

   هذه المفارقة أذهلته برعب دفين يهز النفس والأعماق، كما صدمت ورضت ناصر حامد في وقت معلوم. وقبله بقرون العلامة ابن خلدون. إنها المفارقة التي ترتقي الى نوع من الميتافيزيقا، المتخطية للتاريخ البشري. في تلبس الاستبداد السلطوي الأبوي، المسيج بالقداسة الإلهية، لغة الجواهر، والقوانين الطبيعية، التي تهزم الانتفاضات والثورات والتغيير المأمول. وهي تسخر باستهزاء عنيف من مجانين الأمل والنهوض والتغيير. يتذكر هذا وهو يتأمل معاودة إنتاج القهر السياسي والاجتماعي في تونس.

   في هذه اللحظة من اشتغال الذاكرة، يعرج على تلك الصفحات الرهيبة والمؤلمة التي جعلت نصرحامد أبا زيد يدرك بوجع في القلب مصيره المنتظر. لقد رأى نفسه معزولا في معركة التنوير والهداية، والناس يبحلقون في صمت قاس، وتجاهل مشحون بالاتهام والتبرؤ، بما يشبه النبذ. عندها عرف أنه محكوم عليه بالتهجير القسري والرحيل بحثا عن الأمن و الأمان.

   لا يزال يتذكر كيف وقف طويلا أمام تلك الصفحات المرعبة، في تحدي البشاعة والفظاعة للإنسان الأعزل. غمره الفشل الذريع الى حد الخيبة والانكسار، الممزوج بالمذلة والمهانة والاحتقار، للحلم، أو لأمل التفكير النثري، الشعري، الفكري والسياسي…، في مقاومة قوة خطاب السلطة والعنف .

   كان بودي أن أطرح بعض الأسئلة، بصدق حول هذه النهايات المأساوية، التي وجد المثقف نفسه أمامها برضا كلي، وهو يهرول من مدينة لأخرى، أو امتطى الطائرة من بلد أجنبي، حالما، من خلال توقيعات تزينها ابتسامات جاهزة، ونمطية، كالأكلات/الوجبات السريعة. فرصة في نظره لتجديد حضوره، وتواصله الحار مع قرائه، دفعا لشعور مخز، يحكم عليه بالغياب أو التغييب والتهميش…

   كانت أسئلتي صادقة حول هذا التاريخ الملعون للسياسي والثقافي والفكري، الأقرب الى قدر مشؤوم، يتجاوز وزن وموقع و قدرات فاعلية هؤلاء المثقفين الإشكاليين. عبارة واحدة كانت تتردد في دواخلي: ما أكبر المبادئ والأحلام، وما أصغر وأحقر التوقيعات..

   أسئلتي لا تتوخى التهجم المجاني، والتنكر لما شكل هويتي الفردية في سيرورتها الجدلية بين الهدم والبناء اللانهائي. إنها نابعة من هذا الكم الهائل من الاضمحلال والانمحاء المرعب، في وحل هذا الانحطاط المقرف الذي لا يتسع لمفكر، أن يمارس حقه في الحضور في المكان، والسماح له بتوقيع كتابه، لا أقل ولا أكثر.

   وفي لحظة غضب داخلي، مشحون بالخيبة والانكسار قال الرجل في نفسه، بعد أن استمع الى المداخلات والحوارات، حول خبايا وهموم وانشغالات الكتاب والكتابة: “لقد ورطتني وأفسدتني تجربة الحلم والغبار، مقرفون هؤلاء المثقفون الكبار.. كبيرة قاماتهم، وبخسة وقزمية أحلامهم. لكم هم صغار حقا هؤلاء المجانين”.

Visited 5 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي