إبراهيم كريدية: مؤرخ بحجم مدينة

إبراهيم كريدية: مؤرخ بحجم مدينة

 سعيد البهالي

      من حسن حظ مدينة آسفي أن قيض الله لها ثلة من المؤرخين والباحثين في التاريخ المحلي أمثال الفقيه الكانوني العبدي (1893/1939) والفقيه محمد الصبيحي السلاوي (1882/1944) ود.علال ركوك (ت 2017) وذ. محمد بالوز (ت 2019) وأحمد بن جلون ود. عبد الرحيم العطاوي… وذ. إبراهيم كريدية، هذا الأخير الذي تحسدنا عليه مدن أخرى لغزارة كتاباته وكثرة أبحاثه في التاريخ المحلي لآسفي، فهو بحق ذاكرة آسفي التي لا تمل ولا تكل ، ومعين أخبارها الذي لا ينضب أو يتعب، وشلال بحوثها الذي يتدفق ولا يتوقف، هذا الرجل الذي يمتشق التاريخ هَمٍّا ووُجْدا، ليكون أقرب إلى نور الحقيقة حِسّا ومعنى، والذي يحترق لينير ما أظلم من تاريخ حاضرة المحيط، ويشيخ في كل لحظة ليجدد شباب معلوماتنا عن أعلامنا ومعالمنا وتراثنا وحضارتنا، وبما أن التاريخ، كما هو معلوم، علم تحت الحراسة ،فإبراهيم كريدية حارس التاريخ المحلي، هَمّهُ إزاحة الستار عن الماضي العريق، وإماطة اللثام عن التراث العتيق، وجعله ماثلا في الوجدان ، حاضرا للعيان، مذكورا على كل لسان، في كل لحظة وآن، ولأن التاريخ المحلي، وكل التاريخ، هو ذاكرة الجنس البشري لا يكتب عفوا، ولا يدرس لغوا، فقد جمع ذ إبراهيم كريدية بين الحس التاريخي الأمين، والوعي العلمي المتين، والتكوين الأكاديمي الرصين، محاولا المساهمة في إغناء الذاكرة المحلية لحل إشكالية الوعي التاريخي المحلي،  وما يقتضيه ذلك من صبر وأناة، ومكابدة ومعاناة، وحكمة وثبات، فهو يقتحم التاريخ ومجاهله، مستبعدا هاجس الخوف والوجل، يكتب حسب قناعاته العلمية وما أوصلته إليه تحقيقاته، بعيدا عن المجاملات أو التاريخ الإستعراضي أو تاريخ المناسبات، إذ هو ليس مؤرخا رسميا يكتب تحت ثقل المناسبة وضغط المنصب، فما يهمه هو الوفاء المعرفي لمسقط رأسه، فجاءت أعماله التي تربو على مائة كتاب مستوية على سوقها، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، متجاوزة ثقافة النسيان، وواقع الاحباط، وحالة الشروخ.

      ذ. إبراهيم كريدية مؤرخ بحجم مدينة، بسعة تاريخها، برحابة تراثها ، وتعدد أعلامها، وغنى معالمها، وخصب ماضيها، يعمل جاهدا ومجاهدا على إعادة قراءة حفريات التاريخ المحلي، جامعا شذراته، حابكا فقراته، جاليا غوامضه، مُزيحا الستار عن نوادر الأخبار، وكاشفا عن جميل المواقع، وجليل الوقائع، لمعرفة ما تركه الآباء والجدود، وسابرا سِيَرَ ومسارات الخلف والسلف، للكشف عن المحمود من الجهود، فهو يبحث عن الملهم والمهم، والمهم هو ما يعكر الصفو، يربك، يزعج، ما يعارض السطح الأملس، يعارض طمأنينة الجاهز، إنه ما يوسوس… المهم هو المخفي، المُمَوّه، المكتوم، المدفون في كتلة التقاليد، والأزياء الايديولوجية، في التفكير في الذات، لمكافحة الظواهر وإماطة اللثام عن المُبْعد، لاكتشاف النواة الأصلية، فهو شغوفٌ بِحُبٍّ “وثني”، ودقيقٌ بحس وطنيّ، يكتب بحرقة وشوق، بمحبة وعشق، يسد فراغات الماضي، ويخيط ثقوبه التي “هي في الغالب أضخم من حالات الحضور”، ويجسر الهوة مع التاريخ وما مضى، مع الدراية بأن “وظيفة التاريخ المزدوجة تتمثل في تمكين الانسان من فهم مجتمع الماضي، وزيادة تحكمه في مجتمع الحاضر “، يغوص في عزيز المضان وغميس المصادر بفرح طفولي، لكن بعين شيخ فاحص ناقد وبصير، فيبسط تاريخ المدينة وكأنه في درس داخل فصل دراسي، حيث سلاسة الأسلوب، وسلامة اللفظ، ووضوح اللغة، ودقة المبنى ورقة المعنى، فهو أستاذ التاريخ الذي يعرف مجال اشتغاله جيدا، يوظف البيداغوجيا والديداكتيك والمعرفة التاريخية بكثير من الحذق والعشق.

    هو مؤرخ مدى الحياة، بما أن التاريخ هو عملية مستمرة من التفاعل بين المؤرخ ووقائعه، وحوار لا ينتهي بين الماضي والحاضر حسب إدوارد كار (1892/1982)، لذا فهو يؤمن بالاستمرارية رغم كل العقبات والمطبات التي يشيب لها الشعر، وينثني لها الظهر، فالكتابة التاريخية هي عملية متجددة باستمرار، يسلم السابق المشعل للاحق، يكتب عن العباد والزهاد، عن الآثار والديار، عن المجاهدين ومحرري الوطن، عن العلماء وصناع النهضة والتاريخ… حسب ما توفر من حقائق ووثائق، وإفادات ومستجدات، ومعطيات حضارية وظروف مواتية، فهو يؤمن بأن  مدينة آسفي أكثر من مدينة.. أكثر من قطعة أرض في ثنايا الوطن، إنها قطعة من التاريخ وقصة حضارة، فهي الوطن الدافئ الصغير، مدينة تختزل تاريخ الوطن، وما تاريخ الوطن إلا مجموع تاريخ مدنه، ولولا الباحثين المحلييين واسعي الاطلاع ما كان التاريخ الكبير على ما هو عليه، فالرجل دأب على الإشتغال منذ ما يقارب الأربعين سنة، وهو وقت طويل جدا بالنسبة لمهنة شاقة وجاحدة،  يشتغل بصمت وتواضع يوحي بتواضع العُبّاد والزهاد، الناسكون الماسكون بجمرة العشق والجوى، لا يرجو شكرانا أو  عرفانا على ما أعطى وأسدى ، وأجاد وأهدى، إلا من ربه الكريم، يمزج التحليل بالتأويل الذي هو مصدر حياة التاريخ، فمهمة المؤرخ ليست أن يحب الماضي ولا أن يتحرر منه، بل أن يتمكن منه ويفهمه باعتباره مفتاح فهم الحاضر، يعيش حالات التجلي بعد التخلي والتبتل في محراب العلم والتاريخ، يمزج النقد بالتأمل، والتحليل بالتبتل، ورحابة السؤال بضراعة الابتهال، فكل واقعة تاريخية هي لحظة تأمل، والمؤرخ زاهد بطبعه، يعيش وحيدا رفقة مراجعه ، يعيش بين حنايا الوقائع وثنايا المواقع، يشيخ قبل غيره، يحيا على الحلم والأمل، فلا وجود لإبداع تاريخي دون حلم، والحلم بدوره يلازم كتابة التاريخ، والمؤرخ يحلم بتاريخه، بمشروعاته، بشخوصه، ولولا الحلم لما جاءت تلك الأعمال التاريخية باذخة الروعة والدهشة، فائقة الجمال والإبداع، ولله در المؤرخ محمد أكنسوس (1797/1877) عندما أكد على أن “الاشتغال بالتاريخ لا يخلو من تصفية النفس من أدرانها، لأن النفوس والأرواح لها بالأخبار السالفة انبساط وانشراح”.

   يسعى ذ. إبراهيم كريدية لإدراك الكتيم، الضمني، ما لا يقال، فالتاريخ كتاب الله المنشور والمسطور الذي ينبغي أن يقرأ بوعي تام، بصفاء ذهني وروحي، التاريخ كتاب إلهي، و”كل ما هو تاريخي فهو ألهي” كما قال جورج نوفاليس (1772/1801)، وإذا قيل “حتى وأنت تتجول في السوق قد تلتقط إشارات تاريخية” حسب بول ماري فين (1930/2022)، فكيف بمن يعتكف في محراب التاريخ نفسه، كم سيلتقط من الإشارات والتجليات والدلالات والكشوفات والاشراقات والمشاهدات… لهذا فإبراهيم كريدية له تقدير متفائل جدا لفعالية التاريخ في الواقع / الحاضر، على اعتبار أن المؤرخ الذي يمتلك إدراكا كافيا لواقعه، يكون أكثر قدرة على تجاوزه، كما أنه قادر على تقدير الاختلافات الجوهرية بين مجتمعه ورؤيته وبين مجتمعات العصور والبلاد الأخرى، وإذا قيل “إن من يقرأ التاريخ يضيف أعمارا إلى عمره”، فكيف بمن ينتج المعرفة التاريخية ويقدمها هنيئة مريئة للقارئين والدارسين، كيف بمن أفنى عمره في البحث والتنقيب والتحقيق والتدقيق والتوثيق.. وقضى زهرة شبابه متنقلا بين المراجع والمضان وغميس الوثائق بعشق صوفي وشعور صافي… تكفيه إذن لذة الهيمنة على الزمن، والتعالي عن تفاهة اللحظة الراهنة.

  لقد ظهر كريدية بعد فترة ركود مجهد خلفته وفاة المؤرخ الكانوني العبدي (1893/1938) صاحب أزيد من أربعين كتابا، جاء ليسد الفراغ ويحد من الغياب في الكتابة التاريخية الأصيلة ، ويكمل إخراج تاريخ آسفي من الخزائن المغلقة والروايات الشفوية المتناثرة ، إلى ضوء المطابع و رحابة التاريخ الوطني ، والمشترك من حركة التاريخ الإنساني  ، لذا فهو  يحلم بما كان ، أو بما كان يمكن أن يكون ، يحيا على حدوسه  ، يحارب على عدة جبهات ، ويقتحم مجاهيل التاريخ ، فالمؤرخ كالجندي قادر على إعطاء الأمر ، وعلى التكيف مع الموقع ، وعلى التحليل ، وعلى تفسير الموقف ، ويتميز بالحذر ،وفوق كل هذا فهو يبحث عن الحكمة حيث وجدها ، وما أكثر الحِكَم وزهر الأكم في ثنايا التاريخ وزهر الشماريخ ، فإذا وجدها بثها ، في كرم من يعطي النوال بغير سؤال ، في كتب  تربو لحد الآن عن المائة  ، أو في أشرطة مصورة،  تزيد لحد الساعة عن 260 شريطا ، أو في إفادات و وجادات يسطرها في العالم الأزرق الرقمي الفسيح ، يكتب عن المعالم والأعلام ، عن من مضوا ومن ما زالوا أحياء ، عن الدروب والأزقة والأحياء ، عن التاريخ وشوارده ، عن التراث وموارده ، عن الفن وشواهده ، عن المواقع والجوامع والوقائع … شملت كتاباته مجالات جغرافية واسعة من ظهير آسفي ، فكتب عن آسفي المدينة وعبدة ودكالة واحمر والشياظمة … وكأنه ينحث من صخر، أو يعب من بحر ، في كل ذلك فهو يحقق الوثائق ، ويبحث عن  الحقائق ، ويدقق في الشهادات ، ويمحص الحكايات ، ويعيد رسم ملامح الشخصيات ، يتقصى الأخبار ، ويصيد الغيض من الفيض ، من صلب العشق وترائب الصبر ، ومن بين كل تحقيق وتدقيق وتوثيق تخرج كتابات غنية نافعة ، وبحوث حافلة رائعة ، وأشرطة مفيدة ماتعة ، فكتاباته سخية ، منفتحة على كل الاتجاهات ، رابطها الوحيد ، وهاجسها الأوحد : مدينة آسفي ، الكلمة المفتاح ، الكلمة العشق ، الكلمة التي تختزل الوطن ، فصال وجال في تاريخ مدينة آسفي محاولا استرداد الذاكرة التاريخية المحلية ، وترك سرديات تاريخية مكتوبة ومصورة سيبني عليها لا محالة من يأتي بعده ، مستعملا منهجا بحثيا قوامه التجديد والتشويق ، والموضوعية والتدقيق ، بهدف الوصول إلى ما استشكل من حقائق التاريخ ، وتوضيح بعض مجرياته بشخوصه ومعالمه ، لتكون الغاية هي إبراز الدور التاريخي والحضاري لحاضرة البحر المحيط / آسفي ومساهمتها الفعالة عبر الزمن في صناعة التاريخ الوطني والحضارة المغربية ،  والرجل لا يستسلم إلى الأفكار البسيطة الملساء ، يُعَقب ويُنَقب ، يواجه غواية التبسيط وما أكثرها في العمل التاريخي وفي الواقع المنزلق الممحو ، ولا يستسلم في واقع ملتبس  ومهمة / مهنة صعبة ، وخاذلة وغير مربحة ، وفي مدينة فيها الحساد أكثر من النقاد  ، يعز فيها الصديق ويقل الرفيق ، ويكثر فيها المؤلفة جيوبهم ويقل المؤلفة قلوبهم ، عيونهم على (الصنك) في البنك ، أكثر من الفوائد في الربائد والإفادات في الوجادات ، فهو صابر صبر مدينته على الأحزان ، يكيل من التاريخ بالمكيال الأوفى، لا ييأس لأنه يعلم علم اليقين أن مدينة آسفي كما وصفتها الأديبة أسماء غريب هي “روضة جديدة قد ظهرت بالنقطة في فضاء القدس، قرب جنة الرضوان، يطوف حولها جميع الملأ الأعلى وهياكل الخلد الأعلون” .

     البحث في التاريخ عامة ، وفي التاريخ المحلي خاصة، وتاريخ مدينة آسفي على الأخص، هو جهد مضني، واحتراق متواصل، لا يحس به إلا من جرب معاني الاحتراق فيها، وخبر الغوص بل الغرق في لُجَيّها ويَمِّها، وذ إبراهيم كريدية مؤرخ متمرس واضح الأهداف، غواص خبير يميز اللآلئ من الأصداف، يكتب بالجَلِي، ويكشف عن الخفي، وقد تحول، بلا مبالغة، بفعل غزارة إنتاجه، وعشقه الصوفي الصافي لمدينته، ودفاعه عنها في كل المحطات والمؤتمرات والندوات.. يشهد على ذلك خيرة من قدموا لكتبه أمثال: د. محمد بنشريفة، د. عبد الرحيم العطاوي، د. عبد الهادي التازي، د. أحمد الوارث، د. سعيد لقبي، إدمون عمران المليح، د. محمد الظريف، د. منير البصكري، د. عبد الرزاق الوزكيتي، د. عبد الهادي السبيوي، د. أحمد عبادي، د. حسن نجمي، ذ. عبد الرحيم الوزاني، ذ. إدريس بويلة… لقد تحول إلى رمز للمدينة، وإلى مدرسة تاريخية محلية قائمة بذاتها، كيف لا وهو الذي تلقى أصول البحث التاريخي، عن أساطين التاريخ بجامعة محمد الخامس بالرباط أمثال د. محمد زنيبر (1923/1993) وجرمان عياش (1915/1990) ود. إبراهيم حركات (1929/2020) ود. إبراهيم بوطالب (1937/2022) ود. عبد اللطيف الشاذلي (ت 2017) ود. أحمد التوفيق وحميد التريكي… فما منهم إلا أستاذ مجد، وباحث مجدد، ومؤرخ مجتهد، أساتذة الأجيال، وأعلام الأعلام، هؤلاء وأمثالهم هم الذين شحذوا  بالتاريخ وعيه، وغرسوا في الوجدان حبه، فحمل المشعل واثقا، وسار على الدرب موفقا، فلا تذكر آسفي إلا ويذكر اسمه، فهي مداد طُرْسِه، لأنها منبت غرسه، ومهوى نفسه، ومسقط رأسه.

Visited 58 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

سعيد البهالي