علال الفاسي .. المغرب الفينيقي (2 ــــ 4)
جورج الراسي
الزعيم المغربي علال الفاسي مؤسس حزب “الإستقلال”، جاب بلاد المشرق العربي، فزار القاهرة والخرطوم ودمشق وبيروت والقدس وبغداد في أربعينيات وخمسينيات القرن المنصرم، شاحذا الهمم لدعم حركات التحرر في اقطار المغرب العربي، مركزا على وحدة جناحي الامة، وعلى عناصر التلاقي بين اطيافها .
لكن المحاضرة التي القاها في دمشق في أواخر الأربعينيات لم تركز على العروبة والإسلام فحسب، بل تناولت الأبعاد الحضارية لوحدة مشرق الوطن العربي مع مغربه، معتبرا انها تعود اولا وأخيرا إلى الإرث الحضاري الفينيقي.
الوحدة الطبيعية بين ارض العرب
يرى علال ان المغرب العربي لا يتصل بأي بلاد أخرى من جهة الأرض، إلا بالصحراء العربية التي تمتد من الجزيرة إلى أقصى جنوب مراكش، والتي كانت منذ فجر التاريخ ممر الموجات الإنسانية بين رحل المغرب ورحل المشرق، قبل أن يطلق على هذا الكون اسم “عالم العروبة والإسلام”.
لقد وقف الأطلسي شامخا جبارا بين مغرب العروبة، وبين امتداد أوروبا التي عرفها الفينيقيون واعطوها ذلك الإسم .وهكذا رسخت الجغرافية مبدأ الوحدة الطبيعية بين ارض العرب.
ويضيف علال أن شعباعريقا يقيم على ارض المغرب العربي بنى حضارته من عرق الكادحين، وقاوم الفاتحين من كل جهة، وآمن بالحرية في كل العصور لكنه لم يقبل قط الإتصال المادي او الروحي بأوروبا ورجالها، ولم يخضع طائعا او مكرها لسلطانها، فقد قبل أن يتصل دائما بالفينيقيين الذين وردوا عليه من الشام، ثم بالمسلمين الذين حملوا إليه القرآن ولغته.
الفينيقيون وحدوا المغرب
ويرى علال في محاضرته الدمشقية تلك ان الفينيقيين وحدوا المغرب وواكبوه في كفاحه القوي ضد الرومان، وأعطوه الوجدان المتحد، واللغة الواحدة والقومية المشتركة، فكانت قواته تتجه لمقاومة المستعمر الروماني في ظل قيادة رجل مثل هاني بعل .
وعاشت قرطاجة تسعة قرون قبل أن يهدمها الرومان، وستة قرون أخرى بعد الهدم، وغرست جذور الكيان السامي في كل المغرب. فكان اللسان الذي يتعامل به الكل هو اللغة الفينيقية، “التي بقيت اللسان الرسمي في العقود والمعاملات والوصايا حتى القرن الثالث بعد المسيح. وتكون بها أدب مغربي، وقد اكد “سان اوغستين” القديس المغربي أن اللغة الفينيقية كانت في عهده هي اللسان العام في الشمال الإفريقي برمته”.
وقد شرح علال الفاسي في مقدمة كتابه “الحركات الإستقلالية في المغرب العربي” ان الرومان كانوا يستخدمون المترجمين للتفاهم مع الأهالي، كذلك كانت تفعل كل الإدارات على غرار ما يفعله الفرنسيون والإسبان اليوم (أيام الإحتلال).
العنصر الفينيقي البربري
اراد علال في محاضرته (قبل نحو ثمانين عاما!) أن يثبت أهمية الوجود الفينيقي في تمهيد السبيل لتكوين الأمة العربية. وقد أضاف عنصرا بالغ الأهمية بالنظر لما تتعرض له فكرة “العروبة” من تجريح لم يسبق له مثيل، وهو ما اسماه “العصر الفينيقي البربري”، الذي ثبت سامية الشمال الإفريقي، وربطه ببلدان الشرق الأوسط.
والفينيقية لا تبعد كثيرا عن العربية، وقد نقل علال عن Gsell قوله في كتابه “تاريخ إفريقيا الشمالية”: “إن العربية ذات رحم واحد مع الفينيقية لذلك امكن ان تحل محلها بسهولة”.
كما ينقل علال عن مؤرخ فرنسي آخر مشهود له هو Gauthier قوله: “إذا كان البربر قد استعربوا بسهولة ، فذلك على ما يظهر لأنهم لم ينسوا الفينيقية”.
امة عربية واحدة
انا لا انقل لكم هنا لا بيانا ناصريا ولا منشورا بعثيا، بل كلام جاء على لسان أب الوطنية المغربية قبل سنوات عديدة من ظهور جمال عبد الناصر، ومن بروز حزب البعث على سطح الأحداث. فقد كان علال يردد ان حرية الاختيار وحرية الإرتباط هما اساس الفكر المغربي في كل العصور .
لقد جاء الإسلام فإرتضاه المغاربة دينا، وحمل إليهم العربية وثقافتها فإمتزجوا بها وتذوقوها، وصاروا يفكرون عربيا، ويعملون عربيا. وقد حاول كثيرون أن ينسبوا ذلك إلى هجرة كبيرة من طرف العرب. لكن الواقع أن جيش عقبة لم يكن يشتمل على أكثر من عشرين الف عربي سرعان ما امتزجوا بالبربر عن طريق الزواج والإختلاط وسرعان ما اندمجوا في الوسط المغربي، ولقد هاجر من بعدهم عشرات الآلاف، ولكن كل ذلك لم يكن كافيا لأن يملأ المغرب بالعرب الأقحاح. كما ان الموجات الأخرى من مصر والشام وأمثالهما لم تكن بالكافية لأن تجعل من هذه الأقطار بلدانا عربية. لكن الروح التي حملها العرب، والحضارة واللغة والدين والبواعث الإجتماعية والإقتصادية والجغرافية التي خلقها تمازج العناصر المتساكنة في هذه البقعة من الأرض منذ آلاف السنين، كل ذلك وحد الذهنية، وكيف الفكر، وصاغ الطبع، وبلور العواطف، ونحت الكلمات، وإذا بهذه البلاد كلها أمة واحدة هي الأمة العربية .
وآذن فلأمة العربية ولدت يوم ولدت كاملة الأجزاء، مرتبطة الجوانب، لا هي بالمغربية ولا هي بالمشرقية، وإنما هي مكونة من كل هذه البلدان التي لم تزل الأجيال تتوالى عليها فتقربها لبعضها لتتلقى نعمة الإخاء التي سادت الرسالة العربية، ومن الخيانة لهذه الأمة ان تجزأ إلى أقاليم او تقسم إلى شعوب ، مهما كانت الاوضاع ومهما تقلبت الطباع، وإنما هناك آسيا العربية وإفريقيا العربية، وكلاهما واطن واحد تعيش فيه أمة واحدة. وبهذا الإعتبار فإفريقيا العربية تشتمل على كل إفريقيا المتوسطية التي تبتدئ من شاطئ المحيط في المغرب إلى واحة سيوة في مصر، كما تشتمل على موريتانيا وقبائل الطوارق والبهل Les Peuls و اقباط مصر العليا والسودان وتشاد وجيبوتي والصومال وإريتريا. والمغرب العربي جزء من هذا الجناح الشمالي للشرق العربي، وكل مساس به يهيض بالجناح، ويقعد بالنسر عن النهوض والتحليق.
تلك هي الأهمية الطبيعية للمغرب العربي كعضو من جسم الأمة العربية، ولعب المغرب دورا كبيرا في تنمية الفكر والحضارة التي ازدهرت قبل الإسلام وبعده. اما عن ” النسر” العربي فلن اخبرك ما حل به يا علال لكي تبقي صافيا في عليائك فلا يعكر صفوك ريشه المتناثر.
الجزء الثالث ـــ علال الفاسي: الاصلاح السلفي (3 ــــ 4)