غورباتشوف: 32 عامًا على انهيار الإمبراطورية السوفياتية
خالد العزي
عندما وصل مخائيل غورباتشوف في العام 1985 إلى السلطة (الذي توفى عن عمر 91 سنة في العام 2023، وقد وضع نهاية للحرب الباردة)، طرح برنامجه للتغير وإعادة البناء للدولة والشعب والحزب، ظهرت على الساحة السوفياتية ثلاثة تيارات جديدة:
- التيار الأول الذي يمثله غورباتشوف ويقوم على أساس الإصلاح الشامل الاقتصادي وسياسي بالتدريج من خلال تنمية الوعي الجماهيري الديمقراطي داخل المجتمع الشيوعي والدولة السوفياتية ومؤسساتها المختلفة، ولكن على استمرار الاختيار الاشتراكي ووحدة الاتحاد السوفياتي.
- التيار الثاني: تمثله مجموعة من التيارات والكوادر الحزبية والأمنية والعسكرية لا يخفون عدائهم الكامل للبريستوريكا وهذا التيار الذي يتبنى مفهوم تطوير الحزب الشيوعي ويعارض إن تستغل الديمقراطية في تفتيك الدولة السوفيتية وإسقاط النظرية الاشتراكية، وهذا التيار من قاد انقلاب 19 أب / أغسطس من العام 1991.
- التيار الثالث والذي يطلق على نفسه التيار الراديكالي وتمثله الأحزاب الليبرالية وعدد من الشخصيات المهمة في الاتحاد السوفياتي والذي اختلفت مع غورباتشوف وسياسته البطيئة في تطبيق البرسترويكا، ومن أبرز هؤلاء المعارضين بوريس يلتسين رئيس روسيا السوفياتية، ومحافظ موسكو الكسندر بابوف، ومحافظ لينغراد انطولي سابشاك، ومنظر الحزب الشيوعي السوفياتي والرجل الثاني بعد غورباتشوف”، الكسندر يكفلوف”الإسرائيلي الهواء”، وادوارد شيفرناذزة وزير خارجية الاتحاد السوفياتي “غير المتكلم اللغة الروسية” وإنما الانكليزية، ويقوم هذا التيار على الاعتراف بإخفاق الماركسية –اللينينية –الستالينية، وبالتالي إسقاط الخيار الاشتراكي لصالح اقتصاد السوق الحرة وإمكانيات التحول إلى نوع من الرأسمالية العصرية في إطار محسوب من العدالة الاجتماعية وان تشمل الحرية الديمقراطية كل شيء ابتداء من المواطنين حتى حق الجمهوريات داخل الاتحاد السوفياتي في تقرير مصيرها بالانفصال أو الاستمرار في صياغة جديدة تحد من سلطة المركز”موسكو”،وهذا التيار الذي انتصر ووقف بوجه الانقلابيين وجز بهم بالسجين،والتي أدت تفك الاتحاد السوفياتي وسيطرتهم على البلاد.
غورباتشوف ينعي نظريته:
لقد دخلت البلاد بصراع من خلال الانقسام الداخلي بين إطراف السلطة ومعارضتهم لنظرية إعادة البناء التي طال انتظار مفاعيلها كثيرا لكنها لم تنجح فعليا في المجتمع السوفياتي، غروباتشوف أدرك أن الاستمرار في السلطة ودفع برنامجه إلى الأمام يعتمدان بالأساس على إيجاد صيغة تواز بين الجانبين، “الجناح المحافظ والراديكالي، لأن الأول يعارض برنامجه ويراه خروجا على الماركسية اللينينية، أما الأخر الذي يرى في برنامجه الإصلاحي غير كافي ويسير بوتيرة.
بطيئة ويطالب تسريح وتيرة التغير والتعجيل باء عادة بناء الاتحاد السوفياتي على النمط الغربي. لقد أدرك غورباتشوف منذ البداية أن الإجهاز على الجناح المحافظ يقود إلى حرب أهلية في البلاد ، نظرا لسيطرة أنصار هذا الجناح على المؤسسة العسكرية والأمنية وجهاز المخابرات والداخلية ،كما أن القضاء عليه سوف يعظم من مطالب جناح الليبرالي، ومن جهة أخرى أدرك غورباتشوف استمرار جناح الليبرالي بموازاة نفوذ الجناح المحافظ ولممارسة الضغط هذا الجناح هذا الجناح حتى يسلم الجناح المعتدل الذي يقول غورباتشوف.
وفقًا لهذه الصيغة أدار غورباتشوف شؤون الداخلية للبلاد المتأزمة، دون أزمات كبرى من خلال هذه الصيغة التوازنية بين الجانين سرعان ما اختلت للعديد من الأخطاء الذي ارتكبها نظرية البناء نفسه على الصعيد الداخلي والخارجي.
ففي آذار /مارس من العام 1991 توجه إلى الشعب السوفياتي بالاستفتاء على بقى أو عدم بقاء الاتحاد السوفيتي، فالشعب أجاب بنسبة 76,6% على ضرورة المحافظة على الاتحاد السوفياتي، مما فاجئ الجميع في مركز القرار السياسي، لذلك طرح سيناريوهات عديدة لانقاد البلاد وطرح مفهوم حالة طوارئ عاجلة في البلاد،بعد أن عرف فعليا برنامجه وصل إلى حائط مسدود، غورباتشوف الذي كان يعلم جيدا بحركة الانقلاب الذي رسم هو معالمه ضنا منه بان الانقلاب ينقذ البلد ويعيده رئيسا بعد فشل مشروعه، لقد لعب غورباتشوف لعبة الثعلب الماكر مع الجناحين لكونه كان يعتبر نفسه هو الرئيس بظل نجاح أي من الأجنحة المتحاربة، لكنه وقع في خطاء كبير لعدم فهم لعبة التيارات المتصارعة الأمر الذي أدى إلى حدوث انقلاب 19 أب / اغسطس من العام 91 ، وكان ضحيته الاتحاد السوفياتي الذي انتهى عن الخارطة السياسية والجغرافية.
التدخل الأمريكي في الانفتاح:
مما لاشك بان أمريكا لعبت دورًا مميزًا بدفع الأحوال في بلاد الشيوعية إلى تسارع كبير نحو الانحدار والانهيار، من خلال الضغط الاقتصادي والعسكري والأمني والأخلاقي، وفتح أبوابها أمام الجناح الراديكالي والاتصال بشخصياته السياسية والاقتصادية التي وضحت نفسها في خدمت السياسة الأمريكية التي أضحت تخوض حرب ضد المسكر الاشتراكي بشكل عام، والتي كانت الخطوة الأولى في العام 1989 بتوحيد الألمانيتين وانهيار جدار برلين كخطوة أولى نحو التغير والانفتاح، وعندها بدء التدخل الأمريكي في الشؤون الداخلية السوفياتية بظل الانفتاح ومناخ التغير الذي يطرحه رئيس الاتحاد السوفياتي، من خلال بناء شبكة علاقات داخلية مع أشخاص روسية وسوفياتية بدا الأمريكان المراهنة عليها في التغير القادم في قلب الإمبراطورية السوفياتية، عندها يكتب “زبغنيو برجينسكي”، في إحدى مقالته بان أمريكا تخطو خطوات أجابية باتجاه دولة السوفيات ونعتبر لقد دق أول مسمار في عمر الدولة الشيوعية.بدء العمل الأمريكي الأمني الدؤوب في بلاد الثلج.بالرغم من زيارة المستشار الأمريكي للأمن القومي روبرت غيس قبل يوم من الانقلاب السوفياتي والذي قيل الكثير عن مدى تنسيق المخابرات الأمريكية مع الرئيس الراحل يلتسين والسيناريوهات التي تم رسمها في حال الفشل أو نجاح المعارضة .
لكن تبقى عوامل داخلية وفشل إدارة غورباتشوف لإعادة البناء وتجديد الحزب، وغلاء النفط بعد احتلال الكويت من قبل نظام صدام حسين وإحراق أبار النفط وتدخل القوات الأمريكية والغربية في عاصفة الصحراء لتحرير الكويت، مما عكست نيرانها على الاقتصاد السوفياتي.
لقد كان الانتصار الأمريكي الثاني والكبير بانتصار التيار الليبرالي في استلام السلطة بقيادة يلتسين وحلفاءها ،مما سهل لها السيطرة على كل العالم والعربدة على كل الكرة الأرضية،وخروج القطب الواحد،مما ساعد أمريكا فيما بعد باستعادة كل الأموال التي تم صرفها سابقا على الخطط التي تم وضعها لانهيار الاتحاد السوفياتي.
انقلاب 91 بين بحيرة البجع ودبابات الدولة:
في 19 آب- أغسطس 1991 في السادسة صباحا اقفل التلفاز الروسي الرسمي البث وبداء بث مسرحية بحيرة البجع بموسيقيتها الكلاسيكية والتي تذكر السوفيات بالحزن أو حوادث الكوارث الإنسانية والسياسية، والدبابات تحتل شوارع العاصمة السوفياتية موسكو، فالانتشار الذي سيطر على الساحة الحمراء ومقر البيت الأبيض مركز الرئاسة الروسية تيمنا بالبيت الأبيض الأمريكي، بعدها يتم إعلان البيان الأول من قبل قادة الانقلاب بقيادة نائب رئيس السوفيات الأعلى، غنادي غنايف الذي كانت يداه ترتجف أثناء قراءة البيان رقم واحد لقيادة الانقلاب والذي بررته، نظرا لحالة رئيس البلاد الصحية تم إعلان حالة طوارئ لقيادة جمعية تدير شؤون البلاد.
فالبداية قيادات الجمهوريات أيدت قادة الانقلاب، وأعلنت انضمامها لقيادته،عدى بعض المئات من سكان موسكو الذين رفض التأيد وحاول اعتراض دبابات الجيش بانتظار ردة فعل الرئيس يلتسين، فقادة الانقلاب لم يعتقلوا يلتسين ولا احد من القادة الليبرالية، مما شجع هذه القادة على التحرك والتجمع ودعوة الشعب للتجمهر لكن يلتسين استطاع قطف الصورة من يد قادة، من خلال قيادة الجماهير المنتشرة بالشوارع وصعوده إلى إحدى الدبابات العسكرية وتلى الخطاب الشهير الذي يدعي أهل موسكو وروسيا للتجمهر في موسكو للدفاع عن رئيس الجمهورية المنتخب شعبيا والوقف بوجه الانقلاب غير القانوني الذي يقوده رجال المخابرات الـ”كي جي بي”، التي تحاول إعادة البلاد إلى سيطرة المخابرات، لقد نجح يلتسين بلف الشعب حوله من خلال دعوتهم لمحاربة الانقلابيين، وفشل الانقلابيين الذين كانوا يحاولون المحافظة على الدولة السوفياتية وإبقاء الإمبراطورية الشيوعية، بطريقة غير عادية “الانقلاب” فالشعب له تجربة طويلة ومريرة مع المخابرات ولا يريد الدفاع عنها، وكذلك غياب الكوادر القديمة التي لها علاقات وثيقة مع الشعب الروسي والسوفياتي.
جئت الفرصة لعند يلتسين وبداء يلعب الورقة بطريقة صحيحة، لقد اتصل بقيادة الوحدات العسكرية وقيادات الجيوش وطالبها بعدم التدخل، تغير موقف رؤساء الدول السوفياتية الطامحة للسلطة الجديدة، مساعدة المحافظين في المدن الكبرى ،غياب غورباتشوف الذي انتظره الشعب ليأخذ زمام الأمور بيديه، مما استدعى الصحف السوفيية التي خرجت بعناوين مختلفة ولكنها طرحت سؤال جوهري عن مصي رئيس البلاد المنتخب شعبيا وهذه الفرصة التي أضاعها غورباتشوف والتي رفعت رصيد يلتسين بقيادة المواجهة المدعومة شعبيا ضد الماضي الأليم للشعب، وتجربته الخاصة مع رجال المخابرات السوفياتية، لذلك الشعب سمع لدعوة يلتسين في لدفاع عن الجمهورية ضد الحركة الانقلابية.
لقد نجح يلتسين في أنهى الحركة الانقلابية وسحبت الدبابات من الشوارع وفي 20 أب /أغسطس في العام 1991 تم اعتقال قادة الحركة الانقلابية والجزب بهم في السجن الذي دام لسنة ونصف دون محاكمة ،دو توجيه أي تهمة لهم من اجل محاكمتهم.لان القرار التاريخي الذي اتخذته الحركة الانقلابية بعدم فتح النار والذي يؤدي إلى حرب أهلية داخلية تسفك فيها الدماء ،وهذا القرار يعود إلى وزير الدفاع السوفيتي المارشال يازف.
في 22 آب – أغسطس 1991 لقد أعيد الرئيس غرباتشوف من منفاه الاختياري في جزيرة القرم مدينة”فيدوسي ” الأوكرانية، لكنه أعيد ليس بصفته كرئيس للدولة الكبرى وإنما أتى به ليوقع اتفاق على حل الدولة الرئيسية الطامحة للاستقلال بناءا لطلب قيادتها وليس لشعبها،وكذلك ليوقع قرار ينهي به عصر الشيوعية، والحزب الشيوعي الذي امتلك 14 مليون عضو لم يدافع عن إيديولوجيتهم ونظريتهم وحزبهم،بل تركوا الساحة لعض الألف من الليبراليين لتسقطوا الإمبراطورية الكبرى. لقد احتفل الليبرالي بنشوة الانتصار بحل الاتحاد السوفيتي، وحل الحزب الشيوعي وتحطيم تمثال فيكلس درجنسكي من أمام مقر المخابرات العامة في ساحة اللوبينكا لكون التمثال يرمز لقوة المخابرات السوفياتية.
في 26 اب- أغسطس 1991 انتهى عمل الاتحاد السوفياتي نهائيا بعد توقيع اتفاقية من زعماء الدولة المستقلة الجديدة ،”بوريس يلتسين”رئيس روسيا” ولينيد غفراتشوك” سكرتير الحزب الشيوعي الأوكرانية” ومن ثم رئيس أوكرانيا، وستنسلاف شوشكفتش”. وفي ذكرى 20 عاما على انهيار الاتحاد السوفيتي وفي مقابلة مع الرئيس السابق مخائيل غورباتشوف على شاشة القناة الروسية ضمن فيلم روائي تحت عنوان رؤية عن انقلاب أب 91، في 22 آب- أغسطس 2011 يقول فيها غورباتشوف، ما الفائدة بالذي حصل عندنا،وتعود روسيا إلى الوراء،وان تكون روسيا دولة شمولية تجرى فيها انتخابات حرة ونزيهة وشريفة دون تزوير لنتائجها.
الخاتمة:
الجميع مشاركو أحداث آب- أغسطس العام 1991 أسلموا نفسهم لذمة الله، وأعاد اعتبارهم جميعهم، وتم دفنهم كأبطال للدولة في مقبرة العظماء في الكريملين، حاولوا المحافظة على دولتهم برقهم المختلفة، بظل رئيس “فلاديمير بوتين” أعاد لروسيا نشيدها الوطني الذي هو نشيد الاتحاد السوفيتي، وفعل دور المخابرات الروسية، وأعاد الاعتبار الرسمي لروسي ودورها على الخارطة الجيو-سياسية الإستراتيجية التي فقدته بعد انهيار الاتحاد السابق.
لكن شأن أم أبينا بان غورباتشوف الذي يبرر أحيانا أو لا يبرر كيفية انهيار الإمبراطورية العظمة، وسير الأحداث، بطريقته الخاصة، لكنه كان يملك أعلى سلطة في العالم، و لم يتمسك بها، حقنا لإراقة الدماء في دولة تملك أكبر ترسانة سلح في العالم بما فيها أسلحة الدمار الشامل.
لقد رحال غورباتشوف لم يلقى التكريم اللازم كرئيس للاتحاد السوفياتي وكأمين عام للحزب الشيوعي دون أي تكريم من قبل الدولة الروسية حيث بات الخلاف واضحًا بينه وبين الرئيس فلاديمير بوتين الذي لم يمنحه غورباتشوف أي تبرير في إحتلاله لأوكرانيا في الحرب الاخيرة.