علال الفاسي .. الإصلاح السلفي ( 3-4)

علال الفاسي .. الإصلاح السلفي ( 3-4)

جورج الراسي

ما يصلح لزمان لا يصلح لزمان آخر.  وما يعني شيئا في  تاريخ مضى قد يعني شيئآ آخر في تاريخ لاحق. لذلك يجب أن توضع كل المفاهيم في إطارها الصحيح وفي الحقبة الزمنية التي تواجدت فيها.

من هذه المفاهيم الأكثر اختلاط على الفهم مفهوم “السلفية”: هل هي السير على خطى السلف الصالح”؟ أم هي التشبث بتلابيب ماض أكل عليه الدهر وشرب؟

علال الفاسي افضل من يجيب على مثل هذه الأسئلة لأنه عاصرها وعايشها.

وكما شرح في محاضرته الدمشقية نهاية الأربعينيات الجذور الحضارية الفينيقية للمغرب العربي عموما، فإنه ركز في محاضرة القاها في القاهرة في بداية الخمسينيات، على تطور الحركة السلفية في المغرب وكيفية تحولها إلى حركة وطنية، والروابط التي كانت قائمة بينها وبين أقرانها في المشرق العربي.

هذا يضعنا في أجواء الحراك التي عاشته بلادنا مشرقا ومغربا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن المنصرم.

“جامعة القرويين” أولا

من مفارقات التاريخ المغاربي عموما أن تكون الحركة الوطنية العصرية قد نشأت في أحضان الحركة السلفية. فقد ازدهرت في أوائل القرن العشرين حركة الدعوة السلفية في البلاد العربية ، وفق ما يرى علال. وساهمت المطبعة في نشر كثير من كتب من اعتبروا حينها من المصلحين، أمثال ابن تيمية وابن القيم والشاطبي وابن الحاج وغيرهم، فأحدث ذلك مفعولا في تلك الأوطان، وإنتقلت الدعوة من يد الحكومة أو الملك إلى يد نخبة من العلماء، فكان اول شخص تصدى من أبناء قومنا لنشر الدعوة هو الشيخ عبد الله النوسي، وهو واحد من علماء القرويين، سافر إلى  المشرق، واتصل بأقطاب الدعوة في مصر والحجاز وتأثر بهم واقتنع بأفكارهم ثم عاد آلى المغرب ليبشر بدعوتهم داخل الجامعة القروية، وليجمع حوله ثلة من الأتباع والأنصار. لكن جمعا من العلماء تحالفوا ضده وكتبوا إلى السلطان ليفصله من الجامعة بحجة اجتراح البدع والخروج عما هو متعارف عليه.  إذا حتى اتباع السلفية في ذلك الوقت لم يكونوا على قلب واحد، وكانت الخلافات تعصف بهم.

جمال الدين الأفغاني يدخل على الخط

المصلح الأول الذي ترك صدى واسعا في المغرب كان بلا شك جمال الدين الأفغاني الذي اعطى السلفية طابعا جديدا يتسم بالشمولية، يغطي كل جوانب الروح والفكر والعمل، وكل معالم الحياة الإسلامية من دين وعلم وعمل واسلوب معاش ومن الذين تتلمذوا على يديه في المغرب الأقصى  الشيخ محمد بن العربي العلوي.

 وواقع الأمر كما يرى علال، ان فروقات واضحة ميزت الحركة السلفية  وفق أماكن تواجدها. فقد غلبت عليها السياسة في مصر والعالم العربي، في حين  طغى الجانب الاجتماعي في بلاد آسيا، اما المغرب فقد اخذ من المدرستين مع تغليب فكرة التجدد والتحرر  .

لذلك وجدت مجلة “العروة الوثقى” صدى واسعا عند وصولها، ونشرت آثار المصلحين من الهند إلى مراكش، وما لبثت أن توطدت اواصر التواصل والتعارف بين النخبة المغربية وجمعيات الدعوة في المشرق.

محمد عبده في تونس والجزائر

زيارة الشيخ محمد عبده الى تونس والجزائر، كان لها صدى كبيرا يتوقف عنده علال الفاسي، ولو ان الشيخ المصري لم يتمكن من زيارة المغرب الأقصى ، لكنه راسل العديد من أقرانه المغاربة، حتى أن مفتي فاس الشيخ المهدي الوزاني الف كتابا يؤيد فيه وجهة نظر محمد عبده في مسألة ذبائح أهل الكتاب.

وقد سار على نهج الإصلاح السلفي كل من الشيخ أبي شعيب الدكالي ومحمد بن العربي العلوي، فأقام الأول في الرباط والثاني في فاس. وقد  جمع الشيخان عددا كبيرا من التلاميذ حولهما.

وعندما صدر “الظهير البربري” في 26  أيار/ مايو 1930، تحولت الحركة السلفية إلى حركة وطنية تريد إقرار الشرع الإسلامي ومقاومة السيطرة الأجنبية في آن واحد .

هكذا دخلت السلفية في ذلك الوقت دائرة العمل السياسي الوطني، وشملت دعوتها كل النواحي الأدبية والثقافية والإجتماعية.

من حرب الريف إلى عبد الحميد بن باديس

لقد لعبت حرب الريف شمال المغرب بقيادة البطل عبد الكريم الخطابي في عشرينيات القرن المنصرم دورا كبيرا في إيقاظ شعوب المنطقة في تونس والمغرب والجزائر.  

كما لعبت مجلة “الشهاب” التي كان يصدرها الشيخ عبد الحميد بن باديس في الجزائر،  ويرجع له الفضل في تأسيس “جمعية العلماء المسلمين”، دورا كبيرا في الترويج للدعوة، وقد ربطته علاقة صداقة مع علال .

وقد اجتمع الطرفان على محاربة الجمعيات الطرقية. هكذا اعتبر السلفيون  في ذلك الوقت ان العمل الدعوي الذي يقومون به هو عمل مواز ورديف لكفاح المجاهدين في الجبال من أجل تحرير بلادهم من سطوة الإستعمار.

ومما اعطى الدعوة السلفية رصيدها، حملة الفرنسيين ضدها واعتقالهم الكثير من  رجالها، و تهديدهم للآخرين.

ويذكر علال حديثا له مع الكومندان Odino الذي استدعاه مع الشيخين  محمد غازي والعابد الفاسي لإدارة الأمور الأهلية في فاس، فهددهم وحذرهم من الإستمرار في مقاومة المشايخ الممالئين للإستعمار قائلا لهم: “إننا نعلم انكم لا تقاومون عبد الحي الكتاني، وعبد الرحمن الدرقاوي وامثالهما إلا لأنهم احبابنا، وقد علمتم انهم تحالفوا معنا في احرج المواقف ضد عبد الكريم الخطابي واترابه من الثوار، فلا يسعنا إلا ان ندافع عنهم الآن، و نكون في صفوفهم ضدكم”.

المحافظة على القرآن واللغه العربية

لقد ترافقت مقارعة الإستعمار مع تطوير اللغه العربية وتجديد اساليب الوعظ والخطابة وبعث الأحاديث الصحيحة لتحل محل الخرافات وتم تأسيس جمعيات المحافظة على القرآن الكريم، وتوحيد الخطابة في المساجد.

ويروي علال كيف تدخل الفرنسيون لإبطال هذه الإصلاحات البسيطة إلى درجة انهم ساقوا الجند لمحاصرة المصلين في مدينة “تازة”، لكن جمعيات المحافظة على القرآن الكريم واصلت لعب الدور المنوط بها.

 وكما فعل الشيخ بن باديس في الجزائر فقد قامت الحركة الإسلامية في المغرب بتجديد اساليب التعليم، فأسست في مدينتي فاس والرباط المراكز النموذجية الأولى للمدارس القرآنية المجددة، وللمدارس الحرة التي ترتكز على تطبيق برامج عصرية مصحوبة بالتعليم رغم محاربة السلطات الفرنسية لها ويعود لها الفضل الأول في المحافظة على تعاليم الإسلام واللغة العربية.

وقد عملت الحركة على تجديد اسلوب التعليم في جامعة القرويين وفي المعاهد الدينية. وقام علماء شباب بالقاء دروس ليلية في مختلف المعاهد والمساجد يحضرها آلاف المواطنين، داعين إلى النهوض بمجتمع  عصري وكان الكثيرون من هؤلاء الدعاة يتعرضون لإلقاء القبض عليهم بتهمة نشر التعصب.

ويذكر علال انه كان هو شخصيا من ضحايا هذا التدخل الفرنسي ، إذ أصدرت السلطات الفرنسية امرا بتوقيف الدروس التي كان يلقيها بين سنتي 1930 و1934  ، والتي كان يحضرها الآلاف من الطلبة ومن رجال الشعب.

وصدر الأمر مباشرة من إدارة الشؤون السياسية الفرنسية، بعدما فشلت اربعا وعشرين مرة خلال تلك المدة في اقناع المجلس الأعلى للقرويين  بالتدخل لوقف دروسه.

الوطن محل القبيلة

الأفكار التي نادى بها علال واقرانه في تلك المرحلة كانت متقدمة لا بل “ثورية”، ومطابقة لمتطلبات النضال الوطني، وهي تسعى إلى  تعبئة الأمة  والتكتل من أجل تحرير البلاد.

فهو يقول ان الأمة التي قامت في الماضي على “جهاز اجتماعي” قوامه القبيلة والمرابطية اصبح عديم الجدوى في العصر الحديث بسبب ما  سببته القبلية من تفريق في الأمة وما وطدت له المرابطية  من استسلام.

لم تعد تلك البنى قادرة على التماشي مع حاجات المجتمع الإقتصادية، ولا بد من إحلال الوطن محل القبيلة.

لقد اصبح الفرنسيون ينظرون إلى حزب الإستقلال على انه يمثل حركة التجدد الإسلامي التي البسها لباس العصر جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.

يتبع: الوصايا الأخيرة والموت في مكتب شاوشسكو (4 ــــ 4)

Visited 49 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

جورج الراسي

صحفي وكاتب لبناني