حين قال لي زفزاف: عثرتُ لك على كنز

حين قال لي زفزاف: عثرتُ لك على كنز

المصطفى اجماهري

     يرجع أول لقاء لي بالأديب المغربي محمد زفزاف إلى أواخر السبعينيات من القرن الماضي، تعرفت عليه، أول الأمر، بواسطة الشاعر الميلودي بلحديوي الذي كان قد أجرى معه حوارا نُشر بالفرنسية في جريدة “لبراسيون” الأسبوعية. ومنذ ذاك أصبحت أزوره كلما سنحت الظروف، إما بمفردي أو رفقة الصديق بلحديوي، فنتحدث في كل شيء يهم الأدب وغير الأدب. وكثيرا ما حدثني الراحل بدعابته المعهودة عن منطقة دكالة التي كان قد خصّ أحد قوادها بقصة له مشهورة بعنوان “بئر الأفاعي”. وفي إحدى زياراتي الخاطفة إلى بيته أصر على أن أشاركه وجبة استثنائية عبارة عن كسكس، قال لي زفزاف بلهجة مرحة: “تفضل سي المصطفى، هذا كسكس دكالي أعدته دكالية مثلك”.

   وستتاح لي الفرصة ذات يوم لأعرض عليه إضمامة من قصصي القصيرة، كنت أعددتها للنشر. مررت عليه هذه المرة بمقر عمله بثانوية فاطمة اعزاير (المناضلة اليسارية المشهورة باسم فاما) في حي النجد، وسلمته المخطوط. بعد أيام، قرأه المرحوم باهتمام وخصّه بكلمة تقديم رقيقة، ما زلت أحتفظ بها مكتوبة بخط يده. ثم نصحني بإرسال العمل إلى دار نشر عربية، لأن ذلك، كما قال، كان أفضل بالنسبة لكاتب شاب. وعملا بنصيحته فقد اخترت إرسال المجموعة إلى اتحاد الكتاب العرب بسوريا، وصدرت المجموعة في دمشق عام 1984 تحت عنوان “حرائق ودخان”.

   وذات يوم من عام 1985 وصلني إلى مدينة الجديدة خطاب بريدي من المرحوم، وهنا أود أن أفتح قوسا لأقول إن زفزاف كان أحرص الناس على تسجيل عناوين أصدقائه وزواره وأرقام هواتفهم في مذكرته بشكل دقيق. فأشد ما كان لا يفرط فيه المرحوم هو التواصل الدائم عبر البريد والهاتف. لقد كان حريصا على هذا الجانب ومنظما بشكل كبير، عكس ما كان يعتقده البعض خطأ. وعكس من يطلب منك عنوانك ورقم هاتفك عدة مرات دونما فائدة. وحين فتحت رسالته وجدت فيها كلمات قليلة كتبها بخط كبير، تقول: “أخ مصطفى، اتصل بي في المنزل لقد عثرت لك على كنز”.

   ذكرتني رسالته البرقية بعنصر التشويق الذي كان بارعا فيه، وبه كان يشد القارئ إلى قصصه ورواياته. لكن هذه المرة لم يكن الأمر يتعلق بحدث من نسج الخيال بل بواقعة حقيقية وبأمر ذي بال. وتساءلت مع نفسي ما يكونه ذلك الكنز؟ وكيف تأتّى لزفزاف أن يضرب الخط الزناتي ويعثر لي على كنز ضائع في الدار البيضاء في هذا الزمن الشحيح الذي نحياه؟ ومع تساؤلي هذا فقد ثمنت على موقفه، إذ لو كان أحد غيره لربما أحجم عن إخباري، فصيادو الغنائم يسبقون أهل الشأن إلى الولائم.

   وبما أنني كنت متعطشا لمعرفة “كنزي” فلم يبزغ صبح اليوم الموالي حتى كنت استقليت سيارة أجرة من الجديدة نحو محطة العوينة، القريبة من سكن زفزاف في حي المعاريف. وربما قد جريت في الطريق حيث وجدتني أقفز الدريجات نحو شقته في الطابق الثاني بزنقة ليستريل. دققت الباب واستقبلني بابتسامة بليغة. جلسنا على الأريكة ونورني بالتفاصيل. قال لي رحمه الله: “أعرف أنك تحترق لمعرفة الكنز. الأمر بسيط، فمنذ سنة أرسلت لك مجلة “الأقلام” العراقية مكافأة مالية مقابل ما كتبته بها، وبما أن المجلة لم تكن تملك عنوانك الصحيح فقد حوّلته في اسمك إلى المقر المركزي للبنك المجاور لحديقة الجامعة العربية. وقد ظل المبلغ مجمدا هناك إلى أن جمعتني مؤخرا جلسة بأحد الأصدقاء يعمل بالمصلحة المذكورة، فأخبرني بوجود مكافأتك وطلب مني الاتصال بك”.

   وبما أن خير البر عاجله، فقد بادرنا توا إلى ركوب الحافلة رقم 7 القريبة من سكن زفزاف، واتجهنا إلى مقر البنك، حيث قدمني لصديقه الذي رافقني إلى الشخص المسؤول. هذا الأخير، بعد القيام بالإجراءات، سلمني المبلغ. قلت لزفزاف ضاحكا وأنا أريه الوريقات القليلة التي تسلمت: “يا سي محمد، هل تعتبر هذا كنزا ؟” . رد علي بفلسفته المعهودة: “أليس ذلك أحسن من لا شيء”.

   شكرته على صنيعه، ثم رافقته إلى مقهاه المفضل حيث جالسته هناك قبل توديعه.

   بعد ذلك شاءت ظروفي الخاصة أن أعود لاستكمال دراستي الجامعية بالرباط، بعد فترة انقطاع دامت عدة سنوات، فكنت أحيانا أمر عليه بشقته في حي المعاريف بين محطتي الجديدة والرباط، إما في رحلة الذهاب أو الإياب.

   توفي محمد زفزاف في الثالث عشر من يوليوز 2001، بعد معاناة طويلة مع المرض، وتركت وفاته فراغا كبيرا في الساحة الثقافية المغربية كما لدى أصدقائه ومحبيه خاصة بمدينة الدار البيضاء. ويعود الفضل لزميله الصحفي عبد الرحيم التوراني، الذي كان قريبا منه، في الكشف عن كثير من ذكرياته الشخصية مع الراحل وعن طبيعته الإنسانية وعلاقاته مع المثقفين وبعض المسؤولين من أصدقائه. كما خصّه الناقد صدوق نور الدين بكتاب تضمن مذكراته وبعض تفاصيل حياته، صدر تحت عنوان “كتاب محمد زفزاف”.

Visited 7 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

المصطفى اجماهري

كاتب وناشر مغربي