النسوية الإسلامية

النسوية الإسلامية

لحسن أوزين

     مع سيرورة القراءة، سيتضح للقارئ الغرض من هذا الجمع بين النسوية والإسلام. وقد تزول الكثير من الالتباسات التي جرت العادة على طرحها والاعتراض بشدة على التجاور والترابط المفاهيمي بين الشيء ونقيضه، بين النسوية والاسلام.

   أعتقد أن مسألة المرأة اليوم هي وحدها ما يمكن أن يجعل الإسلام راهنا ومعاصرا. ومتحررا من كونه تجربة خصوصية في التاريخ. ونقصد هنا كل القيم الدينية الإسلامية التي طالت بالدونية المرأة، من حلال السبي والامتلاك، الى الاستعباد والاسترقاق. هذا يعني بشكل واضح الإماء والجواري… هؤلاء النساء اللائي أخرجهن الدين من دائرة الانسان والتكريم.

   صحيح أن المسلمين من العامة والمفكرين والعلماء في الفكر الإسلامي، القدماء منهم والمحدثين، كثيرا ما تغنوا بتكريم الانسان، وبتحسن وتميز وضع المرأة في ظل الإسلام. لكن أغلبهم لم يتجرأ على تناول خصوصية القيم الإسلامية التي لم تخرج كليا، عن الاطار المعرفي الاجتماعي الثقافي السائد في تلك المرحلة. لذلك استمرت الكثير من القيم اللاأخلاقية واللاإنسانية بالمعنى المتعارف عليه اليوم، راهنا. حيث كان من الصعب تحريم الرق والعبودية، في مجتمعات تؤمن بأن الناس مراتب ومنازل أجتماعية، أي مواقع “طبقية”. فقد كانت تعاش التراتبية الاجتماعية كما لو كانت قوانين طبيعية حتمية. الشيء الذي جعل من الصعب على كل الديانات والمجتمعات أن تتحرر كليا من العبودية والرق.

   لذلك فإن أي إسقاط للمعاني الاجتماعية والفكرية المعرفية، والقانونية الأخلاقية لقيم الحرية والمساواة والعدالة والكرامة… على الواقع التاريخي الاجتماعي، والثقافي الديني للمجتمعات البشرية في الماضي، ومن ضمنها المجتمعات الإسلامية يعد مغالطة تاريخية. ويعد نوعا من التثبيت النفسي المرضي، والتنكر للواقع في معطياته الموضوعية والذاتية. كما أن محاسبة هذا الواقع التاريخي الاجتماعي في قيمه المحدودة والخصوصية في بعدها الاجتماعي والعرقي والجندري…، يعد أيضا مغالطة تاريخية، بعيدة عن التناول الفكري النقدي، والمنهجي العلمي.

   لهذا نعتقد بأن التناول الموضوعي النقدي، هو القادر على التجديد والاستئناف لسؤال القلق المرتبط بالإنسان، كأرضية أساس للبناء، وليس الانطلاق من قضايا مطلقة مجردة. لأن الانسان هو مركز التحولات والديناميات والتغيرات السوسيولوجية…

   بهذا المنظور نؤسس التفكير النقدي، ونبتعد عن التجديف، والمغالطة. ونقترب من التأسيس لإشكاليات المراجعة النقدية واستئناف النهوض من جديد على ضوء الواقع الحي وما يطرحه من متطلبات، ويفرضه من تحديات.

   فمثلما كان بروز الفرد مستحيلا، كقيمة اجتماعية ثقافية، فأيضا كان غير مقبول معرفيا وأخلاقيا واجتماعيا القبول بالمساواة كما نفهمها في يومنا هذا. لهذا نعتقد أن تفكيرنا من زاوية المرأة المقهورة، وبشكل خاص من زاوية الأمة والجارية والمملوكة، يجعلنا نفكر نقديا في حدود ومحدودية القيم الاجتماعية والثقافية والدينية التي سادت منذ ظهور الإسلام. هذا يعني أن المقاربة الاسترقاقية/العبودية تضعنا أمام أسئلة حارقة، وتفكير مؤلم ضروريان لتحرير الإسلام من سقفه التاريخي وجعله أكثر راهنا ومعاصرا.

   فإذا كان المسلم في الماضي يقبل ويتقبل مجتمعه أن يبيع إنسانا مثله، وتقام الأسواق لذلك، ويستغل الإماء والجواري للمتعة والاعمال..، دون حس أخلاقي مقرف تجاه ما يأتيه من تصرفات وسلوكات تمس بالقيمة الإنسانية لهؤلاء العبيد، نساء وأطفالا، ورجالا. وأيضا حين يتجرأ السيد على تفكيك الأسرة، ببيع أطفال العبيد في الأسواق، دون عقدة ذنب، أو تأثيم ضمير. فاليوم يبدو للإنسانية أن هذه الظواهر والقيم الداعمة لها، لاأخلاقية، وفظيعة منحطة، ولا إنسانية، وغير مقبول هذا أخلاقيا ونفسيا وعلائقيا…

    كما أنه مناقض لما وصل اليه الشرط البشري الحضاري في احترامه للإنسان، قانونيا ونفسيا وواقعيا، ومبدئيا لقيمة وإنسانية النساء. وتجرم كل أشكال الرق والعبودية والانتهاكات والاغتصاب…

   بالإضافة الى أن هذا مخالف ومناقض لمنظومة ومبادئ حقوق الانسان.

   هكذا نفهم لماذا هذا الربط بين النسوية والإسلام، لكون المرأة تاريخيا كانت معرضة للدونية والتبخيس والقهر والاضطهاد. لهذا فإن الراهنية والمعاصرة، أي ما يسميه البعض بالتجديد هو هذا الاشتغال النقدي على العلاقات الاجتماعية، والرؤى، والأفكار، والقيم الدينية التي كانت تناسب طبيعة الظروف والشروط التاريخية في ماضي تلك المجتمعات. حيث كان من الصعب على التغيير الذي توخاه الإسلام، أن يخرق الاطار المعرفي والثقافي والاجتماعي في أسسه المادية والرمزية، بشكل كلي لتلك المجتمعات. لأن هذه المجتمعات لن تستوعب مثل هذه القطيعة الجذرية على مستوى البناء الاجتماعي والثقافي والديني. وأي دعوة جذرية في القضاء على العلاقات الاجتماعية المسيطرة، ستعتبر فضيحة أخلاقية واجتماعية في ذلك الزمان.

   لهذا فإن التفكير في التجديد اليوم، هو تفكير في الراهن. وهذا يعني وعي بخصوصي التجربة الإسلامية في التاريخ. والمقصود هنا بالخصوصية أن الدين موافق لبيئته وابن بيئته، فما يبدو جديدا ومتميزا ويفتح أفقا للكرامة والإنسانية والعدالة…، كان في الواقع محدودا بسقف استرقاق وامتلاك وتملك الانسان. وبالتالي فالمقاربة الاسترقاقية/العبودية تجعلنا نعترف ونمارس جدارة التفكير المؤلم.  

 لكي تحظى قيمنا الدينية بالراهنية واليومية، يعني لكي تكون صالحة لهذا المكان ولهذا الزمان، علينا أن نفكر نقديا، ونوسع أفاق الموروث الديني في نصوصه وتراثه الثقافي. بل واعتباره ورشات مفتوحة، وتتطلب الاجتهاد والتفكير والتوسيع والتعميق النقدي، حتى تمتلك شرعية معرفية وقيمية وثقافية واجتماعية في اكتساب جدارة الانتماء للإنسانية.  والتحرر بذلك من عقدة التثبيت في ماضي السلف. و التخلي عن الزعم المغلوط أن ديننا جاهز ومانع  ونهائي، ولا يحتاج للاجتهاد والنظر العقلي والتفكير النقدي المؤلم.

    والمدخل لهذا التغيير والتحول يمر من الحلقة المقهورة والمضطهدة والمهمشة والمستعبدة، وهي النساء.

   وبذلك ينفتح أفق واسع على فئات اجتماعية كثيرة طالها الظلم والاحتقار، وسلخت منها قيمتها الإنسانية: النساء والإماء والجواري، وكل العبيد…

   كما ينفتح أيضا أفق رحب للنظر في النفس ومدى شرعية قتلها في سبيل الله بدعوى نشر الإسلام، تقربا الى الله. وممارسة السبي، والسطو على ممتلكات الناس واستباحة أرواحهم ونسائهم… باسم الفتح  الذي هو في حقيقته التاريخية غزو وعدوان واستعمار…

   وهذا يتناقض مع الآفاق الرحبة والعميقة لكلام الله في تحريم قتل النفس: الموؤودة، وقتل النفس بصفة عامة، واحترام الديانات والمعتقدات لأنه “لا إكراه في الدين”. لذلك علينا أن نكون في مستوى أمل النص الديني، عوض خنقه ومحاصرته في شروط تاريخية اجتماعية ثقافية ماضوية: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْـَٔلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ).

   هل نستطيع ممارسة مثل هذا التفكير المؤلم، في الاعتراف بالإنسان والاحتفاء بكرامته وقيمته الإنسانية والوجودية أولا. والتخلي عن تقديس ما لا يقدس من القهر والظلم والبطش والتوحش، الذي لا علاقة له بقيمة وحرمة الانسان، الذي هو منطلق الإيمان وأساسه الشرعي، في التفكير، والتدبر والتدبير، والفهم والتأويل…؟

    تفكير مؤلم لأنه تفكير نقدي، دون أن يعني فقدانا للإيمان، ولا تجديفا أو تهجما على الدين، في النظر العقلي والمعرفي والمبدئي والواقعي، في السقف المحدود للقيم الدينية، كما عاشها السلف، كشيء جديد وتحول نوعي، لكن ذلك لا يناسب في الكثير الآفاق الرحبة لما يسعى إليه الانسان اليوم. لا ينبغي العيش في الالتباسات، والخوف من بناء المعنى لحقيقة وجودنا الإنساني، وتكريس التستر على الألم والغرق في عذاباته.  يتبع…

Visited 8 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي