صحافة الحزب أولا…
جمال المحافظ
لقد كان استعمار المغرب “ضربة من القدر” ، أو بالعكس أنه قام بواجب حضاري، في منطقة تميزت بخلل مستمر وبقلة الإبداع، كما سجل المفكر عبد الله العروي في مؤلف “استبانة”، على الرغم من أن هناك من يرى أن الحياة السياسية تميزت في فجر الاستقلال بـ”تعددية منفتحة” قوامها أحزاب منبثقة من حاجة شعبية عميقة ومتأججة، لبناء مؤسساته الديمقراطية.
وإذا كانت التعددية المغربية، ظاهرة متميزة، تفرز دائما المخاطب المؤهل في ساعة التوتر، وتعطى قاعدة لبناء توازن ولخلق استقرار متين ما أشد حاجة المجتمع إليه في هذه المرحلة، حسب ما جاء في كتاب : “صباح للديمقراطية، للغد” لمحمد العربي المساري (1936 – 2015)، فإنه على المستوى الإعلامي، تميزت الصحافة، بالسمة السياسية في بداية الاستقلال، كما كان عليه الحال في فترة الحماية، وظل حضورها على الساحة الوطنيورهينا بتحولات الوضع السياسي، مما أدى الى ترابط ما بين مصير الجريدة ومآل الحزب السياسي، وبالعلاقة مع النظام السياسي.
المناضل الصحفي
وبالنظر الى هذا التلازم المطبق ما بين الصحيفة والحزب الصادرة عنه، فإن الحياة الصحفية ظلت مرتهنة بمجريات الحياة السياسية والحزبية، مما جعل البعض يعتبر أن دراسة تاريخ أي حزب مغربي تتسم بكل وضوح من خلال دراسة صحافته. كما أن التمكن من ضبط شكل وطبيعة ووظيفة الصحافة الحزبية المغربية يتضح ارتكازا على العلاقة التاريخية والعضوية بين الحزب والصحيفة، وهو ما أفرز جدلية جد المحكمة ما بين الطابعين الصحفي والسياسي.
وإذا كان فجر الاستقلال والظروف التي عاشها المغرب آنذاك، اعتبر أدق مرحلة في تاريخ التطور المغربي في المجالات السياسية والثقافية و الاقتصادية، فإن مفهوم ” الانطلاق الصحافي”، ظهر في تلك المرحلة وحان الوقت للصحافة، أن تتخلص من القيود التي كانت مفروضة عليها، وأن تعبر بحرية.
وكما كان عليه الحال في فترة الحماية، تميزت الصحافة المغربية، في مرحلة الاستقلال، بالسمة السياسية، وظل تواجدها على الساحة رهينا بمتغيرات الواقع السياسي، وأفرز ذلك تقليدا تمثل على الدوام بالترابط الحتمي ما بين مصير الجريدة ومآل الحزب السياسي.
صحافة الحزب
وبذلك، ارتبطت الصحافة المغربية في مجملها بالمشهد السياسي، وكذلك بالعمل الحزبي، فيما ظلت وظيفة الصحافة الحزبية منذ عهد الاستقلال، محكومة بمنطق الصراع السياسي، الذى يختزل في إطاره الصراع بين النخب، وطموح الحركة الوطنية في كسب ود الجماهير وممارسة الحكم، كما يرى بعض الباحثين.
وهذا ما جعل حياة الصحيفة، تظل رهينة بملابسات وتجاذبات الحياة السياسية والحزبية، وذلك بالنظر الى التطابق التام بين الصحيفة والحزب الذى يعد جانب كبير من دراسة تاريخه، تتسم بكل وضوح من خلال الرجوع الى مضامين جريدته الصادرة عنه.
فهذا الأمر جعل مما أزمة الفاعلين السياسيين وفي مقدمتهم مكونات الحركة الوطنية ينعكس بقوة على الصحافة، التي كانت مطبوعة في أدائها بثلاثية الصراع الحزبي، وتصور بناء المجتمع الجديد، والتعبئة المطلبية، في الوقت الذي تميزت بدايات الاستقلال، باختيار المغرب بشكل طبيعي نظام التعددية، مستفيدا من الزخم القوي للمقاومة وتعدديتها السياسية والفكرية، وهو جعل أنه من الطبيعي أن تسعى سائر التوجهات السياسية إلى التموقع في الساحة الإعلامية التي طغت عليها الإقامة العامة، خلال المرحلة الاستعمارية.
صحافيون قياديون
وبحكم تكوينهم الإيديولوجي المحافظ (حزب الاستقلال)، أو الثوري (اليسار)، تنافس “المناضلون الصحافيون الجدد” من أجل احتكار “سوق متجدد” في ميدان الصحافة حيث كانت ” القوى التاريخية” هي الأولى التي استفادت من هذا الوضع.
وتزامن ذلك مع صدور قوانين وصفت بـ”التقدمية” في مجال الصحافة في إطار ظهير الحريات العامة في 15 نونبر 1958، والذي نص بشكل صريح على الحق في الحصول على المعلومات، وبالتالي أصبح من حق كل وسائل الإعلام الحصول على مختلف المعلومات ما عدا ذات الصبغة السرية طبقا للقانون.
ومباشرة بعد الحصول على الاستقلال عادت صحيفة “العلم” التي تأسست سنة إلى الصدور بعد توقيفها من طرف سلطات الحماية لمدة خمس سنوات. كما عادت بدورها جريدة “الاستقلال” الأسبوعية اللسان الفرنسي لحوب الاستقلال. كما صدرت سنة 1956 جريدة “الشباب” الأسبوعية كانت تصدرها الشبيبة الاستقلالية، في حين أصدر علال الفاسي سنة 1957 أسبوعية “الصحراء المغربية” وأسست العصبة المغربية لمحاربة الأمية جريدة “منار المغرب” التي كانت تصدر مشكولة موجهة للقراء المنتمين لأوساط غير المتعلمين.
وفي سنة 1959 أصدر حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بعد تأسيسه جريدة “التحرير”، وخلال ذات السنة، أصدر أحمد رضا اكديرة جريدة (les Phares) “ليفار” باللغة الفرنسية والتي كانت متخصصة في معارضة حكومة عبد الله إبراهيم، ومواجهة حزب الاستقلال، وهو نفس الدور الذي لعبته جريدة “الأيام”.
صحف الشيوعيون
بيد أن الملاحظة الجديرة بالاهتمام، تتمثل في أن الحكومات المتعاقبة، التي أتت في مطلع الاستقلال، (الأولى برئاسة البكاي بن مبارك الهبيل ما بين 1955 الى 1956 والثانية من 1956 الى 1958 ، وأحمد بلافريج في 18ماي 1958 واستغرقت ثمانية أشهر فقط وعبد الله إبراهيم من 1958 إلى 1960) لم توافق على الصدور العلني لجرائد هذه الهيئة السياسية التي كانت السلطات الاستعمارية، قد رفضت خلال فترة الحماية صدورها. لكن على الرغم من ذلك واصلت جريدة “حياة الشعب” الصدور بسرية، على الرغم من أن موزعيها ومقتنوها كانوا يتعرضون لمختلف عمليات القمع والزجر. إلا أن الرقابة على الصحف من طرف السلطة أنذاك لم تكن ذات بال، بالمقارنة مع ما ستعرفه نهاية الخمسينات والستينات والسبعينات، الرقابة على الصحف.
وفي فاتح ماي سنة 1962، صدرت جريدة “La nation africaine” الأمة الإفريقية بالفرنسية التي توقفت عن الصدور سنة 1965 وعوضتها L’opinion “الرأي” بالفرنسية. وبعد ذلك ارتفعت وثيرة صدور الصحف منها “العمل الوطني” و”شروق” وهي مجلة تعنى بشؤون المرأة والفكر ، وجريدتا “الأهداف” و”الدستور” ومجلتا “الطريق” و”المساء”، فيما كان الاتحاد المغربي للشغل، قد أصدر جريدة “الطليعة”، وحزب الدستور الديمقراطي “جريدة ” الرأي العام “. كما أعاد المكي الناصري إصدار جريدة “الشعب”، وبعد ذلك تم إصدار “المحرر” التي عوضت ” التحرير” .
وتحولت مجموعة “ماس” من الدفاع عن المصالح الاستعمارية إلى مساندة الحكومات بعد الاستقلال. كما غيرت صحيفة “السعادة” اسمها في عهد الاستقلال إلى “العهد الجديد” ثم “الفجر”، ورست أخيرعلى اسم “الأنباء”. وهذا ما جعل الصحافة الحزبية، تعطى الأولوية للحزب الصادرة بلسانه وأداة للتواصل مع مناضليه، عبر التراب الوطني، على حساب العلاقة ما بين الصحيفة وجمهور القراء.
الصحافة والتأريخ
وإذا كانت الصحف الصادرة في بداية الاستقلال تسعف في كتابة حقبة من تاريخ المغرب، على الرغم من أن غالبية الجرائد خلال هذه المرحلة، إما تابعة للأحزاب أو لحساسيات سياسية، تكون إما ذات ارتباطات بالمعارضة أو بالحكومة، تعتمد على كتاب مناضلين حزبيين، عوض صحافيين مهنيين، وهو ما جعل صحافة هذه المرحلة رهينة، لتسييس مبالغ فيه، مع إهمال للقواعد المهنية.
وارتباطا بذات السياق السياسي، يجدر التساؤل بصفة عامة مع عبدالله العروى، هل حققت الوطنية المغربية أهدافها ؟ قبل أن يجيب بأنه كانت تتجاذب هذه المرحلة ثلاث تيارات، التيار الأول كان يتساءل عن معنى الاستقلال؟، ويجيب على الفور، أن المعنى واضح، الإستقلال هو الانعتاق من التبعية، والخروج من الحجر. أما التيار الثاني كان يقول، إن الجميع يتوق الى الاستقلال، لكن ما مضمون هذا الاستقلال؟، إذا لم تسبقه إصلاحات جوهرية تغير بالكامل النظم الإجتماعية؟ في حين يدعي التيار الثالث أن الاستقلال لايعنى شيئا في عالم اليوم كلمة جوفاء، ترمي فقط الى تقوية المصالح الطبقية المسيطرة المتضايقة من مناهضة الاجانب ، والتي تود أن تستحوذ على كل خيرات البلاد، كما كتب العروي في مؤلف “استبانة” (ص ص 129 و 130).
وإذا كان من المؤكد أن علاقة الأحزاب بصحفه، لم تعد كما كانت في بديات الاستقلال، فإنه على خلاف البلدان الغربية التي اهتدت منذ عقود من الزمن إلى التخلي عن الصحف الحزبية، فإن غالبية الهيئات السياسية المغربية ظلت “وفية” لصحفها الصامدة لغاية الآن، وسط أعاصير التحول الرقمي.