يأتي ويمضي السائرون في الطريق ويبقى الطريق
د. عبد الكريم برشيد
في المحنة والامتحان
يقول الحكيم الاحتفالي في الوجود الاحتفالي، حتى تعرف حقيقة انت من أنت، فلابد لك من شيئين اثنين أساسيين، الأول هو المحنة، والثاني هو الامتحان، ومم طبيعة المحنة أن تريك معدنك، إن كنت صلبا كالحديد أو كنت رخوا كالعجين،
وأما الامتحان فهو يريك قدرتك وقوتك وصلابتك، وفي هذا الامتحان الوجودي تكون أمام احتمالين اثنين لا ثالث لهما، إما النجاح وإما الفشل، وأرى أن الإنسان المغربي اليوم موجود أمام محنة كبيرة، محنة قد تكون في طيها نعمة واحدة، أو نعم كثيرة بلا عد ولاحصر، وهو موجود أيضا أمام امتحان تاريخي كبير، وفي هذا الامتحان لا مجال أمامه سوى أن يكون أو لا يكون، ومن حق الطبيعة أن تقول كلمتها، ولكن من واجب الإنسان فيها أن يكون فاعلا، ويسجل فعله في التاريخ، وأن يكونةفعله بلون وطعم ومعنى التحدي، وهل الحياة – في معناها الحقيقي – إلا التحدي الخلاق والمجدد والمغير؟
وللاحتفالي في خزانته كتاب عنوانه (المؤذون في مالطة) وفيه يؤكد على العلاقة الجدلية بين الإنسان والزمن، وبين طبيعة الفعل وطبيعة فعله، وفي هذا المعنى أكد العقلاء على أن لكل أذان وقت، وعلى أن له جغرافية أيضا، وله مناخه، وله شروطه الذاتية والموضوعية، وله سياقه وله أسباب نزوله، وعليه، فإنه لا مجال (للشطح خارج الزمان والمكان وخارج الشروط الموضوعية) ومن (شطحات بعض المثقفين العرب ما قاله المرحم حسين مروة – غفر الله له (لقد اعتبر ماركس بأنه (فيلسوف منا) وحتى يكون منا – بشكل حقيقي- (فإنه لا تنقصه سوى الجبة والعمامة، وأن يصبح اسمه الحاج ماركس، وهذا نوع آخر من الآذان الثقافي خارج الوقت وخارج المكان وخارج الزمان وخارج الفضاء والسياق التاريخي).
وبالنسبة للاحتفالي، فإن الكلام لا يتأسس في المطلق من الزمان والمكان، وعليه فإن لكل كلام توقيته الخاص، وله لغته الخاصة أيضا، وله منطقه الخاص، وله سياقه الخاص، وله حالاته ومقاماته، وأعتقد أن هذا التوقيت الجديد، في هذا المنطف التاريخي الجديد، يستوجب قولا جديدا، ينسجم مع مقتضى الحال، ويكون المقال فيه في نفس مستوى المقام ما يفرضه وما يستوجبه وما يمليه المقام، وبالتأكيد، فإن هذا اليوم الجديد، هو غير ذلك اليوم القديم الذي كان، والذي اهتزت الأرض من تحته في ليلة من الليالي.
هزات الأرض وهزات الفكر
ويرى الاحتفالي أنه عندما تهتز الارض، فإنه لابد أن تهتز الأفكار ايضا، وأن تكون أكثر واقعية وأكثر عقلانية وأكثر حياة وحيوية، وتكون أكثر تمسكا بالاحتفالية وبالعيدية، وذلك في مقابل ما تقترحه الطبيعة من الماسي ومن الأحزان ومن الغياب ومن الدمار، وهل تأسس تاريخ الفكر الإنساني وتجدد وتطور عبر التاريخ إلا من خلال هزات القيم وهزات القناعات وهزات الأفكار وهزات التصورات وهزات المنعطفات وهزات التحديات؟
نحن اليوم ندخل في المغرب عهدا جديدا، وهو عهد ما بعد الزلزال، ولقد سبق للاحتفالي أن كتب كتابا غي بداية القرن الحالي، وأعطاه عنوان (الاحتفالية وهزات العصر)، وهذا الذي نسميه الزلزال، هو هزة أيضا، هزة تحدث في باطن الأردض، وتحدث في العقول وفي النفوس وفي الأرواح.
يقول الجاحظ (لكل مقام مقال) وكل الناس في أوطاننا العربية قد قالوا، ومازالوا يقولون (لكل حادث حديث)، وفي الظاهر المرئي فإن القول يقوله شخص القائل، ولكنه في الحقيقة تقوله أو تمليه أو تقترحه أحداث الساعة، والساعة اليوم توقيتها مغربي بامتياز، ولغتها مغربية، وروحها مغربي، وهل يمكن أن نهرب من هذه الساعة، وأن نهرب ومن ظلالها ومن صداها ومن نبضها ومن دقاتها المدوية؟
يقال بأن الشاعر الجاهلي لبيد بن ربيعة عندما أدركه زمن الفتح الإسلامي لم يستطع أن يقول غير بيت واحد من الشعر، والذي هو:
الحمد لله إذ لم يأتني أجلي
حتى كساني من الإسلام سربالا
وفي زلزال الحوز تحركت الأرض، واهتزت المباني الطينية، ولكن روح المكان بقي كما كان، وظل روح الإنسان الأطلسي وفيا لذاته ولتاريخه ولثقافته ولأخلاقه ولطبيعة مساره الوجودي، ويمكن أن نجدد افكارنا، وأن نجدد علاقتنا بذاتنا وبالعالم، ولكنه أبدا لا يمكن أن نكون نحن غير نحن، أو أن نخون الجغرافيا، ونخون التاريخ، ونخون الزمن الآتي، والذي ينبغي أن يكون أجمل وأكمل، وأن يكون أكثر صدقا ومصداقية، وأن يكون أكثر إقناعا وإمتاعا.
درجة البناء بعد درجة الهدم
في حياتنا اليومية الجديدة اليوم متغيرات كثيرة جدا، وفي مسارنا التاريخي منعطفات ومنعرجات كثيرة أيضا، وأمامنا تحديات بحجم اللحظة التاريخية الراهنة، الشيء الذي يجعلنا نقول ونكتب ما يلي، هناك اليوم زمنان اثنان مختلفان وليس زمنا واحدا، أي زمن ما قبل الزلزال، والذي قد يكون حاضرا في غيابه، ويكون غائبا في حضوره، ولعل أخطر كل الأزمنة هو زمن الانتقال بين حدين متقابلين، وهو زمن العبور من ضفة إلى ضفة أخرى مختلفة ومخالفة، وهو الخروج من حال نعرفه وندركه، والدخول إلى حال آخر مختلف ومغاير، حال نجهل عنه كل شيء، ونريد أن نعرف عنه كل شيء.
وبالتاكيد فإن ولادة زمن جديد. ومن نفس الرحم، هو بالضرورة فعل مفصلي، وهو فعل جديد لا يمكن أن يتم بسهولة، وبدون مخاض وبدون وجع وبدون خوف وبدون قلق وبدون أسئلة مراجعة الذات ومراجعة الواقعة ومراجعة التاريخ.
وفي المنظور الاحتفالي فإن من طبيعة الماضي أنه لا يمضي، وأن من طبيعة هذا الحاضر ألا يغيب بشكل كامل ونهائي، وبالأمس فقط تحدثنا وكتبنا عن زمن ما بعد الجائحة، وكان ذلك في (بيانات كازابلانكا للاحتفالية المجددة)، ونعود اليوم لنتحدث عن زمن ما بعد الزلزال، وكأنه ليس في حياتنا وفي تاريخنا إلا هذا المابع المأساوي أو الملهاوي المتجدد، والذي له حدان اثنان، حد الموت وحد النجاة من الموت، وفي الموت يحضر المأتم، وفي النجاة يحضر الاحتفال بالحياة وبالحيوية، وبين الحدين هناك زمن ثالث غامض وملتبس، والذي هو زمن قريب جدا من الموت، وقريب جدا من المأتم، والذي يوجد الاحتفال العيدي في حده الأقصى، وبالتأكيد فإن هذا الما بعد لا يمكن أن يكون مثل ذلك الماقبل، وعليه فإن ما يكون اليوم وغدا، هو مختلف بالضرورة، هو مختلف عما كان من قبل، ويمكن أن نرى اليوم، بعين النفس والروح، بأن الزمن هذا الجديد قد أصبح أعنف وأسرع، وأنه قد أصبح أكثر حدة وأكثر صدقا وأكثر مكرا وأكثر زئبقية وأكثر شفافية عما كان من قبل، كما أن العقول، المفكرة والمتاملة، في هذا الزمن المأتمي الجديد، قد أصبحت تشتغل أكثر، وأن النفوس الإنسانية قد أصبحت أكثر احساسا بالحياة وبالوجود وبالواقع وبالوقائع، ويمكن أن نلحظ بأن الإنسان المغربي اليوم، وبفعل قوة الزلزال وعنفه، قد أصبح ملزما بأن يعيد رسم الخرائط القديمة، وأن يعيد اكتشاف نفسه، ويعيد اكتشاف قوته، ويعيد اكتشاف العالم، وأن يعيد صناعة صورته، ويعيد تقديمها للعالم بشكل مختلف ومغاير.
في كتاب (التيار الاحتفالي في المسرح العربي الحديث) والذي صدر منذ شهور قليلة عن الهيئة العربية للمسرح بالشارقة، يتساءل الكاتب الاحتفالي (وهل صحيح أن التاريخ يعيد نفسه؟)
وبحسب هذا الاحتفالي المفكر، فقد كان الصحيح هو أن نقول بأن المؤرخين هم الذين يعيدون نفسهم، ويعيدون نفس كلامهم، وليس هو التاريخ المجدد والمتججد دائما. وفي نفس هذا الكتاب عنوان فرعي اسمه ( بين الموت في الحياة والحياة في الموت) وفيه يقول الاحتفالي (الاحتفالي جسد عابر في زمن عابر، أو هو مجرد طيف عابر، وهو اساسا حركة في مسار متحرك، ولذلك فقد كان من حقه أن يقول ما يلي:
إنني (اسكن في الطريق.. الطريق الرابط بين الولادة والموت، بين الوجود والعدم، وبين الهنا والهناء.. إنني اعيش بين موتين، واموت بين عيشين، ولست ادري، أيهما البدء، وإيهما سيكون المنتهى والختام، وهلوهناك شيء يمكن أن نسميه المنتهى والختام؟ ومنتهى أي شيء؟ وبداية لأي شيء؟ ففي هذه الدائرة التي تدور، والتي هي دائرة الوجود ودائرة الحياة ودائرة ال… ودائرة الطبيعة يضيعا لبدء ويضيع الختام، ولا يبقى معنى لأي شيء إلا الحركة، وهل هذه الحركة إلا طاقة خلاقة؟ وهل هذه الطاقة إلا روح؟ روح الوجود والموجودين وروح الناس والأشياء).
وهذا المعنى الاحتفالي هو الذي تؤكد عليه موندراما (الطريق) للكاتب والمفكر الاحتفالي الاستاذ رضوان احدادو، والتي صدرت مؤخرا عن منشورات بيت الحكمة بمدينة تطوان فالوجود إذنةطريق، والحياة طريق، والعمر طريق، ونحن في هذا الطريق نمشي، ونمشي، ولا نفعل شيئا سوى أن نمشي، ولا خيار لنا سوى أن نمشي الطريق التي كتبت لنا أو علينا، وذلك باتجاه ما هو أصدق، وما هو أجمل، وما هو أكمل، وما هو أنبل.
وهذا الطريق الوجودي، هو الشيء الواحد الأوحد الذي يمكن أن نسميه بأكثر من اسم واحد، ويمكن أن تختلف في التسمية، مع أن المسمى واحد، وهكذا يمكن أن يجمعنا طريق واحد، في جغرافية واحدة، وفي تاريخ واجد، وأن تكون أنت في الأعلى، وتسميه منحنى، وأن أكون أنا في الأسفل، وأن اسميه عقبة، وقديما قال العرب (مصائب قوم عند قوم فوائد)، مما يدل على أن كل شيء نسبي، وعلى أن كل الحقائق ما هي إلا وجهات نظر، ونعرف أن كل كل طريق له بداية يبدأ منها، وله نهاية ينتهى اليها، إلا الطريق الدائري، والذي يستعيد بداياته، ولا يؤمن بالنهايات، وهكذا هو خط الأيام، وهو خط الدماء في العروق، وهو خط الشرق بعد الغروب، وهو خط فصول الطبيعة التي لا تذهب إلا من أجل أن تعود، وأن تكون في عودتها وفية لدرة الحياة ودورة الوجود ودورة التاريخ.
البدايات الممكنة بعد النهايات الكائنة
والموت بالنسية للاحتفالي ليس نهاية، وهو ليس وجود مختلفا ومخالفا ومناقضا للحياة، وهذا الموت، كما يراه الاحتفالي هو (جزء من الحياة، وهو درجة في سلم الوجود، أو هو محطة في مساره، أو هو فصل من فصوله، تماما كما هو فصل الخريف في جسد الطييعة، هو فيها جزء منها، ولا يمكن أن يكون ضدها، أو يكون خارجها، فلا شيء في الحياة خارج الحياة، ولا شيء في الطبيعة ضد الطبيعة) هكذا تحدث ذلك الاحتفالي المسافر في تلك الرحلة الافتراضية، والتي أعطاها اسم ( الرحلة البرشيدية).
وكما أنه لا يجوز للكائن الحي أن يقول (أنا الحياة) فإنه لا يجوز للفاعل الاحتفالي أن يقول (أنا الاحتفالية) ونحن كلنا نحيا الاحتفال ونحتفل في احتفالات الحياة، وغدا نمضي نحن، وتبقى الحياة، ويبقى الاحتفال، وسوف يأتي أحياء غيرنا، لتسع معهم معنى الحياة، ويستمر الاحتفال العيدي إلى ما لا نهاية.
وبعد الزلزال الذي ضرب حوز مراكش يقول الاحتفاليون، فعلا لقد اهتزت الأرض، بكل ما عليها من حجر وحديد وطين، ولكن قناعاتنا الفكربة لم تهتز، ومازلنا اليوم، كما كنا بالأمس، نؤمن بالحياة، ونؤمن بالحق في الحياة، وتؤمن بالفرح وبالحق في الفرح، ولحد هذا اليوم، فقد سقطت كثير من الجدران، ابتداء من جدار برلين، ولكنه لا شيء سقط في الاحتفالية، لأنها كيان رمزي، ليس له سقف، وليست لديه جدران.
وتؤكد هذه الاحتفالية على حقيقة أن هذا الإنسان اساسا هو كائن تاريخي وجغرافي وثقافي، وأنه في جوهره نبت الأرض، وأنه نبت تربة هذه الأرض، وأنه نبت مناخ ثقافي، وأنه نبت حقبة زمنية مقتطعة من مسار زمني طويل وعريض وعميق جدا، ومن طبيعة هذا الاحتفالي، في هذا الزمن التاريخي المتحرك، إنه كائن إنساني تاريخي، وهو كائن ثقافي متحرك إلى الأمام وإلى الأبعد والى الأعلى وإلى الأسمى، وهو ممنوع من يمشي إلى الخلف، أو أن يسر في غير مسلره، ومن حقه أن يدور حول نفسه، ولكنه لا يمكن أن يهرب من نفسه وذاته ومن أرضه ومن تربته ومن ثقافته ومن بيئته ومن مناخه الطبيعي والرمزي.
Visited 11 times, 1 visit(s) today