لبنان القضية والهوية .. وحروب الآخرين
د. رودريك نوفل
لطالما حمل لبنان أثقال العرب و همومهم التي لم يشاركه بها العالم العربي، فلبنان تاريخياً أوّل من حمل القضيّة الفلسطينيّة ورفعها في الأمم المتحدة ودافع عنها و لا تزال صورة الرئيس كميل نمر شمعون سفير لبنان في أربعينيات القرن الماضي عالقة في أذهان المطلعين على التاريخ عندما تعرّض لذبحة قلبية على منبر الأمم المتحدة حين كان يحاضر و يرفع ويدافع عن تلك القضيّة حيث حمّله المجتمع العربي لقب “فتى العروبة الأغَرّ” و حمله ليوم رحيله في السابع من آب ١٩٨٧.
كميل شمعون لم يتاجر بتلك القضية و لم يكن ليستفيد منها في سباقه السياسي و الرئاسي و النيابي والوزاري، بل تحمّل كما لبنان و قاوم الوجود الفلسطيني العسكري في لبنان من ١٩٦٧ حتى اندلاع الحرب اللبنانيّة ١٩٧٥ حيث كان كما كلّ وطني يؤمن ويخدم القضيّة اللبنانية التي رفعها و الجبهة اللبنانيّة لتصبح القضيّة الوحيدة و الأسمى.
رحل آخر العمالقة ودخل لبنان دوّامة لم تتركه يعيش يوماً مع حروب الآخرين على أرضه الذي تزامن مع حكم الفاسدين لا سيَّما مع إنهاء الحرب بمؤتمر الطائف الذي كان سوري-أميركي تحت خيمة عربيّة”مهترئة” بلغّة لبنانيّة، الإتفاق أصبح مقدّمة للدستور اللبناني وهو نظرياً جيّد لكنّه لم يُطبّق يوماً حيث تكلل بإنتخاب الرئيس الشهيد رينيه معَوّض ضامناً للبنان ولتنفيذ الإتفاق و ما لبث أن إستشهد بعد أيّام من إنتخابه وكانت بداية نكبة جديدة للقضيّة اللبنانيّة، إذ لم يُحرّك المجتمع العربي ساكناً و تَرَكَ لبنان لمصيرهِ الذي كان أسوداً تحت الإحتلال السّوري و عملائه الذي أطلقوا عليه تسميَّة نظام الوصاية و خير دليل كلام الكاردينال الراحل مار نصرالله بطرس صفَير في قوله الشهير؛ “ليس لسوريا في لبنان حلفاء بل عملاء”، ويوم دعوه للزيارة رفع راية القضيّة اللبنانية رافضاً و قال “لن أذهب إلّا و بيعتي معي” فبعد أن حرّض هذا النظام و نفّذ و ذبح و سطّر مجازر بحق اللبنانيين من كل الألوان و الأطياف و المراكز فلم يرحموا رئيس جمهورية الطائف ولا نواب المعارضة و لا صحافيي الحريّة و حتى لا مفتي الجمهورية صديق الكاردينال صفَير الذين إغتالوه لا مبالين محاولين إحداث شرخ طائفي لم ينجحوا فيه إذ فَتَحَ صفَير العظيم أبواب الصرح البطريَركي لأول مرّة في تاريخه للتعازي و الصلاة لمن كان يسميّه “صديقي” المفتي حسن خالد و هذه سابقة تاريخيّة فريدة حيث عادةً لا تُفتح أبواب الصرح إلّا للتعازي بالشخصيات الدينية المسيحية و ليس حتى المدنية منها.
وكَي يزيد إحكامه القبضة على لبنان نَفّذَ ما كان يحلو له من الطائف و جرّد الجميع من سلاحهم إلّا حزب الله الذي لم نسلم من إجرامه منذ التسعينيات لليوم مروراً بجريمة إستشهاد الرئيس رفيق الحريري التي ثبتت عليه في محكمة العدل الدولية و لائحة الإغتيالات المستمرة و المتكررة و المدانة حيث لم يَقبل تسليم أي متهم تابع له ورد إسمه في المحكمة دون أن ننسى تهديد القضاء بعد جريمة المرفأ و ما تبعها، هذه المجموعة التي تم تصنيفها “إرهابيّة” ليست حتى حزب مُرَخَّص رغم أنهم يطلقون هذه التسمية على نفسهم و لا يمتّون لله تعالى بِصِلَة رغم تحميلهم إسمه للمتاجرة به عمدت إلى إدخال لبنان بحرب ٢٠٠٦ رغماً عنّا و عادوا إلينا بمقولة “لو كنت أدري” و أكملوا بإدخال لبنان بسياسة المحاور بعد تفاخرهم بدخولهم بحرب سوريا و اليمن و العراق و إغراق البلد إقتصادياً و مالياً و سياحياً و ثقافياً متّبعين “ثقافة الموت و الدمار” حين أنّ قلْب الشعب اللبناني ينبض بالحياة فهجروا شعبه و سيّاحه منذ سنين خوفاً من سلاح ميليشيوي السبب نفسه الذي أبعد المستثمرين و الأموال الأجنبية من دخول لبنان و إدّعوا مقاومة العدو ناهيين عن نفسهم أن التدمير الذي يسببوه هو أفضل خدمة لأعداء لبنان، الشيء الذي رفع أصواتاً كثيرة تصفهم “بالإحتلال” و هو وصف دقيق من الناحيَة العلميَة. و الآن نحن أمام مفصل تاريخي للقضيّة اللبنانية، أمّا أن ينهار لبنان على رؤوس من فيه أو أن يعود لاعباً في المنطقة فبعد أن تركنا العرب لمصيرنا بعد الطائف هم اليوم يتركون فلسطين لمصيرها و ممانعة لبنان لا تألو جهداً بإغراقه بحروبٍ جديدة خارجيّة و إستفزازات داخليّة حتميّة ستكون عواقبها وخيمة و صعبة في ٢٠٢٣ إذ أن ظروف اليوم السياسية مغايرة و فؤاد السنيورة غائب عن رئاسة الحكومة والمشهد السياسي كما كان سنة ٢٠٠٦ و الظروف الماليّة و الإقتصاديّة أسوأ و البيئة المجتمعيّة ليست حاضنة للحزب و جمهوره الذي إستباح المناطق اللبنانيّة كافةً و جعل منها بنك أهداف متنوّع يضربها العدو شاملاً بذلك المرافق الحيوية العامة حتى المطار الذي يسَيطر عليه سَيطرَة شاملة و المناطق غير التابعة مباشرةً لسَيطرته إنما ظروف الحرب لن تكون نفسها كما في تمّوز ٢٠٠٦ حيث حشد العدو حينها ٣٠،٠٠٠ إحتياطي مقارنةً مع ٤٠٠،٠٠٠ إحتياطي ملتزم اليوم دون أن ننسى التأثير المعنوي لوجود بارجَتَين أميركِيَتَين جاهزَتَين في البحر و السؤال الذي يطرح نفسه حَول نَوعيّة الحَرب و طريقتها و مدّتها حيث أنّ رواتب الإحتياط مكلفة و لا تستطيع حكومات العدو تحمّلها طويلاً كما وجود الدعم الأميركي المكلف أيضاً للخزينة الأميركية و الجميع يدرك أن الهدف من وجودها إنتصار عسكري أو معنوي أو شامل قبل الإستفتاء الإنتخابي الأميركي القادم…
أين لبنان و قضيّته من كلّ ما يحصل؟ أين جامعة الدوَل العرَبيّة من أحداث المنطقة؟ هي الجامعة الغائبة أبداً عن لبنان تغيب اليوم عن المنطقة فبدلاً من محاولة مساعدتنا طرح السلام بشروطنا مع بداية التغيير في المنطقة تركت حكّامنا يمعنون إغراقنا بسياساتهم الفاشلة و إقتصاداتهم الزائفة وحروب الغير على أرضنا و سياسات المحاور و جعل الشعب اللبناني الوحيد الذي يدفع أثمان لا ناقةً له فيها و لا جَمَل!
حمى الله لبنان القضيّة من القادم عليه.
Visited 8 times, 1 visit(s) today