موسِمُ الرِّياض: عندما نَسكرُ بدمائنا

موسِمُ الرِّياض: عندما نَسكرُ بدمائنا

نجيب علي العطار

لا يَخفى علينا، نحنُ عربَ القرنِ الحادي والعشرين، أنَّنا في حاجةٍ ضروريَّةٍ لسلامٍ حقيقيٍّ نَشعرُ بوجودِه وليسَ بغيابِ نقيضِه. ولعلَّ أحدَ مظاهِر السَّلام هو الرَّفاهية، رفاهيةُ الشَّعب التي تَعملُ الحكوماتُ على توفيرِها. ولعلَّ أحدَ أهمِّ الإشكالياتِ التي تُطرحُ ههُنا هي إشكاليَّةُ «الرَّفاهية وقتَ الأزمات»؛ هل هي ضرورةٌ للإبقاء على ذواتِنا أم أنَّها رَقصٌ على مسرحٍ مبنيٍّ بجثُثِ القَتلى؟

ليستْ غريبةً هذه الأقصويَّةُ بينَ طَرَفَيْ الإشكاليَّةِ إذْ أنَّها تعاطٍ مُباشرٌ مع ثُنائيَّةٍ من الثَّنائيَّاتِ التي تحكمُ سلوكَنا؛ الحُزن والفَرح. وفي حَضرةِ الإبادات والمَجازر التي ترتكبُها «إسرائيل» بحقِّ الإنسان الفلسطيني في غزَّة والضَّفَّةِ الغربيَّة أعلنَ النِّظام السَّعودي انطلاقَ «موسم الرِّياض» لهذا العام مُثيرًا بذلكَ “طوفانًا” من الآراء المُتناقضة، كعادةِ آرائنا العربيَّة، أعادتْ طرحَ هذه الإشكاليَّةِ من جديد.

قبل تناولِ «موسِم الرِّياض» منَ الجَديرِ أن نُعيدَ إلى ذاكرتِنا المَثقوبةِ حَدَثَيْنِ من طِينةِ هذا المَوسِم سيِّئِ الذِّكر. حدثانِ يُوحِيان بأنَّ العربَ عمومًا يَدخلونَ في نوبةِ سُكرٍ عندَ كُلِّ حدثٍ مِفصليٍّ يَحلُّ بِهم. الحَدثُ الأوَّلُ كانَ في التَّاسِعِ من نيسان 2003 يومَ نُكِبَ العربُ باحتلال الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة، وهو الإسم التِّجاري للشَّركة الكَونيَّة للإرهاب، للعراق. وفي 23 حُزيران من العام نفسِه، أي بعدَ شهرَيْن ونِصف فقط من تلكَ النَّكبةِ التي لم نزل نعيشُ نتائجَها إلى اليوم، وبينما كانَ الإرهابُ الأميركيُّ يُطلقُ صواريخَه على العِراقيين أطلقَ العربُ صاروخًا من نوعٍ خاصٍّ جدًا؛ إنَّه المَوسِمُ الأوَّلُ من برنامج «سوبر ستار» وهو النَّسخةُ العربيَّة من برنامج «Pop Idol» الذي أنتجتْه بريطانيا؛ الشَّريكُ الأوَّل لأميركا في احتلال العراق. وكعادةِ صواريخِنا العربيَّة انفجرَ بنا وعمَّقَ المهزَلَةَ العربيَّة التي لم تزلْ تُعرضُ على خارطةِ الحظائر العربيَّة منذُ مئةِ سنةٍ إلَّا قليلًا. لكنَّ المُلفتَ في هذا الصَّاروخ هو ثلاثةُ أمور؛ جنسيَّتُه البريطانيَّة، وتاريخ عرضِه في بريطانيا والذي امتدَّ منذ 3 تشرين الثَّاني 2001 وحتَّى 20 كانون الأوَّل 2003. يُمكنُ أن نقرأ هذا التَّاريخ بطريقةٍ أُخرى؛ عُرضَ في الفترةِ الممتدَّةِ من 27 يومًا بعدَ اجتياح أفغانستان إلى حوالي 8 أشهر بعدَ احتلال العراق. والأمرُ الثّالثُ هو توقيت إصدار التَّقليد العربي له. وفي كانون الأوَّل من العامِ نفسِه أُطلقَ صاروخٌ آخرٌ من العيارِ نفسِه اسمُه «ستار أكاديمي».

ولم تَمضِ سبعُ سنواتٍ حتَّى مُنِيَ العرب بكارثةٍ هي نتيجةُ زواجٍ قَسريٍّ بينَ كارثتَيْن؛ احتلالُ بغداد وعقلُنا الجَمعيُّ العربيُّ، فجاءَ «الرَّبيعُ العربيُّ» طِفلًا مُشوَّهًا لا يُشبه إلَّا أبَوَيْه والرَّحمِ الذي ولدَ منه وفيه. ولعلَّ سوريا كان لها النَّصيبُ الأكبرُ من هذا التَّشوُّه حيثُ اجتمعَ العالَمُ كُلُّه في الجُغرافيا السُّوريَّة التي خرجَ مِنها السُّوريَّون. وبينما كانتِ الحَربُ في سوريا تُطلقُ رصاصَها وكُلَّ قذائفِها على السُّوريين، وبينما كانتْ أصواتُ الشَّياطين تُنادي بـ «وجوبِ الجِهادِ في سوريا»، وفي تلكَ اللحظات الحَرِجة من تاريخ المِنطقة، وتحديدًا في 9 كانون الأوَّل 2011، أطلقَ العربُ صاروخَهم القديم الجديد ولكن باسمٍ مُختلفٍ هذه المَرَّة، لا لشيءٍ ولكن حتَّى لا يَشعرَ «المُواطنُ» العَربيُّ بالضَّجر. إنَّه «Arab Idol» وهو الإسم الجديد لبرنامج «سوبر ستار». وبينما كانت المِنطقة العربيَّة مُلتهبة وتدخلُ دوَّامةَ حروبٍ طاحنةٍ لا يُعرفُ أوَّلُها «مِن تاليها»، على حدِّ تعبير العِراقيين، ثارَ جدلٌ واسعٌ حولَ النِّصفِ الثَّاني من اسمِ البرنامج: ماذا تَعني «idol» هذه؟ هل حقًّا تَعني «مَعبود الجماهير»؟ أم وَثَن؟ أم إله الجماهير؟ وهذه كُلُّها مَعانٍ مُحتملة للكلمة الإنجليزية «idol»، فماذا تَعني؟ وقدْ بيَّنَ المَعنيُّون بأنَّها تَعني «محبوب الجماهير»، وإسم البرنامج هو «محبوب العرب»، وليسَ لها أيُّ معنًى من معاني الشِّرك والكُفر، والعِياذُ بالله.

وعلى خُطى السَّلفِ الصَّالحِ من الصَّواريخ السَّابقة، وفي هذه المرحلةِ الحسَّاسةِ من تاريخ المنطقة، أطلقَتِ السَّعوديَّةُ «موسِمَ الرِّياض 2023»، الذي لولاه لَمَا صدَّقتُ أنَّنا في مرحلةٍ دقيقةٍ من تاريخنا.

على المُستوى الأخلاقي؛ ليسَ المطلوب طَبعًا أنَّه في حضرةِ القَتلِ الواقع على الفلسطينيين أن نموتَ قهرًا لكَي نكونَ داعمين للفلسطينيين، ولا بأسَ في أنْ يبحثَ الفردُ عن شيءٍ يُبدِّدُ عنه بعضَ الحُزنِ والغضبِ والعجز عبرَ الأغاني والموسيقى إنِ استطاعَ بذلكَ سبيلًا، لأنَّ الذي يُخفِّفُ الحزنَ والغضب هو نُصرةُ الفلسطينيين كُلٌّ حسب استطاعته. بيدَ أنَّ هذا لا يُبرِّرُ، بأيِّ شَكلٍ من الأشكال، أن تُقامَ الحفلاتُ الشَّعبيَّة بهذه الوقاحة التي يُقامُ «موسِمُ الرِّياض» عليها. إذْ أنَّ النَّظامَ السَّعوديُّ هو أحدُ المسؤولين المُباشرين والأساسيين عن كُلِّ المصائب التي أصابتِ منطقتنا العربيَّة، ولا يُمكنُه بعدَ أدائه السِّياسيِّ أن يرقصَ في الوقتِ الذي يُذبَّحُ الفلسطينيَّون وغيرِهم منَ الشَّعوب العربيَّة نتيجةَ سياسةٍ عربيَّةٍ مُخزية تجاه القضيَّةِ الفلسطينيَّة كانَ النِّظامُ السَّعوديُّ أحدَ أركانِها.

وعلى المُستوى السِّياسي الذي عوَّدتنا السَّعوديَّةُ فيه على أداءٍ لو أردنا أن نحملَه على محمَلٍ حسنٍ لقُلنا أنَّه غباءٌ مُنقطعُ النَّظير في التَّفكير العربي الاستراتيجي. فالسَّعوديَّةُ، التي تواجهُ حملةَ شَيطنةٍ من المِحورِ الإيراني تحتَ شِعار «المُقاومَة»، لا تتردَّدُ في تقديمِ كُلِّ الذَّرائع لهذا المِحور كي يُكملَ حملاتِه على أتمِّ وَجه.

لا يَسعُني، أنا العربيُّ الواقعُ بين خُبثِ الأعداء وغباء الحُكَّام العرب وتواطئهم، إلَّا أنْ أسألَ سؤالًا واحدًا؛ ما العمل؟! وأنْ أعترضَ بكلمةٍ واحدةٍ؛ تَبًّا!

Visited 7 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

نجيب علي العطار

كاتب لبناني