القضية الفلسطينية.. سيناريوهات ما بعد الحرب على غزة

القضية الفلسطينية.. سيناريوهات ما بعد الحرب على غزة

   محمـد بنـمـبارك

        عادت القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث العالمية، بحضور ضاغط ومثير لدرجة أن المنتظم الدولي صرف نظره عن الحرب الروسية الأوكرانية وبقية مشاكل العالم. هي عودة ليست صحوة ضمير عالمي إزاء مأساة الشعب الفلسطيني، بل جاءت من أجل إنقاذ إسرائيل من الهزة الارتدادية المباغتة ليوم ” السبت الأسود” كما وصفها الإعلام العبري. وقد جاءت عملية حماس في ظل أجواء سياسية  محبطة بالمنطقة عناوينها، تراجع الاهتمام العربي والدولي بالقضية الفلسطينية ،وانهيار مسار التسوية وفشل حل الدولتين، وتصاعد الاعتداءات على المسجد الأقصى وتوسع مشروع التطبيع العربي مع إسرائيل.

     اندفعت العواصم الغربية وفي مقدمتها واشنطن لنصرة إسرائيل، وكأننا أمام مشهد غزو العراق أو حرب عالمية ثالثة، حشد غربي اصطف بجانب إسرائيل لمواجهة حركة مقاومة تحت غطاء “محاربة الإرهاب”، لكن الحقيقة أن حماس تجاوزت الخطوط الحمراء بعد أن أسقطت نظرية الردع لدى هذا الكيان وعصفت بمقولة “الجيش الذي لا يقهر”، وفرضت ما يقابلها ” الشعب الذي لا يقهر”. لم تكلف الدول الغربية نفسها عناء البحث عن أسباب ودوافع “طوفان الأقصى”، متغافلة عن قصد معاناة شعب من الاحتلال. وقد ظهر جليا زيف تعاطي الغرب مع مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان وحريات التعبير والرأي، لاسيما في القضايا المرتبطة بالعرب والمسلمين.

     وقد اعتبر انطونيو غوتيريس الأمين العام للأمم المتحدة، في تصريح منصف وشجاع هز إسرائيل: ” العملية العسكرية لحماس ضد إسرائيل بأنها لم تأت من فراغ، محملا إسرائيل المسؤولية في هذا النزاع ” وذكر أن الأمم المتحدة طالما حذرت من خطورة تمادي إسرائيل في بناء المستوطنات وابتلاع الأراضي وممارسة شتى أشكال التضييق والحصار والحجز على الفلسطينيين، في إشارات واضحة لشرعية دفاع حماس عن حق الشعب الفلسطيني. وقد بلغت الغطرسة الإسرائيلية حد التطاول والتهجم على الأمين العام للأمم المتحدة.

     تراجع العرب، ولم يغادروا مربع دعوات خجولة عديمة الفعالية لوقف إطلاق النار وتأمين المساعدات، وعقد مؤتمر عربي إسلامي مشترك بالرياض لم يرق إلى مستوى تطلعات الشعب الفلسطيني والشارع العربي والإسلامي.

     وسط تضارب المواقف الغربية والأممية والعربية والفلسطينية، يبرز التساؤل حول سبل التعاطي مع القضية الفلسطينية بعد وقف الحرب. فلا مناص من أن تداعيات الحرب الخامسة ستكون جد مؤثرة ومختلفة تماما عن سابقاتها، وما قبل 7 أكتوبر لن يعيد نفسه بعد، ومن الواضح أن الفلسطينيين لم يغامروا بهذه المعركة من أجل لا شيء. فما هي السيناريوهات المطروحة لزعزعة المياه الراكدة في أعماق 75 عاما من الصراع ؟ تبدو الصورة قاتمة في ظل دعم غربي متصاعد لإسرائيل، وموقف عربي ضعيف وعزلة فلسطينية ومنتظم دولي متهالك:

     أ ــ  السيناريو المفترض والمتأمل:

     1 ــ أبانت “عملية الطوفان” أن الملف الفلسطيني يستحيل تجاوزه أو إغلاقه دوليا. لذلك يفترض أن تعود القضية إلى مربع مؤتمر مدريد 1991 الذي جاء بعد الحرب على العراق، قد يطوي صفحة “أوسلو” و”صفقة القرن” وحكاية “الديانة الإبراهيمية الموحدة”، ينتقل معها المنتظم الدولي للعب دور أكثر حيوية وإنصافا لذوي الحقوق يعيد رسم خارطة طريق جديدة للقضية الفلسطينية بضمانات دولية.

     2 ــ حتى يتمكن المنتظم الدولي من لعب دور حيوي بين أطراف النزاع، لا بد من ضمان حضور القوتين العظميتين الصين وروسيا لإحداث التوازن أثناء التفاوض وضمان حقوق الطرف الأضعف. فقد تمكنت روسيا من وضع حد للحرب الأهلية السورية وتثبيت نظام بشار الأسد، ونجحت الصين في إحداث اختراق بالمنطقة عبر إعادة الدفء للعلاقات السعودية الإيرانية وتجميد حرب اليمن في انتظار تسوية نهائية. فكلما عظم دور هاتين القوتين في مسار التسوية قلص ذلك من الدور الأمريكي المنحاز وغير المنصف. وقد انسجم الموقف الروسي والصيني في التصدي ب “الفيتو” لإسقاط مشروع القرار الأمريكي بإدانة حماس ووصفها ب “الإرهابية”، كما توافقا سياسيا على دعم حماس، دون الذهاب بعيدا.  لكن عدم ارتقاء الموقف الروسي والصيني إلى درجة الدعم الغربي لإسرائيل في الحرب، يضع استفهاما حول مدى الرغبة والقدرة على تحقيق التوازن المنشود أثناء التفاوض.

     3 ــ قد يدفع ما حصل، إسرائيل إلى إعادة حساباتها وتغيير نظرتها تجاه الفلسطينيين من مخططات التصفية إلى التعايش السلمي والديني وحل الدولتين وتقاسم الحقوق في القدس، لكن حتى تصل إسرائيل إلى هذه المرحلة لا بد من حصول معجزة. فهذا الكيان يعاني من هيمنة التيارات الدينية المتطرفة العنصرية التوسعية في ظل تراجع قوى اليسار المؤمنة بالسلام، فمنذ حكومة إيهود باراك (2001) إلى الحكومات المتعاقبة لنتنياهو، تغيرت سياسة هذا الكيان الذي جنح إلى التطرف والتعصب واستمر في مسلسل إبادة الشعب الفلسطيني إلى أن حل عقاب الطوفان، لتستفيق إسرائيل بكاملها من غفلتها وتجد نفسها وقد خسرت كل أوراقها دفعة واحدة. فهل إسرائيل قادرة على أخذ العبرة من تكرار ما حصل. فقد أثبت التاريخ أن مقاومة الفلسطينيين وانتفاضاتهم في تصاعد ونزول لكنها مستمرة، لم توقفها ممارسات الاحتلال وكلما اعتقدت إسرائيل أنها تمكنت من السيطرة على الأوضاع كلما ظهرت انتفاضات جديدة تعيدهم للمربع الأول، وسيظل يوم السابع من أكتوبر شاهدا.

     وقد بدأت أصوات من داخل إسرائيل وخارجها تنادي بضرورة تغيير سياسة حكوماتهم تجاه الفلسطينيين. إلى ذلك قال رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق ” إيهـود أولمرت” في مقـابلة مـع صحيـفة ” بوليتيكو” الأمريكية 9/11/2023: ” إن الأولوية في الوقت الحالي يجب أن تكون للتفاوض بشأن نهاية الحرب مع المجتمع الدولي، بما في ذلك العودة إلى المحادثات لإقامة دولة فلسطينية، بدلاً من إعادة عقارب الساعة إلى الوراء نحو الإشراف العسكري الكامل على قطاع غزة..” مِؤكدا ” أن كل دقيقة يمضيها نتنياهو، كرئيس للحكومة، تشكّل خطراً على إسرائيل”.

   ب ــ المتوقع والمنتظر:

     1 ــ تكمن العقبة الكأداء أمام المنتظم الدولي، في أنه منقسم اليوم على نفسه، بعدما دخلت القوى العظمى في صراعات مباشرة فيما بينها عجز فيها مجلس الأمن عن القيام بدوره في حفظ السلم والأمن الدوليين، لذلك قد يظل المنتظم الدولي في حالة وقف التنفيذ، لتنفرد إسرائيل وحليفتها أمريكا بالحل الأسوأ. وهي سياسة تعكس نظرة الطرفين ورغبتهما في تكريس الاحتلال واستغلال حالة الفراغ الدولي.

     2 ــ يتوقع أن تعود الإدارة الأمريكية إلى أدوارها الخبيثة في المفاوضات التي أشرفت عليها بين العرب والفلسطينيين وإسرائيل، والتي تميل دائما إلى نصرة وتفضيل الموقف الإسرائيلي في المفاوضات على حساب الحقوق الفلسطينية والعربية، وتعطيل أية إمكانية للتوصل إلى حل عادل ودائم.

     3 ــ قد يظل الوضع كما كان عليه قبل السابع من أكتوبر، ويستأنف الصراع بين المقاومة والمحتل ويعودا إلى دوامة المواجهات وحالة التربص والترقب، في انتظار معركة قادمة، على قاعدة حرب تلد أخرى.

     4 ــ تضع إسرائيل نصب أعينها القضاء على حركة حماس وتدمير قطاع غزة وتهجير سكانها نحو سيناء، من أجل ذلك تسعى للعمل على تضييق مساحة غزة باحتلال جزئها الشمالي وحشر سكانها جنوبا ومحاصرتهم. هناك مشروع تسليم ولاية تدبير شؤون قطاع غزة، إلى سلطة الرئيس محمود عباس المتهالك والفاقد لشعبيته في الشارع الفلسطيني. لكن من غير الواضح هل بإمكان سلطة عباس أن تتولى هذه المهمة الشديدة التعقيد، ولو برعاية إسرائيلية، وهي التي تكابد من أجل السيطرة على الضفة الغربية.

     5 ــ ماذا في جعبة إسرائيل من مواقف وقد اهتز كيانها وأحبطت مخططاتها وتبعثرت أوراقها، دعوات للجان تحقيق وعقوبات ومحاكمات ستطال كبار المسؤولين على رأسهم “نتنياهو” الذي يحمله الجميع مسؤولية الفشل الأمني والعسكري، مما سيؤدي إلى القضاء على مستقبله السياسي.  لذلك يتستر نتنياهو وراء إطالة أمد الحرب في انتظار تحقيق انتصار ما لتبييض وجهه أمام الرأي العام، ومواصلة سياسة الانتقام من الشعب الفلسطيني بغزة والضفة الغربية. فيما يعمل وزيره في الأمن القومي على توزيع السلاح على آلاف الإسرائيليين لشرعنة القتل المباشر للفلسطينيين بما ينبئ بأيام دموية قادمة. مؤشرات لن تزيد الصراع إلا تأزما.

     6 ــ عادة ما تتنكر إسرائيل للماضي وتعمل على طمس حقائق التاريخ، سعيا لانفراد الشعب اليهودي بأرض فلسطين كاملة، وفق نظرية ” أرض الميعاد”، بغاية نفي الشعب الفلسطيني إلى خارج الحدود، في اتجاه مصر والأردن. وتحاول الحكومات الإسرائيلية استغلال الأزمات والحروب مع الفلسطينيين لتنفيذ مخطط التهجير وابتلاع الأرض…

     وهي المخاوف التي دفعت الرئيس الفلسطيني في 10 نوفمبر، إلى:” التحذير من تهجير الشعب الفلسطيني إلى خارج غزة أو الضفة أو القدس، معبرا عن رفضه القاطع بتكرار نكبة 1948 أو النزوح في 1967″. غير أنه من المبكر التنبؤ بما سيحدث، لأنه يعتمد على مدى قدرة المقاومة على الصمود على الأرض،  وعلى مدى صلابة الموقف المصري والأردني.

     7 ــ اعتاد نتنياهو على الحديث بحفاوة وافتخار عن تصفية القضية الفلسطينية بعد دخول إسرائيل مرحلة التطبيع مع العرب واقتراب موعد الإعلان عن الاتفاق مع السعودية واستعداداته للقيام بجولة بعدد من الأقطار العربية. لكن حساباته انقلبت رأسا على عقب بعد عملية حماس، التي جاءت في توقيت حاسم سيكون لها أثر تاريخي.

     أصبح اليوم ملف التطبيع معلقا، قد يعود في مقابله مشروع المقاطعة العربية لإسرائيل إلى الواجهة، لاسيما بعد جرائم الحرب والإبادة التي ارتكبتها إسرائيل بغزة، وعدم تجاوب نتنياهو مع نداءات القادة العرب بوقف الحرب، وتجدد اتساع دائرة الكراهية والعداء لإسرائيل بالشارع العربي.

     8 ــ من دون شك سيكون سؤال السلطة الوطنية الفلسطينية حاضرا، حول دورها وفيما إذا كانت لازالت قادرة على الحياة لتمثيل الشعب الفلسطيني، بعد تراجع شعبيتها بالشارع الفلسطيني، إثر اختياراتها السلمية الفاشلة، ومحاولاتها تجميد نشاط المقاومة وعجزها عن التصدي لسياسة نتنياهو، الذي أضعف السلطة وجردها من صلاحياتها التفاوضية وحولها إلى إدارة أمنية وخدماتية.

     لذلك يظل هاجس تمثيل الشعب الفلسطيني حاضرا، إذا تمكنت حماس من تحقيق نصر في هذه الحرب بما تملكه من أوراق التسوية لاسيما ملف الأسرى الإسرائيليين، لذلك سيكون حضورها أساسيا في معادلة الحل ما بعد الحرب.

     9 ــ من دون شك فعملية الطوفان وحرب غزة، ستحفر عميقا في الوجدان العربي كنصر وجرح،  يزداد معه الإصرار على الدفاع عن القضية الفلسطينية ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي، الذي سيظل مصنفا كعدو للرأي العام  العربي.

Visited 24 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

محمد بنمبارك

دبلوماسي مغربي سابق