ما هي أكبر هدية يمكن لمحمود عباس تقديمها للشعب الفلسطيني؟؟

ما هي أكبر هدية يمكن لمحمود عباس تقديمها للشعب الفلسطيني؟؟

عبد السلام بنعيسي

     منذ بدء عملية طوفان الأقصى ونحن نعاين جدلا عقيما بين إسرائيل من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية ومعها أوروبا من جهة ثانية، ومحتوى الجدال يدور حول مصير من يحكم غزة بعد انتهاء هذه الحرب المجنونة المشنة عليها منذ ما يفوق الستين يوما. فواشنطن وحلفاؤها الغربيون يريدون تسليم السلطة في القطاع للسلطة القائمة في رام الله برئاسة محمود عباس، وإسرائيل ترفض هذا الخيار، وتعتبر أن لا مكان، لا لحركة حماس، ولا للسلطة الفلسطينية، في القطاع، بعد توقف المعارك الدائرة رحاها هناك..

هذا الجدل عقيم، ليس لأنه سابق لأوانه فحسب، ما دامت الحرب لم تضع أوزارها بعد، ولا يمكن إصدار أي موقف سياسي والتقوقع فيه عن أحداث لحربٍ لم تسفر بعد عن نتائجها بشكل جلي وواضح. إنه جدل عقيم لأننا إذا تأملنا في محتواه، نجد أنه يخفي توافقا متينا بين الطرفين حول الغايات التي يتعين أن تمضي فيها وقائع الحرب في غزة، رغم الاختلاف الظاهر في وجهات النظر بينهما.

فمن جهة، أمريكا وأوروبا تريدان حجز مكان لسلطة رام الله في غزة بعد نهاية الحرب، وطرد حماس منها، والهدف المركزي من ذلك هو الاستمرار في مشروع أوسلو الذي بيّنت الثلاثون سنة الماضية، أنه مشروع فاشل وغير منتج، ولن يفضي لإنشاء الدولة الفلسطينية المفترضة، لأن النخبة الإسرائيلية الحاكمة عاقدةٌ العزم، ومصممةٌ، بشكلٍ لا رجعة فيه، على رفضها إقامة هذه الدولة، بل إنها تحارب احتمالية نشوئها بإقامة المستوطنات التي التهمت كافة الضفة الغربية، ولم يبق فيها مكان تقام فيه الدولة الفلسطينية، وأمريكا وأوروبا لا تمارسان أي ضغط على إسرائيل لإلزامها بالقبول بقيام الدولة الموعودة..

وفي الجهة المقابلة، رئيس وزراء الكيان الصهيوني يختصر الطريق، ويريد توظيف حرب غزة لإقبار سلطة رام الله وحركة وحماس معا، في ضربة واحدة، وليرتاح منهما بشكل نهائي، ويغلق قوس الحديث عن الدولة الفلسطينية، ويجعل منه، عمليا، حديثا متجاوزا. إذا كانت أمريكا وأوروبا تريدان الإمعان في بيع الوهم للفلسطينيين، بأنهم، بواسطة هذه السلطة، في طريقهم، لإقامة دولتهم المنتظرة، فإن نتنياهو لا يتحرج في أن يقطع حبل حتى هذا الوهم، وأن يواجه العالم بالحقيقة العارية، وهي أنه يعارض وجود حتى هذه السلطة الهشة والهزيلة والتي تسوق الوهم لشعبها، ويعمل من أجل الخلاص منها كليا.

فكما يحارب نتنياهو حركة المقاومة حماس بالطائرات، وبالدبابات، وبالمدافع، وبالصواريخ، وبالرصاص، وبالقنابل، فإنه يحارب أيضا السلطة الفلسطينية بالحصار، وبالازدراء، وبالدعاية، وبتوجيه الاتهامات لها. بالنسبة للدولة اليهودية، لا مكان لغير اليهود فيها. كل فلسطيني يعيش في فلسطين، ويتطلع إلى حريته، واستقلاله، وسيادته على أرضه، وينازع المشاريع الاستيطانية الصهيونية، هو غير مرغوب فيه، ومدان إسرائيليا، ويتعين طرده خارج الأرض الفلسطينية. في الدولة اليهودية، الفلسطيني الجيد، هو الفلسطيني المُهجّر، أو الميت.

عندما يهاجم رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو السلطة الفلسطينية، ويوجه لها وابلا من الاتهامات المشينة، وهي التي تتعاون وإياه، وتُنسق مع قواته البوليسية، لتوفر الأمن والحماية لمستوطنيه في الضفة الغربية، ولا تحرك أي ساكن أمام المجازر والمذابح التي يقترفها جيشه في حق أبناء الشعب الفلسطيني بقطاع غزة والضفة، فإن نتنياهو يعبر بذلك، عن عزمه طي صفحة هذه السلطة، وإلغاءها من الوجود، ومسحها من المعادلة السياسية، لقد باتت، بالنسبة له، غير ذات جدوى، بعد استنفاذ كافة الأغراض من إنشائها، والتعاطي معها في الفترة الزمنية السابقة..

تكذب السلطة على نفسها إن كانت تتوقع شيئا من الإدارة الأمريكية ومن أوروبا، وتراهن على اختلافهما المفترض في وجهات النظر مع الكيان الصهيوني بخصوص مصيرها ومآلها. تتوهم السلطة إن كانت تتصور أنها ستكون لها كلمتها في مستقبل غزة بعد الحرب. التجارب المريرة أكدت لنا أن الاختلاف في الرأي بين أمريكا وأوروبا من جهة، وإسرائيل من الجهة الثانية، يكون دائما تكتيكيا، ولوقت وجيز، ثم ما يلبث أن يتلاشى، ويتحول إلى اصطفاف إلى وجهة النظر الإسرائيلية التي تصبح هي الغالبة والسائدة…

واضح أن الدولة اليهودية نفضت يديها من السلطة، ولم تعد تعول عليها، وقررت أن تتخطاها وتدفنها، فهل يستوعب الرئيس محمود عباس الدرس، ويستبق الأحداث، ويرمي للإسرائيليين وللأمريكان والأوروبيين هذه السلطة المهترئة، ويأمر بحلها، ويعلن عن استقالته من الحياة السياسية، وينصرف لحياته الخاصة، ليضع بذلك العالم أجمع أمام مسؤولياته، ويفضح تخليه عن القيام بدوره في وقف هذه المذبحة الجارية أطوارها في الشعب الفلسطيني؟

منذ 2005 ومحمود عباس يرأس السلطة الفلسطينية، وكان يفترض فيه النجاح في أداء مهمته في ولاية أو ولايتين من فترة حكمه، المهمة التي وعدنا بها والمتمثلة في إنشاء الدولة الفلسطينية على حدود 4 من يونيو 1967، طبقا لاتفاقيات أوسلو التي كان هو مهندسها والمشرف على اقتراح بنودها سنة 1993، ولكن للأسف، حكم عباس وسلطتُه الفلسطينيين بالقمع والفساد، وفشل في كل خياراته، ولذلك، يتعين عليه الاعتراف بهذا الفشل، والاستقالة من الحياة السياسية، وأن يترك للشعب الفلسطيني إمكانية بلورة قيادة جماعية تتكفل بتدبير شؤون مقاومته، في خضم الصراع الحالي المرير مع الكيان الصهيوني.

يصعب تصور أن قرارا ما له طابع إيجابي وفيه فائدة للشعب الفلسطيني، يمكن أن يصدر عن السلطة الفلسطينية الحالية. لقد نشأت هذه السلطة في الأصل، وأمست مع مرور الوقت، في نظر الغرب، مبرمجة ومهيكلة، لكي لا تكون في جميع القرارات التي تتخذها إلا متعارضة مع تطلعات الفلسطينيين ومع نضالاتهم. الغرب يرعى السلطة ويحافظ على وجودها بما يخدم مشاريعه الخاصة المتنافية مع مصالح أبناء المنطقة وفي مقدمتهم أبناء الشعب الفلسطيني. من هنا يصبح حلُّ السلطة مصلحة فلسطينية لا غبار عليها.

 الشعب الفلسطيني الذي بهر العالم بمقاومته الباسلة وتصديه لإسرائيل وأمريكا والغرب معها، وأفشل بصموده الأسطوري مخططاتهم في المنطقة، بوُسعه إفراز قيادة فلسطينية سياسية بديلة، تكون في مستوى تضحياته، ونضالاته، وصموده، وقادرة على توظيفها واستثمارها سياسيا. والمدخل لذلك، هو إنهاء هذه السلطة المشوهة والخائبة التي باتت عائقا كبيرا أمام أي تغيير، قد يكون فيه مصلحة للشعب الفلسطيني.

 أكبر هدية يمكن أن يقدمها محمود عباس للشعب الفلسطيني في هذه اللحظة الفارقة من تاريخه، هي الإعلان عن استقالته، وتفكيك السلطة وحلها، فليمتلك، ولو لمرة واحدة، الشجاعة، وليبادر إلى الإعلان عن الاستقالة وحل السلطة، منهيا مشواره السياسي بهذا القرار الجريء. ستكون الاستقالة صرخة فلسطينية احتجاجية بشكلٍ مدوي على صمت العالم عن حرب الإبادة المخاضة ضد الفلسطيني، وستكون لها ارتداداتها السلبية على المشاريع الإسرائيلية والغربية في فلسطين. وستخلق الاستقالة حدثا طارئا وغير متوقع بالنسبة للذين يُعِدّون في غرفهم السوداء الطبخات المسمومة، وقد يجدون صعوبة كبيرة في التعامل معها..    

لقد بلغ الرجل من العمر عثيا، وهو في خريف حياته، فليعتكف في منزله متفرغا للعبادة، والإكثار من الاستغفار من الله تبارك وتعالى عن المذابح والمجازر المقترفة في حق الفلسطينيين، في كنف اتفاقيات أوسلو التي كان هو المالك الشرعي لحقوق تأليفها، والترويج لها. وكما يقول دوستويفسكي: ليس على هذه الأرض ولا يمكن أن تكون خطيئة تبلغ من الهول أن الربَّ لا يمكن أن يغفرها، لمن ندم عليها صادقا.

Visited 19 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد السلام بنعيسي

صحافي وكاتب مغربي