ما هي رسالةُ ملحمة طوفان الأقصى المُوجَّهة إلينا؟؟؟

ما هي رسالةُ ملحمة طوفان الأقصى المُوجَّهة إلينا؟؟؟

عبد السلام بنعيسي

     حين تم الكشفُ في بعض وسائل الإعلام الغربية عن عملية التجسس بواسطة برنامج بيغاسوس الإسرائيلي على الهواتف المحمولة لقادة سياسيين، ونقابيين، وصحافيين، ورجال أعمال، ونشطاء في المجتمع المدني، ووزراء، وحتى رؤساء حكومات، ودول غربية، تهيأ للرأي العام العالمي أن القوة الاستخباراتية الإسرائيلية قوة خارقة للعادة، وأنها فوق طاقة البشر، وتمتلك مؤهلات التسلل إلى غرف نوم كل فردٍ منا، وتصوير حياته الحميمية، وأن خصوصيات الإنسان قد انتفت، وأن كل شيءٍ يقوم به المحيطون بالدولة العبرية، مراقبٌ من طرفها، وبوسع مخابراتها اكتشاف كل حدث يتم الإعداد له من طرف أعداء إسرائيل ضدها، والتصدي له، و القضاء عليه قضاءً مبرما، وهو في المهد جنينا… 

ولقد وقع ضخُّ الأطنان من التقارير الإعلامية المكتوبة، والمرئية، والمسموعة التي تصبُّ في هذا الاتجاه، وتُطنب بطريقة، مباشرة أو غير مباشرة، في تمجيد الاستخبارات الإسرائيلية وتصويرها في هيئة القوة الخرافية التي لا يمكن النجاة من أحابيلها ومن سيطرتها على الساحة الإقليمية المحيطة بها، وعلى الساحة الدولية البعيدة عنها أيضا، وكان كل ذلك يجري تحت رعاية أجهزة الدولة العبرية وبمباركتها.

وبطبيعة الحال كان المستهدفُ من تلك الحملة الدعائية الجبارة، هو كيُّ الوعي العربي والإسلامي، وإجباره على الاقتناع، بالكذب وبالتزوير، بتفوق العقل الصهيوني، وبقدراته غير الطبيعية، على ما عداه من العقول البشرية، لكي يستتبع ذلك، الإقرارُ بالضعف وبالدونية أمامه، والاستسلام لإرادته، والرضوخ لها، لترسيخ التفوق الإسرائيلي المزعوم في المنطقة، وتأبيد احتلاله لفلسطين، ولكل الأراضي العربية التي لا يزال يحتلها…

وكان الإعلام الرسمي العربي يجاري الحملة الدعائية المُمجّدة للمخابرات الإسرائيلية ويسايرها، وينفخ فيها، بأشكالٍ ملتوية، وسط الجمهور العربي، بغرض دفع هذا الجمهور للانبهار بتلكم المخابرات، وبالدولة التي تقيمها وتشرف عليها، لكي يبارك التطبيع معها، ويرى في التطبيع المنقذ للبلدان العربية من كل الأزمات التي تتخبط فيها، وأن يستوطن في أعماق الإنسان العربي، أن أي صراعٍ مع إسرائيل، يُشكِّلُ بالنسبة لمن يُقْدِمُ عليه، في أحسن الأحوال، مضيعة للوقت، وهدرا للجهود، وأنه و في أسوئها، مغامرة غير محسوبة العواقب، لأن نتائجه محسومة، سلفا لفائدة إسرائيل، ومدمرة لخصومها وأعدائها.

وبالموازاة مع هذا الصخب الإعلامي المُمجّد للكيان الصهيوني، ظلت تتردد، على ألسنة، وبأقلام، بعض الكُتاب والإعلاميين، والمثقفين، والسياسيين العرب، أقوالٌ ومقالات، تهاجم الجمهور العربي، وتنعته بكل المواصفات القدحية، وتُغرقه في وابلٍ من الاتهامات التبخيسية، وتصفهُ بالعجز والدونية، وتحمِّلُه مسؤولية الخيانة العربية الرسمية، وكأنه هو الذي يقرر وينتج هذه السياسة المتخاذلة والمتواطئة مع العدو. فرغم أن الآلام تعصر أفئدة الجماهير العربية جراء المجازر التي يقترفها، اليوم ومند زمن بعيد، العدو الصهيوني ضد الأشقاء الفلسطينيين، ورغم المظاهرات العارمة التي خرجت في أكثر من مدينة وعاصمة عربية منددة بالصمت الرسمي العربي، ومطالبة بالتدخل لتقديم الدعم للشعب الفلسطيني، رغم ذلك، كان النقد اللاذع يوجه للشعب العربي، وليس للنخبة العربية الحاكمة..

وحين فاجأت المقاومة الفلسطينية، كطليعة للقوى العربية الحية، العالم بعملية طوفان الأقصى، فإنها تمكنت من وضع حدٍّ فاصلٍ لكل هذه الترهات والدعايات الكاذبة. وأكدت لنا نحن العرب وللعالم بأسره، أن الاستخبارات الإسرائيلية ليست قوة قاهرة يستحيل هزمُها، وأنها لا تمتلك عقولا من مستويات فوق بشرية، فها هي المقاومة الفلسطينية تتمكن، بفضل عقول أبنائها، من اقتحام إسرائيل في عقر دارها، ومن قتل العديدين من مستوطنيها، ومن أسر الكثيرين من جنودها، وها هو الجيش الصهيوني، يشنُّ حربا هوجاء على قطاع غزة منذ ما يفوق 67 يوما، وها هي وحدات من فرق نخبته العسكرية، وعناصر قواته المجهزة بأحدث الوسائل التقنية، توجد في أماكن متفرقة من قطاع غزة، ولكنها عجزت عن العثور على الأسرى الصهاينة الذين تقاتل من أجل إطلاق سراحهم، وفشلت في الوصول إلى القيادة الفلسطينية المقاومة لتصفيتها، ولم تتمكن من تحقيق أي صورة نصرٍ على المقاومين الفلسطينيين طوال هذه المدة الزمنية المديدة، لترويجها لجمهورها وللعالم، وها هم المقاومون الفلسطينيون يسجلون يوميا الملاحم المشرفة ضد الجيش الإسرائيلي، ويذيقونه الهزائم المتتالية..

لقد كشف، في بداية الحرب، رئيس لجنة المخابرات بمجلس النواب مايك تيرنر، بشكل رسمي ووقح، في تصريح تلفزيوني في برنامج “واجه الأمة” الذي تبثه شبكة “سي بي إس (( أنّ الولايات المتحدة الأمريكية تساعد في تحديد موقع قيادة حماس بينما تتحرك إسرائيل للقضاء على الحركة))، وهذا يعني أن المقاومة الفلسطينية تحارب عسكريا واستخباراتيا، أمريكا وليس إسرائيل وحدها، وأن الفلسطينيين صامدون في مواجهة أمريكا التي هي أكبر قوة عسكرية، وصناعية، وتقنية، واقتصادية، وسياسية في العالم، صامدون أمامها ومعها أوروبا، وهم مجردون من أي دعمٍ خارجي، واعتمادا على وسائلهم الخاصة، وفي مقدمتها عقولهم الجبارة التي يستخدمونها في هذه المواجهة.

وبذلك يعرض الشعب الفلسطيني على العرب وعلى العالم أجمع في عملية طوفان الأقصى صورة لملحمة بطولية نادرة في التاريخ. يثبت الشعب الفلسطيني بصموده الأسطوري منفردا أن الأمة العربية والإسلامية قادرة على أن تكون قوة جبارة في هذا العالم، لو أنها بادرت إلى توحيد صفوفها ولمِّ شملها. لاشك في أن التضحيات الفلسطينية المقدمة في هذه العملية ضخمة جدا، ومؤلمة لنا جميعا، ولكن علينا أن نتذكر أن تضحيات بشرية عربية أخرى جمة، سبقتها ووقع تقديمها في العراق، وفي ليبيا، وفي سوريا، وفي اليمن، وفي لبنان، وكانت كلها في العمق، تضحيات من أجل فلسطين، وأنتجت لنا حركة أنصار الله في اليمن، والحشد الشعبي في العراق، وقبلهما حزب الله في لبنان، وصمود الدولة السورية جيشا وشعبا أمام مؤامرات تفتيتها، فنحن إزاء تضحيات تتراكم، وعلينا أن نعمل من أجل أن نجني منها نصرا مبينا مؤزرا.

عملية طوفان الأقصى ملحمة فارقة في تاريخ العرب الحديث، وتجبُّ ما قبلها، بالنسبة لنا نحن العرب، يتعين أن تكون هذه الملحمة مناسبة للاعتزاز بالذات العربية، والشعور بالفخر بالإنجازات التي حققتها وأبدعتها المقاومة أثناءها، وأن نقدم كلٌّ من موقعه الدعم والمساندة لها، ونؤمن بحتمية الانتصار الذي سيتحقق، لا محالة، بفضلها، وأن نكُفَّ عن جلد ذاتنا، بسبب تخاذل النظام الرسمي العربي في نصرتها.

  يمكن تفهُّمُ الغضب الذي يسيطر على بعض المواطنين والمفكرين والإعلاميين والكتاب ويدفعهم لتوجيه النقد القوي والجارح للجمهور وللحكام، كصيغة للاحتجاج على ترك الشعب الفلسطيني ومقاومته وحيدا في هذه المعركة الطاحنة، لكن ينبغي الانتباه إلى أن عملية جلد الذات بطريقة تكتسي أحيانا طابعا مازوشيا، تؤدي إلى ترسيخ الدونية فينا، وتكريس العجز بداخلنا، وهذا بالتحديد ما يريده عدونا منا، بخلاف ملحمة طوفان الأقصى التي تستحثنا على الثقة في أنفسنا، وفي مستقبلنا…

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد السلام بنعيسي

صحافي وكاتب مغربي