أمير البيان.. شكيب أرسلان… (1/3)
جورج الراسي
هذا الشهر كانون الأول/ ديسمبر هو شهر الأمير شكيب أرسلان، فقد ولد فيه ( 25 – 12 – 1869 – ليلة عيد الميلاد)، و توفي فيه (9 – 12 – 1946)، وكأنما جاء بشارة لعهد جديد يطل على العرب و المسلمين…
النسب العريق ….
تجتمع في شخصية هذا الأمير عوامل عديدة، تجعل منه نموذجا للمناضل المنفتح على قضايا الأمة وعلى كافة مكوناتها، لا يعرف التعصب طريقا إلى فكره وسلوكه.
فهو أولا ابن نسب عريق، إذ أن والده الأمير حمود يعود في جذوره إلى أرسلان بن مالك، وصولا إلى بن المنذر وابن ماء السماء اللخمي (لمن يستهويهم الغوص في علم الأنساب)… وهو علم طالما استهوى العرب…
لقد حطت هذه العائلة رحالها في وادي التيم في لبنان في القرن الثامن الميلادي، في عهد الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور، وتوزعت فروعها على مناطق عديدة، بين الضاحية البيروتية سن الفيل وصولا إلى بلدات عرمون وعبيه وسلحمور…وقد انتهى الأمر بالبيارته أن استوطنوا بلدة الشويفات، التي ما تزال حتى هذا اليوم موطن عائلة الأمير مجيد أرسلان أحد رموز الاستقلال…
وقد سطع نجم هذه العائلة في القرن الحادي عشر على أثر قدوم السلجوقيين والأكراد الأيوبيين، ولكن نفوذهم تراجع حين تولى الأمير فخر الدين المعني الأول مقاطعة الشوف، ووقع التنافر والخصام بينه وبين الأمير أحمد جمال الدين أمير جنوبي لبنان…
وبعد رحيل ابراهيم باشا المصري عن البلاد الشامية عام 1841، بقي في الساحة من العائلة الأرسلانية الأمير أمين بن عباس، و الأمير ملحم بن حيدر بن عباس، اللذين توليا إدارة الشوف… وبرز نجم الأمير محمد بن أمين بن عباس، الضليع في علوم التاريخ والقانون والعضو في مجلس شورى الدولة العثمانية… فاجتمعت هذه الأنساب كلها في تكوين شخصية الأمير شكيب…
ابن مدرسة الحكمة…
من عوامل التراث الفكري الذي رافق الأمير طيلة حياته، أنه تلقى تعليمه في مدرسة الحكمة في بيروت، التي كانت في ذلك الوقت منارة من منارات اللغة العربية… فقد كان اللغوي الشهير والعالم مؤلف معجم “البستان” الشيخ عبدالله البستاني أحد اساتذته… وتركت تلك المدرسة وذلك الأستاذ أبلغ الأثر عليه، وظل يعترف بجميلهما طيلة حياته، حنى أنه بعث برسائل عديدة في هذا المعنى، لعل أبرزها الرسالة الني بعث بها من “لوزان”، بتاريخ 4 نيسان / أبريل 1926، يعتذر فيها عن المشاركة في العيد الذهبي لتأسيس المدرسة… ويستعيد في تلك الرسالة ما كان يقوله المطران أغناطيوس مبارك، الرئيس الثالث الذي تولى إدارة المدرسة، بعد مؤسسها المطران يوسف الدبس، مؤلف “تاريخ سوريا الديني والدنيوي”، المتوفي عام 1906، حول “بناء رجال المستقبل”…
ولم تكن مدرسة “الحكمة” منارة للعربية فحسب (كان عدد العرب حينها لا يتجاوز 70 مليونا)، بل كانت جسرا يصل التلامذة بعلوم الغرب وتطوره…
ومن عجيب الصدف أن أول لقاء بين الأمير والمصلح الكبير محمد عبده تم في تلك المدرسة، حيث كان الشيخ ضيف شرف في إحدى المناسبات… وقد زار الشيخ حينها دار أرسلان في الجبل، وتعرف على والد الأمير وعلى أفراد العائلة… ولم تنقطع من ثم أواصر الصداقة بين الرجلين… فعندما زار الأمير مصر عام 1880 لازم حلقة الشيخ، التي ضمت العديد من أعلام مصر، أمثال سعد زغلول وأحمد زكي وعلي الليثي… وتعرف على عدد من كبار الأدباء، أمثال أحمد شوقي وعمر طوسون… وعلى لبنانيين وسوريين أسسوا الصحف والمجلات ودور النشر والمكتبات…
واجتمعت لدى الأمير منذ ذلك الوقت هوايتان: الأدب والسياسة… (كان شقيقه الأكبر نسيب شاعرا معروفا في عصره..).
الرابطة العثمانية…
تولى الأمير شكيب مناصب إدارية عديدة في في شبابه، منها قائم مقام الشوف بين عامي 1909 و 1911، قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى، وانتخب نائبا عن حوران في البرلمان العثماني… وكان وثيق الصلة بالحكم العثاني، محاولا توظيف تلك العلاقة في خدمة شعبه، بخاصة أيام المجاعة، حين أقنع أنور باشا بالموافقة على دخول مراكب أمريكية تنقل خمسة عشر ألف طن من الدقيق إلى لبنان، إلا أن الحلفاء رفضوا ذلك، بحجة أن المؤن قد تذهب إلى الألمان، فبقيت المؤن في الإسكندرية.. (ما نشهده في غزة اليوم…)..
لكن الأمر الذي أخذ على الأمير فيما بعد، كانت الصداقة المتينة التي ربطته بجمال باشا (السفاح)، الذي علق على المشانق أحرار سورية ولبنان… ومسايرة الأتراك فيما هم يحاولون الانتقاص من “امتيازات لبنان”…
وقد سعى لزيادة مرتبات أبناء العرب المبعدين، والسماح لهم بالتجوال، والعفو عمن تجاوزوا سن الستين، وعن الباقين…
واقع الأمر أنه كان عثمانيا إلى أقصى الحدود في تلك المرحلة، ويرى أن الحملة على العثمانيين حملة ظالمة، وكان يعتقد أن حفظ خصوصية لبنان لم تكن ممكنة إلا في ظل الدولة العثمانية، وفي ظل دولة فدرالية منفتحة متسامحة مثل الدولة العثمانية آنذاك، من أجل حفظ خصوصية الجبل… وقد حاول تبرير مواقف اتخذها خلال الحرب، عندما خسر جبل لبنان صفة “المتصرفية”، وصار يعامل كولاية علمانية عادية تحت سيطرة جمال باشا… وقد انتقد الأمير كثيرا، لا من طرف المسيحيين فحسب، بسبب تلك المواقف… بل من طرف الدروز أيضا…
وقد أساءت إلى سمعته أربع مواقف على وجه الخصوص:
معاملته السيئة للبطريرك إلياس الحويك- نفي مئات العرب إلى القدس والأناضول، إعدام القادة الوطنيين في بيروت ودمشق، الفشل في تخفيف الصعوبات الناجمة عن المجاعة…
عام 1916 انتقل الأمير إلى اسطنبول، ولم يعد بعد ذلك يوما واحدا إلى سورية… وظلت سمعته مرتبطة بتصرفاته خلال العامين الاولين من الحرب…
ومن اللافت أن جمال باشا في مذكراته خصص جملة واحدة للمجاعة، و 8 صفحات لإعدام الوطنيين… ومعلوم أن تلك المجاعة أودت بحياة 200 ألف شخص في جبل لبنان، أي ثلث السكان، وغالبيتهم من المسيحيين، إذ أن الدروز استدركوا الأمر ولجأوا إلى حوران…
إلا ان الذين أعدموا كانوا من كل الطوائف، و الاحتفال بذكراهم عامل توحيد لكل طوائف الوطن…
وجدير بالتذكير أنه قبل العام 1937 كان هناك عيدان للشهداء في لبنان، واحد للمسلمين وآخر للمسيحيين… ثم توحد العيدان في يوم 6 أيار/ مايو…
لكن كفاح الأمير اللاحق في سبيل القضايا العربية أعاد وهجه وإشعاعه…
ولعل بعده عن أي تعصب مذهبي أو طائفي، هو الذي جعله قدوة للأجيال الطالعة…
الجامع… والكنيسة…
تحضرني بهذا الصدد البادرة التي أقدم عليها وليد جنبلاط في المختارة عام 2016، حين أقدم على تدشين كنيسة الدر العجائبية، لإحياء مشهدية الزيارة الأولى للبطريرك نصر الله صفير إلى الجبل… وتدشين مسجد يقال إنه بني في أيام بشير جنبلاط، وقد فصل بين المناسبتين أربعون يوما فقط…
الحدث الأول حمل عنوان الذكرى 15 لمصالحة الجبل. أما الثاني فكان تكريما لوالدته مي، و أطلق على المسجد اسم جده شكيب أرسلان…
وجاء تكريم مي جنبلاط في الذكرى الثالثة لرحيلها، ومعها سيرة والدها الأمير…
(يتبع: الأمير العروبي…)
Visited 41 times, 1 visit(s) today