أيُّها الفلسطيني.. حياتك موتك!
سعيد بوخليط
يكمن الموت عبر امتداد اللامكان، هكذا عهدناه دائما حسب ثوابت ثقافة المجتمعي المألوف. يحضر كي يغيب، ثم يغيب كي يحضر. كائن مجرد، محض تمثُّل ذاتي، بلا ملامح معلومة، يتغذى شأنه على الخيال الذاتي والهواجس الفردية، كل واحد منا يحدِّد مصير موته على طريقته، ويختار لطبيعة بقائه مايريد.
لكن منذ فترة، اتضح للبشرية بأنَّ للموت مكان بعينه، واضح المعالم، بأبعاده الهندسية والمادية، قد استوطنه بعد كل شيء هذا الوحش الغادر وجعل من أركانه ملاذا لعبوره، مثلما تجلَّت أساسا هويته المفترضة.
غزة موطن للموت، مختبر للإبادة،حقل مجاني للإعدامات، أوراش مقصلات ضخمة، مكان للاجتثاث، هندسة رعناء للتدمير، فضاء لمختلف تواريخ البربرية، مقبرة موت لايريد أبدا أن يموت.
أخيرا، حطَّ الموت رحيله عند مرفأ غزة، بقدر ما أدرك العالم وضعا ملموسا لهذا المجهول المسمى موتا، فقد تبدَّى أمام الموت أيضا، بأنَّ العالم قد أضاع بوصلة الحياة. لم يعد للحياة من مَنْزَع قياسا لهذا العالم المفلس، لذلك تُذبح غزة واقفة، تتمسك بالحياة رغم مختلف قوانين تنفيذ الموت. موت في كل مكان، هبوب حقد جارف، استحال على اللغة رصده بعبارات التداول المسكوكة.
تحتاج مخاطبة الموت في غزة إلى حياة جديدة للغة غير محنَّطة. صياغة بدايات عبر كل معاني اللغات السالفة، اعتقدنا طويلا بكونها معلومة للسائل والمجيب، لكن تجلَّى بوضوح أنَّ مستويات اللُّبس مهولة، لذلك تُنحر غزة من الوريد إلى الوريد.
يشملنا الموت قاطبة، نتلاشى جميعا.الكلُّ مُذْنب.
ما معنى جلّ التراث القائم: الموت؟ الحياة؟ الإنسان؟ البشرية؟ القانون؟ التعايش؟ المحبة؟ الأخلاق؟ القيم؟ الرحمة؟ شعور الذَّنب؟ إلخ. لم يعد ذلك المعجم الإنساني، مثلما يجدر به أن يكون. هكذا، أضحت كل هوية غزة تمارين للموت، جنون موت، حياة جنون، لانهائية السطو على ممكنات الحياة.
ما أبشع التلذُّذ بالقتل! نزوات إدمان الموت لمجرد تعطش سوداوي.
الحمقى الممسوسون، ذوو العاهات النفسية المستديمة الميئوس منها، جعلوا غزة مرتعا خصبا للإبادة، والفلسطينيين أطيافا لمسميات العدم، بل اللاشيء الذي يستحيل عليه أن يصير شيئا، حتى لانقول إنسانا بخصوص أفق الموت ذاك، مثلما يسري قانونه على الفلسطيني وغيره من الهويات الرافضة لاعتباطية الموت.
الموت كما ترعرع في كنفه الفلسطيني الجبَّار، حرية ومسؤولية وجودية كالحياة تماما.
غزة مأثم كبير لظلم أكبر، استفحل وتجبَّر في خضم عالم جنَّ جنونه،أضاع صوابه، يسرع نحو الجحيم،يتدحرج بلا هوادة، يمضي بلا بوصلة، أو مرشد للعقل والقلب، الذكاء والخيال، المفهوم والوجدان. عالم، لم يعد بوسعه الإبقاء على نقاء سيمفونية الحياة والموت، بغير خدوش الضحالة والبؤس.
غزة وليمة اللئام، قَصْعة أجنَّة التأم حولها بشراهة ذئاب جبناء، قتلة محترفون يتدبرون أيضا مصير البشرية جمعاء. يلتهمون غزة التهاما، يقطِّعون أوصالها تقطيعا، فأضحت ركام أشلاء. مذابح بهيمية،نستعيد معها في واضحة النهار رغم كل ”التمدن الحضاري”، مسالخ العصور الغابرة. مخطَّطات همجية، لا تبقي ولاتذر، على شيء اسمه الحياة أو كينونة الإنسان.
القتل فقط من أجل القتل. لعبة تراجيدية للتسلية. تزجية سادية بحيثيات الروتين السياسي أو مجرد مكر تدليس نتنياهو على قضايا شخصية، بحيث يلزمه الاستمرار في تقديم وصفات أطباق تقتيل الفلسطينيين رهن إشارة موائد متطرفي الكيان العبري، وإلا فالسجن مصيره بسبب ملفات قضائية، بالتالي تتوقف حرية مشروعه السياسي على مواصلته تأجيج هذه المحرقة البشعة وفق كل الأوصاف، سعيا إلى تقويض جنوده لمقومات الهوية الفلسطينية قدر ما استطاعوا. قتل، اعتقال، تعذيب، إهانة، تهجير، حصار، إلخ.
المشكلة العويصة بالنسبة لنتنياهو المتعجرف، كما هو معروف عليه لسوء حظه، اصطدامه بصخرة خصم صلب من عيار ثقيل فوق إنساني، ينتمي إلى فصيلة الأسطوريين الذين جسَّدوا باستمرار المصدر الأمثل لمعاني التطلع الأبيِّ، التجلُّد، الانبعاث اللامتناهي على طريقة طائر العنقاء؛ يموت لكي يولد سرمديا.
هكذا، ظلت المقاومة الفلسطينية منذ سنوات انطلاقتها الأولى، أفقا ملهما جدا لمختلف باقي الشعوب التي تعيش تحت وطأة التسلُّط والقهر،في طليعتها بالتأكيد شعوب المحيط القريب من فلسطين على امتداد رقعة الأوليغارشيات المستبدَّة، التي أمسكت دائما أعناق شعوبها بالحديد والسِّياط والنار،مما يفسر تاريخ المؤامرات والخيانات ضد عدالة القضية الفلسطينية.
تتساقط فوق رأس غزة كتل جهنمية من نيازك الحقد،حتى ينتهي هذا الفلسطيني مع عقدة الحياة،مماهاة الحياة، الرغبة تماما في الحياة، ويتحول على العكس من ذلك، إلى كائن منبطح يرسخ الموت ويدعو إليه.
لا يُراد لهذا الفلسطيني، تعميم عدوى الحياة على الجميع، خاصة وأنَّ قصد الزمن الحالي وقوام كنهه ملؤه استبعاد تعددية مرتكزات حياة إنسانية حقيقية، لصالح أخرى أحادية، زائفة تحت نير استعباد مهندسي عولمة المضاربات المالية والتسليع الرخيص، وامتثال الجميع دون رأي يذكر لمآلات انهيار منظومة الإنسان، ثم اقتلاع جدوى قصته جملة وتفصيلا.
يُقتل أحياء غزة، دون علمهم لماذا تمَّ وَأْدهم؟ أخجل حقا شديد الخجل من جدوى إنسانيتي، لماذا تتدفق ينابيع كل هذا الشر؟ هل بوسع الإنسان حقا أن يفصح عن هذا الذئب الشرس، نحو أخيه الإنسان ويرسم خرائط كل هذا القتل المروع؟
الموت فالموت، يقال بأنَّ تاريخ الأنسنة، حين نجاح الإنسان بالتموقع سيِّدا عند مركز الكون،أي سعيه للانتصار على الموت، والقضاء على نزوعات التدمير، التي تجرُّه بقوة نحو وضعيته ماقبل البشرية حسب شتى محدِّداتها الغريزية المضطربة، بالتالي ما يجري داخل غزة يعكس ضمن هذا السياق فشلا جذريا لسمو إنسانيتنا، أو على الأقل تصفية لما تبقى منها، يستدعي تبعا لدواعي كل الأسئلة الوجودية الجوهرية، دائما وبذات التوقُّد الذهني النبيل.