أمير البيان.. شكيب أرسلان (3/3)
جورج الراسي
الأمير المغاربي…
منذ أن أمسك الأمير شكيب أرسلان بناصية القومية العربية، حتى جعل الأقطار العربية كافة مجالا لنشاطه، وبذل جهدا خاصا لمتابعة التطورات في بلدان المغرب العربي، لا بالكلمة فحسب، بل كذلك بالنضال المسلح على الأرض. وهذه ميزة أساسية من ميزات هذا الأمير، الذي جمع التنظير مع حمل السلاح للدفاع عن القضايا التي يؤمن بها.
من أجل استقلال تونس
لقد قطع الأمير أي أمل في إقدام فرنسا على الإقرار بِاِستقلال تونس، أسوة بإيطاليا وألمانيا اللتين، أعلنتا اِعترافهما باِستقلال مصر التام. و طرح الأمير فكرة طرح اتفاق سري بين دول المحور وباي تونس، ينص على الاستقلال التام، في مقابل عقد تحالف بين هذه الدول والتوانسة مدته عشرين عاما.
وقد راسل الخارجية الإيطالية بهذا الخصوص في 14 – 1 – 1942. كما راسل بعض وجوه العمل الوطني، أمثال الدكتور الطيب ناصر، رئيس جمعية مصر الوطنية في إيطاليا، والمناضل الوطني زين العابدين السنوسي في 16 – 1 – 1943.
ورغم أن مساعيه قد فشلت بسبب ما آلت إليه الحرب، إلا أنها ساعدت على تثبيت فكرة الاستقلال.
وقد نسج علاقات متينة مع حزب “الدستور” ومع الحبيب بورقيبة.
قابل موسوليني من أجل ليبيا
عقب الغزو الإيطالي ليبيا عام 1911، والحرب التي استمرت عامي 1911 و 1912، ذهب متنكرا بلباس بدوي مع مجموعة من المتطوعين الدروز إلى طرابلس الغرب، وبقي هناك ثمانية أشهر في الجبل الأخضر، حتى شهر آب/ أغسطس 1912، يساند المقاتلين الليبيين ضد الهجمة الاستعمارية، برفقة القائد العثماني أنور باشا، وقد توثقت العلاقة بين الرجلين في تلك المناسبة، و استمرت إلى ما بعد نهاية الحرب.
(اهتمام اردوغان الزائد اليوم بليبيا ليس ابن ساعته…!)….
وقد دار نقاش واسع فيما بعد حول الصلة بين أرسلان والزعيم الإيطالي موسوليني. ففي عام 1934 قابل الأمير برفقة إحسان الجابري موسوليني، و بدا أنه نجح في إقناع الدولة الإيطالية بإعادة 80 ألف عربي ليبي إلى وطنهم في برقة و طرابلس الغرب، مع إعادة أراضيهم إليهم. وقد برر ذلك بمقتضيات “السياسة العملية”، على اعتبار أن موسوليني زعيم دولة عظمى.
وكان محقا بقوله إن السياسة كلها عبارة عن تبادل المنافع بين بين الأمم. وقد اتهمه خصومه عام 1935 أنه والمفتي محمد أمين الحسيني متواطئان مع الطليان وحصلا على أموال منهم. إلى أن تبين فيما بعد أن الرواية صناعة انكليزية – صهيونية…
الحرب على “الظهير البربري”
نصرته للمغرب الأقصى لم تكن أقل حدة و جرأة. فبين العامين 1926 و 1929 وقف إلى جانب ثورة الريف المغربي ضد الاستعمارين الإسباني والفرنسي، بقيادة الأمير عبد الكريم الخطابي.
وشن ابتداء من العام 1930 حملة شعواء على ما عرف بـ “الظهير البربري”، وهي تشريعات خاصة بالبربر، بهدف فصلهم عن العرب المسلمين. فكتب مئات الرسائل حول هذه القضية وغيرها إلى زعماء المغرب، أمثال علال الفاسي وعبد السلام بنونة والسلطان محمد الخامس.
وكان الأمير قد سافر إلى طنجة التي كانت مدينة دولية مفتوحة، ثم انتقل إلى تطوان، الواقعة تحت السيادة الإسبانية، حيث التقى في آب / أغسطس من عام 1930 أحد آباء الوطنية المغربية عبد السلام بنونة. وكان الأمير يتبادل الرسائل معه ومع بلفريج والوزاني.
ذلك “الظهير” أو “المرسوم” أرادت فرنسا من ورائه تنصير البربر عن طريق إحياء تقاليد بربرية، على حساب الشعائر الإسلامية، وقد ترافق ذلك مع حملة استعمارية على الإسلام في شتى الأقطار، إذ منعت حكومة فلسطين التئام جمعية الشبان المسلمين في يافا، و أغلقت أنقرة ثمانين مسجدا، و استولت إيطاليا على بعض زوايا السنوسية.
وكانت فرنسا تتشبث بإخراج البربر من الإسلام بحجة أن أصلهم نصارى، وأنهم من عرق أوروبي. وظهر رجال دين أمثال الكاردينال La Vigerie ورهبانيات الآباء البيض وغيرها، لبث الدعاية المسيحية بين البربر، وأخذت فرنسا تمنع التعليم الديني وتعليم اللغة العربية في أوساط البربر، وتفتح مدارس لتعليم اللغة البربرية إلى جانب اللغة الفرنسية.
والواقع أنها كانت تستشهد بما يجري في تركيا، حيث أن “حكومة إسلامية” تقدم على إلغاء الشريعة الإسلامية. فسعت فرنسا إلى الغاء المحاكم الشرعية بين البربر، وتذرعت بأن السلطان يوسف هو صاحب هذا القرار، ولكنه رغم ضعفه ما كان ليقدم على مثل تلك الخطوة، التي كان يقف وراءها بعض العملاء، أمثال المقري والمعمري.
وكان من نتائج الحملة التي شنها الأمير شكيب على الوجود الفرنسي في المغرب أن شكته باريس إلى بريطانيا. وقد آزرته آنذاك صحافة القاهرة، مما زاد من قلق وسخط المسؤولين الفرنسيين في الرباط، وظل شوكة في حلوقهم.
ومن الطريف أن فكرة “مقاطعة البضائع” راجت في تلك الفترة، فقد جاء في رسالة لزعيم تطوان الحاج عبد السلام بنونة وجهها إلى الأمير بتاريخ 9 / تشرين الأول/ أكتوبر 1930 ما يلي: “فكرة مقاطعة البضائع الفرنساوية تسري سريان الماء بالعود، وظهر أثرها حتى في بعض القبائل البربرية، كقبيلتي زعير وزمور، وتأسست في الرباط شركة لصنع نوع من “الكولبك” (الذي يسميه المشارقة ” قلبق”)، الذي يقوم مقام الطربوش المجلوب من فرنسا… وقام بعض أهل فاس بتحسين الثياب الوطنية بدل الجوخ المجلوب من أوروبا، وجلبت لذلك مناسج ميكانيكية. فعلى كل حال توجد حركة لا بأس بها ترمي إلى محاربة اقتصادية…”.
ثنائي الأمير شكيب ومصالي الحاج…
لعل من أروع اللقاءات المغاربية، تلك التي الصداقة النضالية التي جمعت الأمير بالزعيم الجزائري مصالي الحاج. اللقاء الأول بينهما تم في 7 أيلول/ سبتمبر عام 1935 بمناسبة انعقاد المؤتمر الإسلامي – الأوروبي في جنيف، وجرى في فندق “فكتوريا” قرب بحيرة ليمان والحديقه الإنكليزية، وقد دونه مصالي فيما بعد بأدق تفاصيله.
كان الأمير في السادسة والستين حينها. وكان الشيخ طاهر الجزائري أحد الذين ساهموا في تكوينه الفكري إلى جانب الشيخين المصلحين محمد عبده وجمال الدين الأفغاني.
واستمرت علاقة الرجلين على مدى الأعوام التالية ، وانعكست على مسار كل منهما. فقد ازدادت متابعة مصالي لمجريات الأمور في المشرق العربي. وعندما غادر فرنسا هربا من الاعتقال في 18 كانون الثاني / يناير عام 1936 إلى سويسرا ، كانت زيارته الأولى إلى الأمير بعد يومين من وصوله، كما تعرف على أبناء عمومة إحسان بك الجابري.
ولا شك أن البعد الإسلامي لدى حزب الشعب بزعامة مصالي، مرده إلى تأثير المشرق العربي. فمصالي الذي ولد في تلمسان في أيار / مايو 1898، التحق في بداية حياته بالزاوية الدينية “الدرقاوية”، لكن حياته النضالية فيما بعد جعلته أكثر ميلا إلى الفكر اليساري الاشتراكي، وساهم الأمير أرسلان لاحقا في جعله أقرب إلى تطوير الإسلام السياسي، فنرى مثلا أن العلم الجزائري الذي صممه وقامت زوجته بخياطته جاء في البداية يحتوي على النجمة والهلال… ومن الغريب أن التكتلات الإسلامية داخل الجزائر، كجمعية العلماء المسلمين التي كان يفترض فيها الوقوف في صف حزب الشعب، انحازت حينها إلى مجموعة فرحات عباس، التي كانت تطالب بالاندماج مع فرنسا.
كذلك كان للأمير دور في تطوير النزعة العروبية لدى مصالي، التي ظهرت في مختلف مراحل النضال الجزائري.
ففي رسالة يرجع تاريخها إلى شهر تشرين الأول/ أكتوبر 1936 كتبت “النجمة” إلى جريدة “الجهاد” المصرية تقول: “من واجبنا جميعا أن نعمل على تقارب الدول العربية. إن إفريقيا الشمالية فرحة اليوم لاستقلال مصر وسورية، وهي تعتبر هذين الحدثين كمرحلة على طريق تحرر كل الدول العربية، ونتمنى أن يؤكد المستقبل أملنا في قيام الوحدة العربية. فالفكرة تسير في طريقها، وليفهم كل عربي أن الوحدة وحدها كفيلة بجعلنا نحقق أهدافنا”…
يعود هذا الكلام إلى العام 1936، والفكرة القومية العربية لم تكن بعد قد شقت طريقها في المشرق ذاته…
وفي شهري آذار / مارس ونيسان / أبريل من ذلك العام بالذات تضامن جمهور المغرب العربي في باريس مع نضال الشعب السوري. ونظمت ” النجمة ” لقاء حاشدا لهذا الغرض في 7 شباط / فبراير… كما كتبت جريدة “الأمة” في عددها لشهري كانون الثاني / يناير وشباط / فبراير مقالا معبرا بعنوان “الدم يسيل في سورية”.
ووصل الأمر بالأمير أن اضطر إلى كبح الجماح الوحدوي لأصدقائه المغاربة، بدعوتهم إلى توعية الشعب وأن لا يقدموا على خطوات متسرعه لا تعمر طويلا… وكم أثبتت التجارب اللاحقة صحة وجهة نظره…
وجدير بالذكر أن الأمير تعرف خلال إقامته السويسرية على نوري السعيد، حين كان رئيسا لوزراء العراق، وعلى الزعيم المغربي عمر بن عبد الجليل…
وقد ساهم في تحرير مصالي من السطوة السياسية والأيديولوجية التي كانت تفرضها عليه الأممية الثالثة الشيوعية، ومن الضغط الفكري العلماني الاندماجي، الذي كانت تمارسه الجمهورية الثالثة الفرنسية، على حد سواء…
وقد ترسخ منذ ذلك الوقت التوجه الإسلامي والعروبي لدى الرعيل الأول من المناضلين المتأثرين بأجواء العاصمة الفرنسية في مرحلة ما بين الحربين… وكانت المطالب المتعلقة بصون حرمة الدين ، والاعتراف باللغة العربية وتدريسها، على رأس مطالبهم على الدوام…
في العمق الجزائري…
كان الأمير على اتصال بالعمال والطلبة الجزائريين في بلاد المهجر، وفي فرنسا على وجه الخصوص… وقد تلقى دعوة من جمعية طلبة شمال إفريفيا للعمل على توحيد صفوف الجزائريين، والقضاء نهائيا على الخلاف الذي كان قائما بين بعض أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الموجودين في فرنسا، كالشيخ الفضيل الورتلاني والشيخ السعيد صالحي من جهة، وبين “نجم شمال إفريقيا” حزب مصالي الحاج. وكان من بين من توسطوا لحل ذلك الخلاف الحبيب بورقيبة، وذلك في حدود العام 1937.
وفي آذار / مارس من تلك السنة جاء وفد من المؤتمر الإسلامي إلى باريس للمرة الثانية، بغية وقف الهجمات الصحفية الصادرة عن جمعية العلماء ضد مناضلي حزب الحركة الوطنية، نظرا لعدم قبولها مشروع بلوم – فيوليت. في حين كان الأمير يرى أن نشاط الفريقين متكامل، فالعلماء لهم جانب الدين واللغة، وللحركة الوطنية جانب السياسة.
وكان قد حضر وفد نجم شمال أفريقيا المؤتمر الإسلامي – الأوروبي الذي نظمه الأمير في جنيف، وسعى من خلاله إلى إبعاد مصالي عن الحزب الشيوعي، و تقريبه من القضايا الإسلامية.
وجدير بالذكر أن السلطات الاستعمارية منعت تسويق كتاب الأمير بعنوان: “لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم..؟”، ودخوله الأراضي الجزائرية. لكن بعض الصحف الصادرة في الجزائر، كجريدة “الشورى” ومجلة “الزهراء”، كانت تعيد نشر مقالات الأمير الصادرة في الخارج.
ومن الأمور التي تفاعل معها الأمير، قضية الخلاف بشأن الآذان بين المالكية والإباظية في غرداية، والتي تدخل لحلها، إضافة إلى الأمير شكيب كل من عبد الحميد بن باديس وتوفيق المدني والمولود الحافظي.
وكان الأمير يتابع عن كثب الحركة الفكرية والثقافية في الجزائر، وكتب يقول في أحد مقالاته “إن حملة عرش الأدب الجزائري أربعة: الشيخ عبد الحميد بن باديس، والشيخ الطيب العقبي، والشيخ البشير الإبراهيمي، والشيخ محمد العيد آل خليفة..”..
وكان يتابع نتاج الشعراء مفدي زكريا وصالح جلواح ومحمد الهادي السنوسي وغيرهم… وكانت له مراسلات مع الشيخ أبو اليقظان، صاحب “وادي ميزاب”، ومع الشيخ احمد مصطفى العلوي، صاحب جريدة “البلاغ”، التي كتب فيها الأمير، وكذلك مع الشيخ ابن عليوة…
كما نشرت جريدة “الشهاب” الكثير من مقالات الأمير، بخاصة فيما يتعلق بقضايا التبشير، حيث صدرت له مقالات تقارب العشر، في الأعداد الصادرة عام 1931. كما نشرت “الشهاب” سلسلة مقالات حول الشعر الجاهلي: هل هو صحيح أو منحول؟.. في إعداد العام 1929… رد فيها على الدكتور طه حسين الذي كان يقول بأن الشعر الجاهلي منحول…
كذلك نشرت له جريدة “المغرب” قصيدة “الدرة الأندلسية” التي تتناول قضايا وطنية وقومية…
لكن علاقته مع مصالي كانت هي الأساس. وقد بعث له الأمير فيما بعد بطاقة كتب فيها: “المجاهد الأكبر الأستاذ مصالي الحاج، رئيس حزب الشعب الجزائري، سجن بربروس، … لو كانت الشبيبة الإسلامية كلها على على نقطه، لتحرر الإسلام من زمن طويل…
ولا شك أن تلك الصداقة أبعدت الأمير عن سطوة الأممية الثالثة، وعمقت الاتجاه العروبي في تفكيره…
العودة إلى تراب الوطن…
بعد غياب طويل، في 30 تشرين الأول/ أكتوبر 1946، عاد الأمير شكيب إلى أرض الوطن، بعدما استشعر دنو أجله… وجرى له استقبال شعبي ورسمي حافل… وكان عزاؤه الكبير أنه حقق ثلاث أمنيات عزيزة على قلبه: ألا يموت في الغربة، وأن يكحل عينيه برؤية والدته ولثم يدها، وأن يشهد بلاده حرة مستقلة…
أسلم الروح بعد وقت قصير في 9 / 12 /1946. وقد رثاه أمير الأردن عبد الله في احتفال أقيم في مدينة حيفا عام 1947 بقوله: “لقد مات الذي ليس فوقه فوق”…
Visited 50 times, 1 visit(s) today