ذكرياتٌ تستعصي على النّسيان مع السّفير الرّاحل عبد الحفيظ القادري

ذكرياتٌ تستعصي على النّسيان مع السّفير الرّاحل عبد الحفيظ القادري

د. السفير مُحمّد مَحمّد خطّابي

 

ودَاعاً أيّها الرّجلُ الشّهمُ الشّجَاع الحَافظُ  للوُدّ الجَمِيل

      منذ أن نشر الصديق محمّد بوخزار تدوينة مؤثرة يؤبّن فيها السياسيّ المحنّك والوطني الغيور، السفير الوزير المشمول برحمة الله، الشريف نسباً وحسباً سيدي عبد الحفيظ القادري، الذي وافاه الأجل المحتوم يوم الاثنين 11 ديسمبر 2023  في الرباط، قفزت إلى ذهني واستقرّت في عقلي وقلبي ووجداني فكرة ردّ بعض الدَّين الخلقي لهذا الإنسان النبيل، الذي شاءت الأقدار، وقيّض الله لي أن أحظى بشرف وحظوة العمل بجانبه أواسط الثمانينات من القرن الفارط، عندما كان سفيراً للمغرب في العاصمة الإسبانية مدريد.

شهادة الصّديقيْن محمّد بوخزّار وعبد الحميد جماهري

   يقول الأخ بوخزار في تدوينته البليغة إيّاها: “الراحلون: سيدي حفيظ القادري،عبد الرحيم بوعبيد، مولاي عبد الله ابراهيم، وقلة  من رجالات المغرب الافذاذ، انفردوا بالتعبير عن مواقف سياسية جريئة ومخلصة؛ في فترات من حكم الملك الراحل. اعتقدوا أنها الصّواب من منطلق موقعهم في المعارضة وغيرتهم الوطنية.. وسواء بالغوا، أو غابت عنهم كلّ المعطيات والحيثيات؛ فما يسجل في سيرهم، بمداد الفخر، أنهم ابتعدوا عن المشاركة في “مؤامرة الصّمت” وتزيين قرارات، اتضح أنها أضاعت على البلاد فرصاً. لذلك، فإن الملك الحسن الثاني، وكانوا رفاقاً له، في معارك النضال من أجل الاستقلال؛ ظلّ يشملهم دائماً بالرضا والعطف والتقدير”.

وخصّ الصديق الشاعر والإعلامي الأستاذ عبد الحميد جماهري افتتاحية عددِ 14 ديسمبر الجاري من جريدة “الاتحاد الاشتراكي”، وهو مدير النشر والتحرير بهذه الصحيفة الزاهرة، عن الفقيد  تحت عنوان “عبد الحفيظ القادري رحيل رجل شجاع”. ممّا جاء فيها: “هناك في قدر الرجال الكبار، مفارقة لا يعيشها العاديون من الناس، أن يمرّ شريط حياتهم أمام أعين أناس لم يعيشوها معهم أو لم يعايشوهم، ومنهم رجل ودّعه المغرب يعدّ واحدًا من الوطنيين غير القابلين للمقارنة، وهو أحد بناة الاستقلال، مساره له شرفات متعددة كما له عتبات، منها عتبة المدرسة المولوية، إلى جانب الملك الحسن الثاني، وهو من آخر من تبقّى من أصدقاء الملك الراحل في مقاعد الدراسة، وهناك عتبته الوطنية ولا شك كقيادي استقلالي وطني من طراز خاص، وعتبته الصحافية بحيث كان من محطاته الإعلامية إدارته لجريدة (لوبينيون)”.

ويحكي لنا الأستاذ جماهري باحترافيته العليا المعهودة: “وقاد قدر الفقيد القادري أن كان مرافقا ملتصقا بأب الروح الاستقلالية الكبير علال الفاسي، وقد ظل معه في لحظات الشدّة هنا وفي الخارج، وقد رافق الزعيم في رحلته حول العالم دفاعا عن الصحراء ومغربيتها، رحلة قادته إلى رومانيا أيام الرئيس نيكوالي تشاوسيسكو، هنالك فارق الحياة. لقد مات الزعيم ورأسه على كتف الراحل القادري”. ويذكّرنا الأستاذ جماهري ارتباط اسمه بموقف مشرف مع الفقيد عبد الرحيم بوعبيد. فقد رفض، بالأدب الذي يجب أن يكون في حضرة السلطان، اعتقال الزعيم الاتحادي، وقال قولته بـ “أن بوعبيد لا يمكن أن يُعتقل”، في إحالة لما قاله ديغول عندما عرضوا عليه اعتقال سارتر في انتفاضة ربيع ماي 1968، حيث أجاب “لا يمكن اعتقال فولتير”..! هذا الموقف هو الذي رافقنا في ثمانينيات القرن الماضي، وهو الذي رفع اسم الفقيد في قلوبنا”، ويضيف الأخ جماهري: “الواقع أن الرجل كان في موقع رسمي، بالرغم من رفاقيته الدراسية للملك الراحل، وكان الوزراء قد تعلموا أن يسكتوا ويحركوا الرأس بالموافقة، أنه  بعد الوزارة سيتم له اختيار “منفاه” إلى إسبانيا حيث تم تعيينه سفيرا فيها عام 1982″.

وهنا أختلف في الرأي مع الأستاذ جماهري في هذا المجال، فتعيين الفقيد سفيراً للمغرب في اسبانبا اقتضتها الظروف الصّعبة التي كانت يعيشها البلدان آنذاك، وكان على المغرب أن يثبّت أقدامه ويفرض نفسه على الساسة الجدد الإسبان بعد المرحلة الانتقالية التي كانت تعيشها البلاد، حيث كانت تعمل على ترسيخ الفكر الديمقراطي الذي أقرّه الدستور الاسباني الجديد في 6 ديسمبر1978، وكان الحزب الاشتراكي العمّالي الاسباني بقيادة فليبي غونساليس يعبّد الطريق إلى (المُونكلُووا) بعد سنواتٍ قليلة لتعزيز صداقةٍ أوثق، وتعاون أعمق مع المغرب، فكان الشريف القادري الرجل المناسب لهذه المهمّة، فلم يكن اختياره لهذا المنصب الدبلوماسي اعتباطاً، بل نظراً للخِصلة التي أبرزها الأستاذ جماهري نفسه وهي “الشجاعة المفرطة والوطنية العميقة للرجل”، التي ستظهر بوضوح في مختلف المواقف الشهمة التي قام بها وتبنّاها في اسبانيا، وشاءت الأقدار أن أكون شاهداً عليها عن قرب، وذلك ما سوف أتعرّض له في هذا المقال، بعد أن طلبني للعمل الى جانبه قادماً إليه من طرابلس ليبيا بعد انتهاء المهمّة الصعبة التي قمنا بها في هذا البلد الصديق، مع دبلوماسيّ آخر من الطراز الرفيع، وهو المغفور له الصديق المعطي جوريو.

معروف أن الفقيد كان من أبرز من قيادات “حزب الاستقلال”، وقد شغل منصب كاتب الدولة فى وزارة الفلاحة في حكومة أحمد بلافريج بعد الاستقلال سنة 1958، ثم عُين وزيراً للشبيبة والرياضة في حكومة أحمد عصمان، واستمر في هذا المنصب في حكومة المعطي بوعبيد. ويُعتبر القادري من  المهندسين الفلاحيين الأوائل في المغرب، ودرس رفقة العاهل المغربي الملك الراحل الحسن الثاني في المدرسة المولوية (الأميرية)، وهناك صورة شهيرة  يظهر الفقيد جالساً إلى جانب المغفور له الحسن الثاني، عندما كان لمّا يزل أميراً ووليّاً للعهد، وهما في مقتبل العُمر وريعان الشباب. عمل كذلك في مجال الصحافة، حيث كان مديراً لجريدة «الرّأي»، الناطقة بالفرنسية باسم «حزب الاستقلال». وكان آخر منصب رسمي تولاّه هو سفير المغرب في مدريد بين 1982 و 1986.

حبّه للغة الضّاد وشغفه بها

   على إثر عودتي من طرابلس بطلب من السفير القادري، والتحاقي بمقرّ عملي الجديد بمدريد إلى جانبه، أشير في المقام أنه كان في البداية يحبّذ العمل باللغة الفرنسية، ولكنّه سرعان ما قال لي ذات يوم عندما اطّلع على نوعية التقارير والمراسلات التي كنت أحرّرها باللغة العربية، قال لي بالحرف: ابتداءً من اليوم سوف نعمل باللغة العربية، فكان الأمر كذلك. فأصبح عملنا بعد ذلك يتمّ بلغة البلاد الرسمية، التي كان القادري معجباً وشغوفاً بها بشكل كبير، رغم تكوينه المتين في لغة موليير. كان دائماً يسألني عن العديد من معاني الكلمات والمفردات التي تأتي في سياق النص ، وذات يوم قال لي بالحرف الواحد، وكنّا بمفردنا في مكتبه، قال: “السّي الخطّابي لم أندم في حياتي مثلما ندمتُ على عدم اهتمامي الكبير بالدروس التي كان يلقننا إيّاها باللغة العربية المرحوم الحاج محمد با حنيني في المدرسة المولوية (الأميرية) إلى جانب ملك البلاد”.

سبتة ومليلية المحتلتان

   ولقد كنت في بداية عملي بجانبه ملحقاً صحافياً، وذات يوم كان عندنا موعد مع احد الصحافيين الكبار وهو (فيثنطي طالون)   Vicente Talón لإجراء أوّل استجواب مع السفير القادري، وأتذكّر أنني بحكم عملي السابق في الميدان الصحافي إلى جانب السفير المعطي جوريو، سألني عن ماذا عليه أن يقول لو سأله الصحافي عن هل هناك نيّة للمغرب للمطالبة بمدينتي سبتة ومليلية المحتلّتيْن، فقلت له، أو بالأحرى ذكّرته خاصّةً وهو قطب من أقطاب الصحافة في المغرب، أنّ الملك الحسن الثاني كان  غالباً ما يقول إنه عندما تفتح اسبانيا ملف المطالبة بجبل طارق مع بريطانيا سوف لن نتردد عندئذ بمباشرة المطالبة بمدينتي سبتة ومليلية من الإسبان. فكانت دهشتي كبيرة، وهنا تجلّت لي مدى شهامة وشجاعة هذا الرجل، وهي شجاعة وشهامة لم أعهدهما في سواه، إذ قال للصّحافي عندما سأله عن موقف المغرب من سبتة ومليلية، بصوتٍ حازم وصارم: “إننا لن ننتظر فتح اسبانيا لملف جبل طارق مع الانجليز لنطالب بسبتة ومليلية، بل إننا سنفعل ذلك قبل ذلك بكثير”، وبما أنني كنت أترجم له ما يقوله بالحرف في هذا اللقاء، فنقلت بكلّ أمانة للصحافي ما قاله السفير، وكنت أتوقّع أن جواباً شجاعاً من هذا القبيل قد يثير نعرات في اسبانيا والمغرب في تلك المرحلة الحسّاسة بين البلديْن على حدٍّ سواء، ولكنّ شيئاً من هذا القبيل لم يحدث.

إبراهيم موسىَ ابن ميمون!

   خلال عملنا المتواتر اليومي في السفارة، عيّنني السيد القادري مستشاراً ثقافياً مسؤولاً على هذا القسم، الذي كان يكتسي أهميّة بالغة في العديد من القضايا الثقافية بين المغرب واسبانيا، من رعاية شؤون الطلبة وتوسيع منحهم، فضلا عن الأنشطة والتظاهرات الثقافية التي كان السيد القادري يوليها عناية قصوى، حيث كنت أرافقه لأترجم له من الاسبانية والعكس في مختلف المدن الاسبانية، ومن أبرز القضايا المثيرة التي واجهتنا في هذا القبيل احتفاء اسبانيا مع إسرائيل بالذكرى الثمانمائة والخمسين لميلاد الفيلسوف اليهودي الأندلسي موسى إبراهيم ابن ميمون، المعروف في الغرب باسم: (Maimónides) ومعروف ان هذا الفيلسوف كتب جميع أعماله باللغة العربية، وقد تتلمذ على ابن رشد وابن طفيل، ومن أشهر كتبه (دليل الحائرين)، الذي ترجم إلى العديد من لغات الأرض، ومنها الاسبانية بعنوان: ( La guía de los perplejados o La guía de los descarriados)، وأقامت الجالية اليهودية في مدريد الدنيا وأقعدتها للاحتفال على أوسع نطاق بهذا الفيلسوف، الذي عاش تحت ظلال الحضارة العربية الإسلامية بالأندلس، والذي لو لم يكن هناك تسامح ومعايشة سلمية مع مختلف الأديان في ذلك الإبّان لما أمكنه أن يجلس في حلقة الدرس أمام الفيلسوفين الكبيرين ابن رشد وابن طفيل، وتساءل آنذاك الغيورون على تاريخ الاندلس: أن لماذا لم يُحتفَ بالفيلسوفيْن الإسلامييْن ابن رشد وابن طفيل، اللذين كانت قد مرت ذكراهما التسعمائة قبل هذا التاريخ بقليل..؟ وكانت هناك اقتراحات من الجالية اليهودية إصدار طوابع بريدية بهذه المناسبة، وتجنّدت للإسهام في هذه الذكرى تحت إشراف رئيس هذه الجالية في اسبانيا آنذاك المسمّى (صامويل طوليدانو)، الذي كان قد كتب مقالاً حول هذا الاحتفال في مجلة أسبوعية اسبانية واسعة الانتشار، وهي (Cambio 16)، في الصفحة الأخيرة من هذه المجلة في مكان بارز. وكانت القطرة التي طفح بها أو لها الكأس كذبة تاريخية ختم بها صاحبنا مقاله، فزعم بالحرف الواحد بما يلي: (قال ابن سينا عن ابن ميمون، إنه إذا كان الطبيب الإغريقي جالينوس قد عالج البدن، فإنّ ابن ميمون قد عالج الرّوح)، وعندما أخبرتُ السفير القادري بهذه االكذبة وهذا التزوير، وبيدي مرجع ضخم للمؤرخ الفرنسي الشهير (Lucien Le clerc) هو كتابه الكبير (تاريخ الطبّ العربي) (Histoire de la médecine arabe)، قلت له: أنظر سيدي، كبف سيعطي الفيلسوف ابن سينا رأيه في ابن ميمون، وهو عاش قبله بما ينيف عن  قرن من الزمان،  إذ وُلِد موسى بن ميمون في قرطبة سنة 1135 ميلادية، وتُوفيَ في القاهرة سنة 1204 ميلادية، في حين ولد  ابن سينا سنة 370 هـ (980م) وتوفي في همدان (في إيران حاليا) سنة 427 هـ (1037م). وهنا استشاط السفير القادري غضباً، وقال لي بالفرنسية (ce n’ est pas vrai). فدنوتُ منه وأطلعته على هذه المعلومات، فقال لي على الفور: لا ينبغي لنا السّكوت على هذا الأمر، غداّ سأطلب من سفير جامعة الدول العربية بمدريد عقد اجتماع لمجلس السفراء العرب المعتمدين باسبانيا لدراسة هذا الموضوع. وفعلا تمّ عقد هذا الاجتماع، وقد رافقت السيد القادري خلاله وقدّمت عرضاً مختصراً حول هذا الموضوع، ووعد السفراء بمتابعة الموضوع مع بلدانهم، ولم يتوان المغرب عن طريق السيد السفير القادري من العمل على إشعار وتحسيس المسؤولين المغاربة بهذا الأمر، كان من نتائج هذا التحرّك بعد أن طلب مني السيد السفير إعداد تقرير مفصّل حوله، أن لم تمرّ أيّام قليلة حتى انتهى إلى علمنا أنّ (أكاديمية اللمملكة المغربة) قرّرت عقد دورة خاصّة حول ابن ميمون في مدينة أكادير، بحضور باحثين من المنتمين لهذه الاكاديمية العتيدة من مختلف بلدان العالم. خاصّة وأن ابن ميمون في حقبة مّا من حياته كان قد هاجر إلى المغرب واستقرّ بمدينة فاس، قبل أن ينتقل إلى طبرية ثم القاهرة، وعلى ذكر ابن رشد وابن طفيل، كنت قد أخبرت السفير القادري أنّ هاذيْن الفيلسوفين العظيميْن توفيا بمراكش، وقد حضر الخليفة أبو يعقوب المنصور الموحدي جنازتيهما، وابن رشد هو الذي أوعز للخليفة ببناء سور مراكش الكبير.

استرجاع مقرّ جناح المغرب بالمعرض الدولي بإشبيلية

   من المواضيع الثقافية والتاريخية الهامة التي استأثرت بعمل السفارة تحت إمرة السفير القادري، استرجاع مقر جناح المغرب فى المعرض الدولي الاقتصادي الأيبيرو- الأمريكي بمدينة إشبيلية عام 1929، الذي كان قد أقام بناية معمارية فريدة من نوعها من حيث جمال وروعة الفنون المعمارية، وكان جناح المغربي في هذا المعرض يتألف من مجموعة من الأعمال الفنية والحرفية التي تمثل الثقافة المغربية. واعتبر من أبرز الجناحات، وقد حظي بإعجاب الزوار والنقاد على حد سواء. ذلك أنني ذات يوم من أيام الله الخوالي عثرتُ على وثيقة تاريخية تثبت ملكية المغرب لهذا الجناح، ولم يسأل فيها ولا عنها أحد منذ ذلك الإبّان، وعندما أخبرتُ السفير القادري وأطلعته على هذه الوثيقة، صار ينظر إليّ  بنوع من الشدوه ثم قال لي: لا ينبغي لنا السكوت عن هذا الأمر، عليك بإعداد تقرير مفصّل حول الموضوع لإرساله على عجل إلى كل من الرباط وبلدية إشبيلية، وبادرنا إلى موافاة الجانبين بتقرير حول هذا الأمر، لعلنا نستعيد هذا المبنى ونحوله إلى مركز ثقافي مغربي، وجاءنا الردّ سريعاً من بلدية إشبيلية قبل الرباط، وكان محتوى الجواب مؤسفا، ومؤلماً في آنٍ واحد، إذ وافتنا البلدية بوثيقة مكتوبة باللغة العربية بالخط المغربي المعروف مع ترجمتها إلى الاسبانية، يقول محتواها إنه فعلاً أنّ هذا الجناح كان في ملكية المغرب، إذ هو الذي أشرف على اقتنائه وبنائه بذلك الشكل المعماري الاندلسي–المغربي الفريد، ولكن الخليفة مولاي الحسن بن المهدي كان قد أهداه كتابةً لبلدية اشبيلية، عندئذٍ زمّ السيّد السفير القادري شفتيْه، وهزّ رأسه أسفاً عندما علمنا محتوى تلك المراسلة!.

المطالبة باسترجاع المخطوطات المغربية بدير الإسكوريال

   وذات أمسية صيفية في مقرّ إقامة السفير في مقرّ سكناه بحيٍّ راقٍ يسمّى (باب الحديد)، جرّنا الحديث عن كتب المسلمين الباقية في إسبانيا بعد إبعادهم عنها إلى منافيهم، في كلٍّ من المغرب والجزائر وتونس وبلدان أخرى، ولمّا سألني أنْ ماذا حدث بهذه الكتب؟ أخبرته أنّ خزانة الاسكوريال المليئة بالمخطوطات العربية، يظنّ الكثيرون أنها من مخلفات العرب في اسبانيا، والحقيقة أنّ محاكم التفتيش الكاثوليكية كانت أحرقت كلّ الكتب العربية أينما وجدت، ولم يبق بعد خروج المسلمين من شبه الجزيرة الايبيرية كتب عربية تستحق الذكر، وفي أيام السعديين كان منصور الذهبي مولعًا باقتناء الكتب وجمع منها خزانة عظيمة، وسار خلفه ابنه زيدان على سنته في الاهتمام بالكتب، فنمّى الخزانة التي كانت عند والده. ولمّا قام عليه أحد أقاربه واضطرّ للفرار كان أوّل ما فكّر فيه خزانة كتبه، فوضعها في صناديق ووجّهها إلى مدينة آسفي لتشحن في سفينة كانت هناك لأحد الفرنسيين لينقلها إلى أحد مراسي سوس. فلمّا وصلت السفينة اِنتظر رئيسها مدّة كي يدفع له أجرة عمله، ولما طال عليه الأمر هرب بمركبه وشحنته الثمينة، فتعرّض له في عرض البحر قرصان إسباني وطارده للاستيلاء على الصناديق، فلمّا فتحوها ولم يجدوا بها إلاّ الكتب، فكّروا من حسن الحظ أن يقدّموها هديّة لملكهم. ولما وصلت هذه الكتب إلى الملك فيليبي الثاني أوقفها على هذا الدّير، وهي التي لا تزال موجودة به إلى اليوم.

فلمّا لاحظتُ أن الحديث قد راقه، إذ كان يتابع باهتمام بالغ ما كنت أحكيه له، أضفتُ قائلاً:  معظم الرحّالة  والسفراء المغاربة الذين زاروا إسبانيا تعرّضوا بهذا الموضوع، وكان المغرب يطالب بها منذ اِستيلاء الإسبان عليها، حيث زارها اِبن عبد الوهّاب الغسّاني سفير السّلطان المولى إسماعيل خلال حكم العاهل الاسباني كارلوس الثاني (1691-1690)، ثمّ السّفراء: الزيّاني (1758)، وأحمد المهدي الغزال (1766)، واِبن عثمان المكناسي (1779)، والكردودي (1885)، وكان هؤلاء السفراء يطالبون باسترجاع المخطوطات المغربية إلى بلدها الأصلي. عندئذٍ قال لي السفير القادري على الفور: ولماذا لا نطالب بها نحن اليوم؟ فقلت له: على بركة الله سعادة السفير.

وبعد أيام قليلة من هذا اللقاء الجميل، وبعد أن اتصلتُ بالمسؤولين عن مكتبة دير الاسكوريال، قمنا بزيارته وهو لا يبعد عن مدريد سوى حوال 30 كيلومتر، فرحّب القائمون عليه ترحيباً كبيراً  بالسيد السفير، وانبهرنا من هذا المعلمة العريقة، وقمنا في البداية بزبارة الجناح الذي يضمّ المخطوطات المغربية على وجه الخصوص، وأخبرنا المسؤولون عن المكتبة أنها تضمّ حوالى 45000 كتاب مطبوع تعود للقرنين الخامس عشر والسادس عشر، وما يزيد على 5000  مخطوط، تتوزع حسب أهميتها من حيث مضامينها وعددها، وتأتي في المرتبة الأولى المخطوطات المغربية، (1700) مخطوط.

ومثلما طالب السفراء المغاربة السابقون بالمخطوطات المغربية، قام السفير القادري بنفس الطلب، وعدنا أدراجنا إلى مدريد، وقد سرّ السفير القادري بهذه الزيارة، ثمّ أخبرنا الرباط ضمن تقرير خاص بالمساعي التي بذلها السيد السفير، كأسلافه السفراء المغاربة. ويبدو أن نتائج هذه المساعي تأخرت حتى عام 2010، حيث أعلن المسؤولون المغاربة أنّه تمّ تصوير المخطوطات المغربية الموجودة في الاسكوريال بمدريد وإعداد نسخ منها على الميكروفيلم، لتصبح متوفّرة للاستعمال في المكتبة الوطنية بالرباط.  ولم يتمّ تحقيق هذه الغاية حتى عام 2011.

تظاهرات ثقافية مغربية في العديد من المدن الاسبانيّة

   وخلال المدة التي قضاها السيد القادري سفيرا لبلاده في مدريد (1982-1986)، قام بنشاط جمّ ومتنوّع في تحريك الجانب الثقافي بين البلدين، الذي كان قد بدأه سالفه المرحوم السفير المعطي جوريو، ولقد كنت أعمل إلى جانبه قبل ذهابنا إلى طرابلس في هذه الفترة ، حيث انطلق تحريك هذا الملف الحيوي الهام بين البلدين،  وكان يساعدنا على ذلك الصّديق جمال الدين مشبال، الذي لم يألُ جهداً في هذا المجال كذلك، والمشمول برحمة الله محمد شقور، الذي كان يرأس مكتب وكالة المغرب العربي للأنباء (La Map) بمدريد، أقول انطلق هذا التعاون الفعلي بين المغرب اسبانيا عام 1978، حيث تمّ تأسيس “مجموعة المثقفين الإسبان والمغاربة” التي شكّلها صفوةً من الكتّاب، والأدباء، والمفكّرين المغاربة والإسبان التي ضمّت 40 مثقفاً من المغرب، و46 مثقفاً من إسبانيا، الذين طالبوا- في بيان نُشر إبّانئذٍ في أمّهات الصحف الإسبانية والمغربية – بضرورة تحريك وتفعيل العلاقات الإسبانية المغربية على مختلف المستويات، وإعطائها نفساً جديداً، وإذكاء روح التعاون والتفاهم والحوار بينهما. وضرورة تفعيل وتحريك الجانب الثقافي بينهما. ونذكر من الموقّعين المغاربة: المهدي بنونة، محّمّد شقور، محمّد شبعة، لسان الدين داود، عبد الكريم غلاب، محمد بن عيسى، مصطفى اليزناسني، محمّد العربي الخطّابي، السّفير محمّد محمّد الخطّابي (كاتب هذه السطور)، عبد الكبير الخطيبي، عبد الله العروي، محمّد اليازغي، محمّد المليحي، محمّد العربي المساري، سيمون ليفي، محمّدالصبّاغ، علي يعته.. إلخ. ونذكر من الإسبان: خوان غويتيسولو، فرناندو أرّابال، بيدرو مارتينيث مونتافيث، خورخي سينبرون، فاثكيث مونطالبان، فيكتور موراليس، وآخرين، وقد طالب هذا البيان بضرورة إعطاء نفسٍ جديد للعلاقات الثنائية بين البلدين في مختلف المجالات، كما أفضت هذه البادرة المبكّرة فى ذلك الإبّان إلى تأسيس ”جمعية المثقفين الإسبان والمغاربة”، التي نظمت ندوات وملتقياتٍ دورية بين البلدين. كما أسّست بعد ذلك ”لجنة اِبن رشد” التي ضمّت نخبة من كبار المثقفين والأدباء والمفكرين فى كلٍّ من إسبانيا والمغرب، عملت على تسليط الأضواء على العديد من المواضيع والقضايا الحيوية التي تحظى باهتمام الطرفين.

وسار السيد القادري على هذا النهج، وقمنا بتنظيم العديد من التظاهرات والملتقيات الثقافية في مختلف المدن الاسبانية، حيث تم توأمة مدينة الرباط مع اشبيلية، التي لم يوافق عليها المغفور له الملك الراحل الحسن الثاني  في البداية، على أساس أن الرباط لا يتمّ توأمتها سوى مع العواصم، ثمّ عاد ووافق على هذه التوأمة بعدما أوفينا في شرحٍ ضافٍ عن مدى أهمية اشبيلية بالنسبة لبلادنا، خاصةً وهي تضمّ معالم عمرانية عظمى من بناء الموحدين، وفى ذات الاتجاه تمّ توأمة الصوامع الثلاث: الخيرالدا باشبيلية، وحسان بالرباط، والكتبية في مراكش، كما أمكننا إقناع عمدة مدينة المُنكّب (Almuñecar) برفع مجسّم علوّه تسعة أمتار لصقر قريش عبد الرحمن الداخل، الذي نزل  قادماً من شمال افرقيا وصحبه  فى سواحل هذه المدينة. وفى هذا التاريخ تمّ لأوّل مرّة فتح مسجد قرطبة الأعظم في وجه المسلمين، ولقد مثّلتُ السيد السفير في هذه التظاهرة، وحضر إبّانئذٍ ممثل خاص عن البابا في روما، فضلاً عن الإسهام في ترميم مدينة (سياسة)  (CIEZA) من بناء الموحدين القريبة من مدينة مرسية. بالإضافة إلى العديد من التظاهرات والملتقيات الثقافية والفنية في مختلف الاسبانية، والتي شاركنا فيها غير قليل من المثقفين الاسبان والمغاربة المرموقين.

وتجلّى لي مدى تواضع هذا الرجل، أنه ذات يوم نادى عليّ على عجل لمرافقته إلى تظاهرة ثقافية كبرى في مدينة (بورغوس)، وكان الفصل شتاءّ  والجوّ بارداً، فلمّا وصلت أنا وزوجتي إلى مقرّ إقامته لننطلق منها إلى هذا اللقاء، لاحظ أنني كنت أرتدي لباساً خفيفاً، فطلب منّا الانتظار قليلاً وصعد هو نفسُه أدراج بيته إلى أعلى المبنى، وزوجته وزوجتي ظلّتا تنتظران معى في مدخل المنزل، وبعد هنيهةٍ قدِم وفى يديْه معطفه الخاص، ثمّ وضعه على كتفي وهو يقول لي: السّي الخطّابي راه قالو لي أنّ مدينة بورغوس باردة جداً !

 الحديث عن هذا الرجل الشجاع والمناضل الشّهم والمثقف الحصيف والدبلوماسي المحنّك، حديث ذو شجون يطول ويطول، وإن نسيت فلن أنسى  ما تبقىّ من العُمر، حقبة عملي إلى جانبه المشرقة، وبعد مرور حوالي عشرين عاماً من عملنا جنباً إلى جنب في مدريد، بعد تنقّلات في نطاق العمل، طفتُ فيها العديد من بلدان أمريكا اللاّتينية، وبعد أن عُيّنتُ قنصلاَ عاما بمدريد عام 2000 فاجأني بمحبّة، إذ رأيته يطلّ عليّ من وراء دفّة باب مكتبي، فأخذني بالأحضان، وجلسنا نحتسي كؤوسَ الشاي المُنعنع الذي كان يروقه كثيراً ،وقال لي حينها بالحرف: السّي الخطابي محبّتي لك هي التي ساقتني إليك، أنا عابر سبيل بمدريد، ولم أزر أحداً من معارفي بها سواك. وتوادعنا بعناقٍ حارّ ولم أر ولم ألتق بهذا الرجل الشهم الودود بعد ذلك، إلى أن جاءني خبر اِنتقاله إلى الرفيق الأعلى منذ أيّام قليلة، تغمّده الله تعالى بواسع رحمته ، وأسكنه فسيح فراديسه وجنّاته.*

__________________________________________

*تحريراً في أجدير الحَصين (الحسيمة)، في غسَق يوم الإثنين 25 ديسمبر 2023.

Visited 18 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد محمد الخطابي

كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الاسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا