صمت يلفه صمت… و«حلل يا دويري»!
خالد بريش
القضية الأم
مريب هذا الصمت، وكأنه غير مسموح لهم جميعا بالكلام، كتلاميذ في فصل دراسي.. ومن تحرك منهم، تحرك بخجل، وضمن حسابات، وفي نفسه حسرات على مشاريعه التطبيعية، وأحلامه الاقتصادية التي كانت ستتم على حساب القضية الأم طبعا، وها هي ذي قد انتهت، ودفنها «طوفان الأقصى»، إلى غير رجعة، وحلل يا دويري…!
صمت، والصمت بحد ذاته تواطؤ وتآمر وخيانة، ولا يوجد له تعريف آخر، ولا يمكن فهمه أو استيعابه، خصوصا وسط هذه البحار من الدماء التي لم تتوقف ساعة واحدة.. حتى الجمعيات الحقوقية المدافعة عن المساجين والأسرى، تُصدر بيانات خجولة للغاية، وكذلك الجمعيات النسوية المدافعة عن حقوق المرأة والأمومة تخفض من نبرتها إلى أدنى حد ممكن، ثم تختفي…! وكأن اللواتي يقتلن وتتناثر لحومهن، أو يتم تعريتهن من ثيابهن وإهانتهن لسن بنساء…!
جمعيات رعاية الطفولة
أما جمعيات رعاية الطفولة التي تتباكى على الأطفال، وتتهمنا بأننا لا نحسن تربيتهم، فقد غضت الطرف أيضا ولم تر لحوم الأطفال الطرية الغضة، وهي تشوى بالقنابل الفسفورية التي أهدتها أمريكا مجانا لهذا الكيان السفاح، لكي تفعل فعلها في أطفالنا ونسائنا وشيوخنا.. ثم كيف ترفع هذه المنظمات صوتها في وجه جرائم هذا الكيان، ودورها في الأساس ينحصر في اللعب في ساحات مجتمعاتنا فقط، ولحاجة في نفس يعقوب، وحلل يا دويري…
صمت، يلفه صمت… ولكن الرئيس الأمريكي والمحيطين به لم يصمتوا أبدا.. بل أرسلوا للكيان المحتل ومجلسه العسكري ورؤوس الحكم فيه، المتصارعين فيما بينهم، أسئلة.. تلاها أسئلة، يستفسرون فيها ويستعلمون.. وهي في حقيقتها مجرد مسرحية هزلية مكشوفة، وألعوبة من ألاعيبهم، يتلهى بها محللو الأخبار على الفضائيات وصفحات الصحف، ويتلاعبون بالتالي بألفاظها تقديما وتأخيرا، ويتكهنون بما حملته من إشارات، وما انطوت عليه من قضايا.. وللأسف فإنها في واقعها فجر كاذب، وحبة أسبرين لسرطان.. بينما يستمر الكيان المارق في القتل، وممارسة أبشع المجازر التي ترتفع وتيرتها.. وكأن تلك الأسئلة تمضية للوقت، وفرصة جديدة للكيان لكي ينتهي من القضاء على آخر فلسطيني في غزة، وكل ذلك في ظل صمت مدمر بشع من كل الأنظمة، وحلل يا دويري…!
أسئلة تافهة، تتبعها أسئلة أتفه منها.. فقط لأن أمريكا لا تعرف الصمت.. ولكن، سامحوها فرئيسها على أبواب حملة انتخابية سوف تتم على حساب دماء أهلنا في غزة والضفة الغربية، وقد يعاد انتخابه فمن يدري، مع أن العجوز قد بلغ أرذل العمر، ولكنه ككثير ممن نعرفهم، ما زال يحلم بالكرسي… ولهذا السبب ولغيره، يرسل آخر ما أنتجت مصانعه من الأسلحة التي بلغت شحناتها للكيان الغاصب 230 طائرة شحن ضخمة، بواقع ثلاث طائرات يوميا تقريبا، وثلاثين باخرة كانت محملة بما لذ وطاب من أنواع الصواريخ والقنابل التي تمزق اللحم وتفريه.. فهل هناك من قائل له: أيها الرئيس، قنابلك جد فعالة، وتقوم بدورها على أتم وجه، فكن مطمئا أنت وشركات تصنيع الأسلحة التي تمول حملتك الانتخابية على حساب أرواح أطفالنا وأهلنا في غزة العزة، وحلل يا دويري…!
مشاهد مسرحية
أمريكا تناور عبر مشاهد مسرحية واضحة، وتطلب من الكيان أن يسرع في إنهاء مهمته، ولكن بلغة مواربة تحمل إشارات، وإذن لكي يفعل ما يريد.. متمنية لو قام هذا الكيان الذي يشبهها، بقتل نصف العدد الذي يقتله يوميا، فيكون ذلك بالنسبة للكاوبوي الأمريكي أفضل، لأن هذا العدد الضخم من الضحايا، يسبب له تخمة، وأيضا حتى لا يُلام أمام الرأي العام العالمي، الذي يدير له ظهره أصلا، بل يحتقره كسابقيه من رؤساء أمريكا.. وإياكم أن تظنوا أنه لا يعلم، فهذا قد ينطبق على بعض حكامنا مثلا، وليس على الكاوبوي الذي يرى، ويشاهد، ويسمع، وتصله التقارير عن كل شيء… ولكن كل ذلك بالنسبة له مجرد تفاصيل، وغير ذي أهمية، طالما أن الضحايا من العرب والمسلمين… وفي الحقيقة، كان الرئيس الكاوبوي البارحة منزعجا من أخبار المجازر وبحار الدماء، وربما لأنه كان يعتقد أن أسلحته وصواريخه تقتل بصمت، ومن دون أن تترك آثار دماء، وحدث العكس، وحلل يا دويري…
أما الغرب الصامت، والمتآمر بهدوء عبر مساعدات مادية سخية، وأسلحة متطورة، ومستشارين من كل الأنواع، والذي يطالبه البعض باسم حقوق الإنسان والإنسانية بصحوة ضمير… ويا للعجب…!
كيف تريدون لضميره أن يصحو، وهو ارتكب جرائم أبشع مما يرتكبه هذا الكيان بكثير، عندما كانت دوله تستعمر بلادنا، وبلدانا أخرى، وتاريخها الاستعماري أبشع مما يمارسه هذا الكيان السفاح المارق…! ولهذا كلما حاولوا فتح فمهم بكلمة ولو من باب العتب، ذكرهم نتنياهو بتاريخهم الناصع جدا، وحلل يا دويري…
التعاطف الجارف
في الأسابيع الأولى من «طوفان الأقصى»، عبرت بعض شعوبنا العربية عن تعاطفها الجارف، ونزلت إلى الشوارع، وكذلك من خلال وسائل التواصل الاجتماعي بالرغم من الحظر والمنع الذي عانوا منه على الشبكات العنقودية، والذي ذكرهم بما تمارسه أنظمتنا.. وفجأة أصيبت شوارع العروبة بوباء الصمت القاتل، بعدما أوجد كثير منهم لأنفسهم ألف حجة وعذر للوصول إلى بر الأمان، وإلى عالم الصمت، حتى لا يزعجوا أنظمتهم وحلفاءها من الاستعماريين، وعادوا للنقاشات السفسطائية في المقاهي، وإلى نشر بعض التفاهات على صفحات التواصل الاجتماعي، مع متابعة طفيفة لما يحدث وبالحد الأدنى من التفاعل، فأعصابهم لم تعد تتحمل مناظر الدماء، وحلل يا دويري…
يدوس الكيان الصهيو استعماري الفاشي في حربه هذه على كل المعايير، والمواثيق، والقوانين، والاتفاقيات الدولية الخاصة بالحروب، وحقوق الإنسان، فيقطع عن الأهالي الماء والكهرباء، ويمنع عنهم الدواء والغذاء.. وينتهك معاهدات حماية المؤسسات الصحية والاجتماعية والتعليمية وكرامة المواطنين العزل… فيقصف المستشفيات عامدا متعمدا، ومن ثم يجتاحها، ويحطم أجهزتها، ويقتل المرضى في أسرتهم، وفي الممرات، وينبش قبور الموتى، ويجرف المقابر بجرافاته الضخمة، ويهجر الناس من بيوتهم من منطقة إلى أخرى، ويدمر بيوتهم بل يمحوها من الوجود، في الوقت الذي يمحو فيه عائلات بأسرها من سجلات القيد المدني، ويقتل الأبرياء في مراكز اللجوء التي هي تحت الحماية الدولية، ويدمر المدارس، ولم يبق شيء من الموبقات والمحرمات والفظائع بحق المواطنين إلا وفعله.. وسؤال صغير يراود كل واحد منا، نحن الذين نعض على جراحنا: متى ستتوقف هذه الحرب الظالمة، ويشبع الأمريكان والغرب الاستعماري، وربيبتهم الصهيونية من دماء شعوبنا…!؟ ولكن لا جواب، سوى صمت يلفه صمت.. وحلل يا دويري…!