ليلى باحسين والأجساد الجريحة لأطفال مراكش

ليلى باحسين والأجساد الجريحة لأطفال مراكش

كاركاسون- المعطي قبال

     بعد روايتها الأولى الحائزة على جائزة الكتاب الأوروبي والمتوسطي وجائزة المتوسط للرواية الأولى عام 2019، والتي أدرجت ضمن عشرة قوائم أخرى، دون الحديث عن تنويه الصحافة بتمكن الكاتبة من أساليب وتقنيات الكتابة، صدرت لها دائما عند نفس الناشر ألبان ميشال، عام 2021 رواية ثانية في عنوان “نظرية الباذنجان”.

قبل أسابيع طلعت علينا ليلى باحسين برواية ثالثة في عنوان “ما أعرفه عن السيد جاك” في 212 صفحة. ليلى باحسين كاتبة مخضرمة (فرنسية-مغربية) تعيش بمدينة بوزانسون. تدير جمعية أسستها بالمغرب خصصت لمحو الأمية في الوسط النسائي. في العمل الروائي الأخير اختارت الكاتبة التطرق إلى أحد المواضيع الشائكة والمؤلمة التي يعرفها المغرب، والتي تتمثل في الاستغلال الجنسي للأطفال القاصرين. كما تقف عند الفوارق الطبقية داخل المجتمع المغربي. تؤرخ الرواية لوقائع نهاية التسعينات، لما ترحل الطفلة لولا إلى حي لا يسمح بالاختلاط بين العائلات الموسرة وفقراء الشعب بمراكش. وتشعر الفتاة بانجذاب إزاء هذه الشريحة الشيء الذي يدفعها إلى ربط علاقات والخوض في مغامرات رفقة زاهرة، “صديقتها الشعلة” كما تسميها. “لولا” لا تحب عالم الكبار، لأنهم يقضون معظم الوقت في إعطاء الأوامر. تحب “لولا” أن تختلي إلى نفسها لوضع كؤوس على نهديها الصغيرين ـ تحب أن تراقب وتتابع من النافذة أو من مشربيات البيت حركة الشارع أو الزنقة. بعد نجاحها في قسم الابتدائي تلج “لولا” مدرسة فيكتور هيغو المخصصة لأبناء الأعيان. قبل رحيلها عن مدينة البحر، تذكرت “لولا” محنة الدراسة، بل المعاناة التي مارستها الأستاذة، مدام غيرما، على التلاميذ ذكورا وإناثا. وذاقت بدورها مرارة هذا التعذيب السادي بتقليق الأستاذة لذقنها، الشيء الذي جعلها تختبىء في الصمت. تمثل ثانوية فيكتور هيغو التابعة للبعثة الفرنسية إذا طورا جديدا في حياة لولا، لأن ذلك يعني بالنسبة لها ولوج عالم النخبة والتميز فيما أحاطت عائلتها هذا الانتقال بشكوك عنيدة. وقد تمثل تميزها بالصمت، بالكتابة ومعاشرة الكتب التي جعلت منها معبدا ومن وحيها درس بليغ مفاده أننا دوما أسرى أجسادنا. وصلت بعدها إلى نتيجة أن الأطفال يخضعون لسيطرة بل استعمار الكبار لأن أجسادهم ليست ملكا لهم. تربوا على عدم مقاومة هيمنة الكبار. لذا تبقى أجساد الأطفال أجسادا سهلة، خانعة ومن دون أية مقاومة. لذا فإن فعل التربية في هذه الأماكن معناه تعنيفها وأن فعل التربية هو عمل مميت وقاتل. من هنا تعلمت بأن لا تسكت أو تصمت على تعنيف الأطفال والاعتداء عليهم.

العنف لا يقتل بل يمزق ويقطع. الكل بالحي يعرف مسيو جاك، ويعرف ممارساته الدنيئة، ولا أحد يجرؤ أو يرغب في التنديد بها وفضحها. وكأن انتماءه الفرنسي يقيه من التهديد والمتابعة. وهذا حال العديد من الفرنسيين والأجانب على نحو عام الذين يتصرفون من دون أية ملاحقة وكأنهم غير معنيين بالقانون. مسيو جاك لا يكلم أحدا. اختار حراسا شخصيين مثل سامبا وإيدير البقال لحمايته. على أي “يبقى شبحا بلا صوت وسرا نحميه جميعنا”.

في أحد المناسبات الوطنية وخلال حفل موسيقي، تجتاح “لولا” مشاعر الحب تجاه زاهرة، التي ترى فيها الصديقة العاشقة. بتقدمها في السن تشرع “لولا” في مخالطة بعض الفرنسيين. تشجعها عائلتها على إقامة علاقة غرامية مع فرنسي لكي يأخذها معه إلى فرنسا ويخلصها من وضعها الحالي. لا يجرؤ والدها على توبيخها، فيما تبذل والدتها قصارى جهدها لتهيئة أكل جيد للفرنسي الذي زارها في بيت عائلتها.

غير أن هذه العلاقة المغشوشة تنتهي برفض “لولا” الالتحاق به. فيما بعد أصبح فيرجيل، ضابط في مدرسة الملاحة الجوية، عاشق “لولا”، بفضل سخائه، ذكائه شعرت “لولا” بنوع من الحماية. لأنها تبقى دوما، كطفلة، في حاجة إلى الحماية. “ولدت وستبقين وتموتين طفلة…”.

ثم رحلت إلى فرنسا لمدة أزيد من عقدين قبل أن تعود وهي حامل. عادت إلى مسقط الرأس وأماكن الطفولة. لم يتغير الحي الذي كانت تقطنه. لكن امتلأ المكان بالحمامات وأماكن الترفيه. وعلمت عن خبر وفاة مسيو جاك.

تلخص الكاتبة حياة “لولا” بهذه العبارات: ” من العاشرة إلى الرابعة عشرة من سني، عاشرت رجلا كان يحب مراس الجنس مع الأطفال. كان بعضهم في سني. هؤلاء الأطفال الذين سرق منهم سنهم، كانوا ينحدرون من الأحياء الشعبية، ويشكل هذا العامل خلفية كافية ليغض الجميع الطرف على هذا الواقع”.

عودة “لولا” إلى مراكش، وإلى مكان الجريمة، هو سعي إلى القيام بعملية تطهير، مع توفير ظروف مختلفة لأطفالها.

Visited 4 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

المعطي قبّال

كاتب ومترجم مغربي - رئيس تحرير مساعد لموقع "السؤال الآن".