أمهات وأصفاد
أحمد حبشي
حظيت قضايا مجموعات المعتقلين السياسيين باهتمام بالغ، في مرحلة ما عرف بسنوات الجمر والرصاص، سواء على مستوى الإعلام، في التعريف بحركاتهم النضالية لتحسين أوضاعهم داخل السجون، أو على مستوى الترافع عن حقهم في التعبير الحر وعرض آرائهم من خلال ممارسة الفعل السياسي وبسط وجهات نظرهم المختلفة في قضايا التنمية وتدبير الشأن العام، في المحافل الدولية من خلال المنظمات الحقوقية والمؤسسات ذات الاهتمام.
كل أشكال الدعم المختلفة والمؤازرة المتعددة التي حظيت بها المجموعات السياسية، ساهمت في تقوية قدرتهم على تحمل ومواجهة مختلف أشكال الحيف والجور، كما ساعدت على تحقيق العديد من المكتسبات على شكل الزيارة والحق في مواصلة التعلم واجتياز الامتحانات الثانوية والجامعية على مختلف المستويات، كما مكنتهم من تحسين موقعهم السياسي وبلورة ثيارهم الفكري بما ساهم في تدعيم قدراتهم التنظيمية وتوسيع دائرة انعتاقهم.
ولأن كان إشعاع فعلهم النضالي أكسبهم كل الحضور المتميز على الساحة الوطنية والدولية، فإن تطور خطهم النضالي في مختلف مراحله كان مدعوما، بحركة موازية قوية الدوافع شديدة العزم على توسيع دوائر الدعم وطنيا وعالميا. هكذا شكلت مجموعة أمهات المعتقلين حركة قوية موازية، لها دوافعها المتعددة لتحقيق غاية واحدة هي تخليص أبنائهم من شرنقة الاعتقال ومحنة الإعداد لزيارات أمكنة تثير في النفس الاشمئزاز.
محنة أسر وعائلات المعتقلين صفحة أخرى، من بين مسارات متعددة في سياق البحث الدائم والمؤازرة المطلقة للأبناء. أمهات نسين أن لهن أبناء آخرين وأسر تستحق من هن الرعاية والاهتمام، فالعزيز مفقود ومحروم من كل ما تستقيم معه الحياة، من بينهم أمهات كان لهم أكثر من ابن من بين من شملهم الاعتقال.
هي حكايات متعددة ومحن وسمت أسرا وعائلات. تاريخ آخر مواز لما عرفه المعتقلون من مطاردات وانتهاكات لحرمة البيوت والمس بكرامة الأهل والمحيط الخاص. اعتقالات بالجملة بغاية الترهيب والإذلال، الحجز بالجملة في أماكن مجهولة يستباح فيها كل أشكال التعذيب والازدراء إلى حد القتل.
في مؤلفه الأخير “أمهات وأصفاد” يسلط محمد فكري الضوء على مسار ثلة من الأمهات اللواتي رابضن بأبواب السجون، ينتظرن لحظة عناق فلذات أكبادهن والتخلص من أرق الانتظار المثقل بأشجان الرهبة في مواجهة مصير مجهول. أسمى خطوات المؤازرة والدعم النفسي والمعنوي لشباب متوثب سخر كل طاقاته للدفاع عن الحق في الحرية والعيش الكريم. في التفاصيل نقف من خلال بطاقات تعريفية، على حقيقة هؤلاء المناضلات بالقوة، اللواتي وجدنا أنفسهن وجها لوجه أمام تعقيدات متعددة في ارتباط مع أوضاعهن كربات بيوت، لم يسبق للبعض من هن أن غادرن بيوتهن إلا للضرورة القسوى وباستئذان أزواجهن. فكان أن تمردن على المحيط وواجهن كل أشكال السلطة في إصرار لانعتاق أبنائهن واستعادة حريتهم. وقد أدى التحدي الذي انخرطن فيه بالبعض منهن إلى المبيت في الزنازين عقابا لهن على التمادي في الاحتجاج وتعدد أشكاله، خصوصا الاعتصام الذي قمن به بمسجد السنة بالرباط، والذي ساهم بشكل كبير في لفت انتباه المواطنات والمواطنين، ومكنهم من الوقوف على ما يتعرض له سجناء الرأي وما تعانيه الأمهات من مضايقات واستفزاز.
لم يشمل المؤلف سيرة كل الأمهات، وذلك لغياب المعطيات الكافية حول بعضهن، أو استعصاء التواصل مع بعض الرفاق أو أحد أفراد العائلة. ومع ذلك تبقى المبادرة جديرة بالتنويه، لما سمحت به من وقوف إجلال لنساء تميزن أكثر من غيرهن في التعبير البالغ عن مؤازرة أبنائهن والاستعداد لكل أنواع التضحية، من أجل نيل حريتهم واستعادة مكانتهم الاجتماعية بكل فخر واعتزاز. إلى جانب الأمهات كانت الزوجات والأخوات، كل من موقعها سخرت كل طاقاتها في تدعيم خطوات الأمهات. فتحية إجلال وتقدير بالغ للأستاذ فكري على هذه الإشارة، التي نتمنى أن تتلوها مبادرات للكشف عن معاناة محيط وعائلات المعتقلين السياسيين في زمن الجمر والرصاص.