صحافة السخرية السياسية في سنوات الجمر والرصاص
بوشعيب الضبار
“الرموز” مجلة الكاريكاتير المنسية نموذجا
لم يكن من السهل أبدا أن تشق الصحافة السياسية الساخرة في المغرب طريقها نحو المتلقي خلال سنوات الجمر والرصاص.
المغامرة صعبة، ومحفوفة بالأشواك، والخطوط الحمراء، والمتابعات والمصادرات، لاعتماد هذا اللون من الصحافة على الكاريكاتير، كركن أساسي في نهجها التحريري، وهو فن مشاكس لا تنظر إليه السلطات بعين الرضا.
وإذا كان أول عدد من “أخبار الدنيا” لمديرها مصطفى العلوي، قد صدر بمدينة الرباط، يوم 14 أكتوبر سنة 1961، كصحيفة تحتفي بالرسم الصحفي السياسي، فإن “الرموز” التي كانت تطبع في الدار البيضاء، في حجم “تابلويد”، وفي إخراج بسيط جدا، صنفت نفسها ك”أول مجلة للكاريكاتير في المغرب”، وفق ما هو مكتوب في خانتها الخاصة بالمعلومات الإدارية والقانونية.
إدارة المجلة كان يتولاها أحمد تنان، وفي الطاقم الإداري أيضا الحسين الخطابي، وكانت هيئة تحريرها تتشكل من أحمد العلوي، والسروت الصغير.
هي مجلة منسية، لا مصادر تتحدث عن تاريخ صدورها، ولا أبحاث تفتش في صفحاتها القديمة، رغم ما كان لها من صيت في الصحافة، لاختيارها الرسم الساخر، كأسلوب في مواكبة الأحداث.
ولعلها المطبوعة المنوعة الوحيدة التي لم تنل حقها من الاهتمام عند الدارسين.
وحتى المكتبة الوطنية في الرباط، المفروض فيها أنها ذاكرة توثيقية لأرشيف الصحف المغربية، لا تحتفظ رفوفها سوى بنسخة واحدة فقط من “الرموز”، هي للعدد 18 الصادر بتاريخ 31 مارس عام 1966، في سنتها الثالثة، بما يعني أن ميلادها تم في سنة 1964، أي بعد “أخبار الدنيا”.
من خلال استقراء هذا العدد من “الرموز”، يتجلى أن المادة التحريرية المكتوبة هي الطاغية، على حساب المساحة الكاريكاتيرية. ولا غرو في ذلك، فإن الفنان محمد البلوري هو رسام المجلة الوحيد، الذي يغطي بياض بعض صفحاتها بخطوطه المتواضعة، وأفكاره ذات الصيغة الشعبية في التعبير الفني.
والبلوري في الأصل عامل مطبعي، وهاو للرسم الساخر، اشتغل فترة من الوقت في مطبعة”امبريجيما” بالدار البيضاء، وهي معلومة مدني بها محمد رشدي، الملقب ب”إبراهيم”، مدير مطابع “ميثاق المغرب” سابقا بالرباط.
من الأركان الثابتة في الصحيفة “شخصيات من بلادي”، للتعريف ببعض رموز الوطن، وفي هذا العدد، تسليط للضوء على محمد بلحسن الوزاني، زعيم حزب الشورى والاستقلال، من خلال مواكبة لمساره السياسي، بينما نال علال الفاسي، مؤسس حزب الاستقلال، نصيبا وافرا من التقييم السياسي الحاد.
كأي مطبوعة مثقلة بالحمولة السياسية الساخرة، تعرضت “الرموز” للمضايقات، لكبح جماح خطها التحريري والفني المزعج للسلطات، وهو ما جأرت بالشكوى منه، بعد الأمر بإلقاء القبض على مديرها أحمد تنان، حسب ما هو منشور على أحد أعمدتها، تحت عنوان”قصة مثيرة”.
وفي عددها المشار إليه أعلاه، كشفت المجلة أن سيارة من نوع “2 شوفو” كانت تبحث عن مديرها أحمد تنان، في تلميح إلى تعقبه من طرف المصالح السرية الأمنية.
الكاتب المسكيني الصغير، الذي فقدت مكتبته الشخصية المجموعة الكاملة لأعداد “الرموز”، بسبب الإعارة، أفادني أن أحمد تنان، صاحب خبرة في الطباعة، اكتسبها بالدراسة في يوغوسلافيا سابقا، قبل أن يدير مطبعة في ملكية العائلة بمدينة الدار البيضاء، وهي من المطابع التي كانت تطبع المنشورات السرية أثناء فترة الاستعمار، وهي التي تولت أيضا طبع “الرموز”، وهو سليل عائلة مناضلة، ولطالما تعرض للاعتقال السياسي، وانتقل فيما بعد إلى الرباط.
و”الرموز” لم تتكرس كلها للتفكه فقط، فقد كانت أعمدتها تتناول شتى القضايا بنبرة جادة، ورؤية تحليلية للأوضاع، تكتسي نوعا من الجرأة في التعليق وإبداء الرأي.
ويبقى السؤال قائما: لماذا نسيان أو تجاهل مجلة “الرموز”؟.
تستمد علامة الاستفهام شرعيتها من كون أغلب الكتب الصادرة حول تاريخ الصحافة المغربية، حسب علمي المتواضع، تخلو من التطرق إلى هذه المجلة، التي لا يستقيم النبش في تاريخ نشأة الكاريكاتير في المغرب دون التوقف عندها.
إن “الرموز” تستحق الإنصاف، تاريخيا وتوثيقيا، باستحضار تجربتها التي شكلت إرهاصا ساخرا إلى جانب بعض الإصدارات الأخرى في تلك الفترة الملتهبة من الستينيات والسبعينيات، وما سادها من رقابة شرسة كانت سيفا مسلطا على حرية الرأي والفكر والتعبير في الصحافة.