مصالحة الذات وحماية الذاكرة النسوية في “جداتنا ثراء الذاكرة”
لحسن أوزين
تواصل الكاتبة والناشطة النسوية إشراقة مصطفى، رفقة مجموعة من النسويات، الاشتغال على الذات النسوية، المغيبة والمقصية من المدونة التاريخية، التي احتكرتها الثقافة الاجتماعية الذكورية. إننا أمام كتابة تحاول امتلاك حقها في التأريخ لذاتها، وإبداع نفسها. وإثبات فاعلية الذات النسوية عبر التاريخ الثقافي الاجتماعي البطريركي بنزعته الذكورية، الذي حال دون تكون وتطور وبروز المعرفة النسائية القادرة على التأسيس لوجودها الحر الفاعل والمستقل. إنها كتابة إبداعية مفعمة بالدلالات الاجتماعية والثقافية والسياسية، وحاملة لمادة تاريخية أنثربولوجية، قلما نجدها في المصار التاريخية، والتراثية.
يجد القارئ نفسه أمام نصوص ساحرة في لغتها المشبعة بالدلالات المعنوية الفنية والفكرية. تحكي تجاربها، وتعبر بكل وضوح صادق عن ارتباطاتها العميقة، وعن الأساسات العاطفية الوجدانية، والعقلية الاجتماعية، التي تربطها بجذور نواتها النسوية القابعة في تجارب الجدات. بوصفها مدونة تاريخية مهمشة و مقموعة، كجزء من التاريخ المدفون، المنسي في سراديب المركزية الذكورية. لذلك تحكي نصوص هذا الكتاب، بشغف أنيق أخاذ عن مشاعرها، معاناتها، آلامها، وقساوة الحياة الذكورية، المصاغة برؤى ثقافية اجتماعية دينية أبوية في تسلطها وعنفها القهري التمييزي في حق النساء. كما تروي عن قوتها وقدرتها على الصمود والتفاعل بصورة إيجابية مع الاكراهات والتحديات والمظالم التي فرضها النظام الأبوي، دون أن يعني ذلك القبول والاستسلام لعدوانية شكل العلاقات الاجتماعية الاستغلالية والعبودية تجاه النساء.
جمالية اللغة الفنية وعمق الرؤى الفكرية، وسحر آليات الصياغة، وصدق الكلام المتدفق من جوف الينابيع الصخرية الصلدة للمجتمع الأبوي، تضع الشكل التاريخي الثقافي الاجتماعي، للرؤى والتصورات والمعتقدات الذكورية على مشرحة التفكيك النقدي للمسلمات والبديهيات والافتراضات التسلطية التي تطاولت مع الزمن، حتى اكتسبت قناع الطبيعي، الخارج عن منطق مبدأ التناقض المجتمعي المؤسس للتاريخ البشري. هكذا يتم تسليط الضوء على أهمية وضرورة الكتابة عن تاريخ النساء بوعي ورؤى نسوية تعيد الاعتبار للتاريخ البشري المبتور من حضور قوة ومعرفة وجمال الفعل النسائي في الوجود الإنساني. كتابة تحاول إنتاج معرفة تمكن النساء من الحضور والوجود الاجتماعي الثقافي، بعيدا عن سيطرة وهيمنة أحادية البنية الفكرية للذهنية الذكورية، الممسوسة بالقهر و التسلط . وهذا يعني تمكين النساء من عدالة العلاقة بالمعرفة والقوة والسلطة…
وبالتالي إنتاج معرفة نسوية، لها عمق إبداعي فلسفي إبستيمي تاريخي اجتماعي ثقافي، تكشف زيف معقولية ومنطقية وشرعية سطوة السيطرة الأبوية الذكورية على مستوى العلاقات الاجتماعية والثقافية والدينية، وأيضا على مستوى الرؤى والأفكار والدلالات، والمقاربات وعقلانية التحليل المنطقي العنصري، المتحيز، والمغيب للوجه الآخر للوجود الإنساني، المتمثل في النساء.
تعود الكاتبات الى نسغ جذور التاريخ النسائي، حيث أمكن لتجربة الجدات أن تورق من جديد، في شكل نصوص إنجازية تخترع فيها النسوية ذاتها، وتكتب تاريخها. وهي تحرره من أسر الأحادية القهرية للنظام الأبوي، فاتحة أفقا أوسع وأرحب للوجود الإنساني. كتابة تحتفي بتاريخ نسوي مغمور، ملغى ومنسي. وغالبا محرم لغة، كتابة، تأريخا …
نصوص تحمل في طياتها دعوة صريحة للتقدير والاعتراف بالجزء المبتور من الذات الإنسانية، التي خنقتها وحاصرتها قرون من غلبة القهر الأبوي المتمركز حول نفسه بآليات سياسية اجتماعية ثقافية ودينية ذكورية. كما أنها كتابة تعري من منظور جندري القهر المستتر والمتفشي. وتعيد تشكيل التصورات والافتراضات الثقافية الاجتماعية. بالإضافة الى العمل على تشكيل الذاكرة الاجتماعية، وتقويض ميتافيزيقا الذكورة في الاعتقاد بتميزها بالقوة، المهارة، البطولة، العقل والذكاء، والريادة والخلق والإبداع…
والهدف واضح تغيير نظرة المجتمع، في الرؤى والأفكار والتصورات والمعارف والدلالات والعلاقات… وفي الرؤية الى الذات والآخر والعالم.
والأجمل في كتاب الجدات، هو سعيها الجمالي والفكري نحو نقض الفكر الذكوري، ليس فقط بالاشتباك بالنزعات الذكورية التي سيجت وأطرت العقول والقلوب، القيم والممارسات، بل في إنتاج لغة فنية جمالية، أفكار ثقافية اجتماعية، أدوات، معرفة، رؤى، مفاهيم… لا تكتفي بأن تكون ضدية، بقدر ما تهدف الى أن تكون نقيضة.
أولا/ كتابة نسوية في نقض مركزية الذكورة
“لا بد أننا نكرر حيوات من سبقونا، ونرسم دائرة كبيرة نلف في فلكها، فنمعن اليقين في كل ما حدث وقبل أن نشرع الباب للخروج من تلك الدائرة، نكون مسلحين جيدًا بما يعيننا على أن نحكم وبثقة ووعي ويقين على مايجب أن نقوم به فيدرأ عنا كل ما من شأنه أن يثقل كاهلنا بأعباء تقاليد عمياء نالت منا حتى صميم العقل، ونعترف لأنفسنا أنّه آن أوان أن نثور ونعلن عن الخط الذي سنسلكه إنْ ضاقت بنا الآفاق وحاولت ردم تطلعاتنا في هوة أعراف وتقاليد، خاطت لنا أثوابًا ليست على مقاس أحلامنا ولا على مقاس إنسانيتنا”. 84
يأتي كتاب “الجدات ثراء الذاكرة” في سياق سيرورة كتابات شرعت في إنجازها مجموعة من النسويات تحت شعار “ليس سوانا يكتب سيرتنا”. هدفها ليس خلق مركزية نقيضة للذكورة، بقدر ما تسعى الى تخطي وتجاوز، الأنظمة الرمزية و الأنساق الثقافية الاجتماعية للمجتمع الذكوري. هذا يعني نقض أسس ومنطق وآليات الحدية والقطعية والأحادية القهرية، والاختزالية الضحلة، والوثوقية المتعصبة العمياء في علاقة الانسان بالإنسان، وعلاقته بالطبيعة، بما في ذلك علاقته بكل الأشياء و الكائنات، والكون بصفة عامة.
لهذا يمكنني القول إن عمق هذا الكتاب “الجدات” الجمالي والفكري، يتجلى في انفتاحه على أبعاد ثرية من التضامنات النسوية العاطفية والعقلية والاجتماعية والثقافية…، حيث يتم تبادل تمرير قيمة الحب كأساس وجودي للإنسان في قدرته على التكيف والبقاء، والإنجاز والأمل والتصدي، بمرونة عالية لكل الصعاب والتحديات، والظروف الجندرية القاهرة التي تفرضها سيطرة الثقافة الذكورية. فهي ثقافة لا تعترف بالإنسان حين تريد فصل الأم عن أطفالها لكونها أرملة، فتقدم دون رضاها زوجة لرجل آخر. هكذا تحكي الحفيدة بمرارة مؤلمة. وفي الوقت بافتخار واعتزاز عن جدتها التي خاضت معركة البقاء وحق تقرير مصيريها في وجه هذا الاسترقاق الاجتماعي الثقافي الديني باسم الشرف ومكارم الأخلاق اللاإنسانية.
“كانت جدتي صلدة جدًّا، فركلتْ كلّ ذاك المهترئ من القوانين التي لم ينزل بها الله من سلطان، رافضة أنْ تكون الحمل الوديع الذي يُقاد إلى المقصلة ليكون أضحية عيد توزّع أشلاؤه على عباد فوق الأرض أجسادهم، تحت الأرض إنسانيتهم التي لم تنصف أرواحًا تشابههم…شبح خالي يتراءى ليس ببعيد، حاملًا بندقيته يتوعّدها بالقتل إنْ لم ترضَ بالعريس الجديد وتترك أطفالها اليتامى خلفها. لمن تتركهم؟ للجوع؟ للخوف؟ للضياع؟ لمجتمع يذرو الأكباد هكذا خبط عشواء؟ لأخوال لا يعترفون بهم كونهم أبناء رجل بات اليوم غريبًا بعدما واراه التراب؟ ليرسلوا الأمّ إلى بيتها الجديد، مثواها المنتحب بلباسها القديم وجعبة مليئة بالفقد والثكل”. 75
هذه هي قيم وثقافة المجتمع الذكوري الذي كانت الجدة تصارعه بقيم الحب والارتباط العاطفي الاجتماعي الإنساني. فك الارتباط بين الأم وأطفالها لا تفعل إلا عقلية الحروب و الخراب والقتل لقيمة الإنسان. في هذا النقض للأخلاق والشرف الرفيع الذكوري، تتسلح الجدة بالحب، فالحب طاقة ومنبع لا ينضب معينه، ولا تضعف فعالية بلسمه الدوائي في علاج جراحات القلب والذاكرة، وفي شفاء عذابات النفس من المذلة والمهانة والقهر، أومن جحيم التخلي والنسيان، وأيضا في إحياء الذات المقموعة المهدورة. “نحن بالحب وحده نشفى.”49
هكذا هي عملية تفاعل القراءة مع هذا الكتاب، فمن صفحة لأخرى، ومن نص لآخر تكتشف الذات الإنسانية – الكاتبات – قُدراتها القيمية والثقافية الإنسانية، في تأسيس لغة ساحرة متولدة من حرائق وآلام مرعبة ورهيبة في سلخ القيمة الإنسانية عن الجدات، واغتصاب الذات في وجودها وحضورها، في حريتها واختياراتها وكرامتها. كما يكتشف القارئ /القارئة الخسارات البشعة التي عاشها ويعيشها في ظل نزعات مركزية الذكورة، التي هدمت نواته العميقة المشكلة لقيمته وحُرمته وحصانته الإنسانية. وحولته الى وحش غارق في وحل الغلبة والتسلط والقهر والسيطرة، الى حد استباحة القتل والعنف الدموي العاري من مبدأ، القانون والضحية.
جمالية هذه النصوص الشائقة في قدرتها التعبيرية الأدبية، على تمثيل بشاعة التوحش في قهر النساء. وتحويل هذه الفظاعة، بتوسط عاطفي اجتماعي، الى علاقة حب بين الجدات والحفيدات، الى شكل نقيض للعلاقة الاجتماعية السائدة. حيث تؤسس نقيضها على الصداقة والحب والتعاطف والتضامن والتآزر، والقدرة على الفاعلية، والسخاء والعطاء، والاحترام والتقدير، والاحساس بأفراح وآلام الآخر، كتجربة ذاتية في النمو والنماء والاثراء للذات والأخر. وعلى الصراع من أجل الحياة، دون التراجع أمام آلة ثقافة الموت الرهيبة.
تعلمت من جدتي كيف أحمل أطفالي على ظهري، وأغادر الوطن، مجتازة حدودًا شهدت الكثير من الدم مُراقًا على مرأى القيامة، وأنا أجتاز الطريق إلى منفاي. علمتني جدتي كيف أعضّ على شفاه الوجع، لأتمكن من إنقاذ نفسي من الدرك الأسفل في حياة لا ترحم وعيون تترصدنا، تترصد إنسانيتنا المهدورة دون وجه حق، حينما يقول الظالم كلمته ويدوس بأقدامه الموغلة في الإثم على أحلامنا، أمانينا الجعاد،
وأصابع اليقين الوعرة، كموت يشتاق الحياة، رفعناها تشهدًا واختيارًا للحرية”. 84
لا أستطيع أن أخفي على القارئ الثراء النفسي والثقافي الذي تنتجه تجربة القراءة، في سيرورتها. فمن نص لآخر يشعر بفرح كبير على تعرف الكثير من المناطق المعتمة، والمجهولة في ذاته، التي بخستها سطوة الذكورة، كعبء حاقد كاره نازع لما هو إنساني فينا. وحرمتنا من التفاعل الخلاق في علاقتنا بالنساء وبأنفسنا والعالم، ومحيطنا الإيكولوجي.
إن معرفة جديدة نقيضة تتشكل فنيا بين طيات السطور، وهي تتبلور في عمق تجربة الحب الذي ولدته الجدات، بالمعنى الاجتماعي الثقافي، في شكل العلاقة الاجتماعية النفسية المشبعة بدلالات الحب و المؤازرة والدعم العاطفي الاجتماعي، في الاعتراف بالطفولة، في حاجاتها واهتماماتها ورغباتها. وفي تعزيز صحتها النفسية والعقلية والاجتماعية والمعرفية. وذلك بما يجعلها قادرة على البناء الشخصي والتكوين الذهني.
“كنت أسمع دعاء الناس لها فأشعر بمحبتهم لها، كنت فخورة جدًّا عند سماعي لرمز قوتي نانا، فهي الجميل الذي بقي معي على مر الزمن، لأنها أغلب الأوقات تضع يدها على أذني وتشدّ وهي تضغط بقوة، وتقول متل الحلق بأذنك، ولا تنسي يا حبيبتي، لا تنسي يا روحي، وتذكري كلامي.
كثيرًا من الدروس أعطتني، لقد كانت تعلم بأنها دروس نظرية بالنسبة لي، ولأنها تخاف عليّ من سحابات هذه الحياة، هنا دخلت الدروس المدنية، لأتذكر دائمًا دروسها ونصائحها التي ترافقني دائمًا. الحب والأمان والدعم يخلق لدى الطفل شخصية قوية تستطيع أن تعتمد على نفسها وبكل قوة”. 111
ارتباطات شديدة التعقيد والتركيب في نفسية الحفيدات وهن يكتبن عن الجدات، بلغة مسكونة بآلاف الصور والأحلام في تحقيق التغيير، والمشاعر النبيلة والتقدير العظيم بضرورة وأهمية ولادة الجدات من جديد. كوجه مشرق غيبته طائفية وعنصرية وكراهية وعدوانية الذكورة في معناها الثقافي الاجتماعي الجندري الخبيث في حق الرجال، والنساء بشكل مضاعف عشرات المرات.
” فكانت معاناة جداتنا حافزًا لنا لنثور، لأنهن خلسة تحدثن لنا عن فداحة الأمر، ودربننا أن ننتصر لهن، لأنهن آمنَّ بأن الزمن سيغير شيئًا ما، وأنّ الأحفاد سينهلون دروسًا مستفادة من أوجاعهن وأحلامهن المجهضة على مرأى العالم الصامت، فلم يبخلن علينا بالإفصاح بأنّ هذا الذي يواجهنه لغط كبير، وأضعف الإيمان أن يذكرن لنا ذلك ولو خلسة، فربما مجتمع الغد يكون الأرحم”. 88
ثانيا/ كتابة من منظور جندري تعري القهر المستتر والمتفشي
“كانت جدتي لا تزال طفلة تلعب مع صويحباتها عندما أمسكها والدها من يديها وزفها عروسًا، تحمل في يدها دميتها، إلى رجل كان فيما مضى زوج أختها وتقول له عمي، كونها كانت صغيرة جدًّا لا تعلم عنه غير اسمه، وأنّه كان بالكاد يزورهم. كان جدي رجلًا صلبًا وقاسيًا ويكبرها بسنين كثيرة، لم تعرف جدتي الهناء في حياتها، كانت تهرب منه كلما كان يريد أن يظفر بها، لذلك كثيرًا ما كانت تنال من يديه ضربًا مبرحًا. كانت أمي وخالاتي شاهدات على ذاك التعنيف وعرفن مبكرًا ما الذي يجري بين الأزواج لذلك كنّ أيضًا يتظاهرن بالجسارة كونهن تعلمن ما كنّ يرينه، فتعلّمن أن الذكر ليس كالأنثى، وأنه من الطبيعي أن يضرب الرجل زوجته، وأنه لا يحق لهن رفع أصواتهن أمام إخوانهم الشباب، وأنهن خلقن ليعملن في الحقل ويجمعن القش ويبنين بسواعدهن البيوت، وتنورًا للخبز، وأعمالًا شاقة أخرى، حتى إن جدي كان يشجعهن من وقت لآخر ليربي فيهن هذه الشيم، ولتزداد ثقتهن بأنفسهن وأجسادهن حين العمل”. 86
وفق هذه السيرورة الجندرية الاجتماعية الثقافية كانت البنت منذ ولادتها تتعلم كيف تصير امرأة، كما تقول سيمون دوبوفوار. وتخضع في تنشئتها الاجتماعية الثقافية للقوانين الاجتماعية الذكورية في اللغة والثقافة والدين والأدوار والوظائف، وتقسيم العمل، والمكانة والأهمية…، كل هذا كان يتلبس قناع الطبيعي الذي لا مفر من الالتزام بقواعده التمييزية الظالمة والقهرية.
جميع الجدات تعرضن للزواج المبكر، حيث يُشرعن ثقافيا واجتماعيا ودينيا النظام الأبوي اغتصاب الطفولة. ففي هذه الثقافة الاجتماعية بلغتها وأنظمتها المعرفية والرمزية والدينية، وعاداتها وتقاليدها واعتقاداتها وتصوراتها، لا وجود لحرمة وقيمة وحصانة الطفولة. فالولد مدعو من صغره أن يكون رجلا، خشنا، شهما، شرسا في نمط حياته وفكره ورؤيته لنفسه والأخر، خاصة في علاقته بالمرأة. والبنت مطالبة بالسمع والطاعة والقبول بتنفيذ كل ما يملى عليها من طرف الذكور في الأسرة والعائلة والقبيلة، ومن الجماعة والمجتمع. لذلك لا وجود في هذه المجتمعات التي تمثلها الكاتبات، لشيء اسمه مرحلة الطفولة ككائن إنساني مستقل، وكذات إنسانية تستحق قيميا وقانونيا، التقدير والاحترام والاعتراف بها كذات إنسانية كاملة الحقوق. وتزداد البشاعة سوء عندما يتعلق الأمر بالمرأة صغيرة كانت أو كبيرة. فهي لا تملك نفسها ولا جسدها ولا التحكم في اختيار وتقرير مصيرها، إلا من خلال مقاومتها لكل فظاعات المجتمع الذكوري في تصوراته وأفكاره وافتراضاته القهرية السلطوية في تحديد موقع ومكانة المرأة الدونية، الأقرب الى العبودية.
“أمي التي تزوجت كباقي جيلها في عمر مبكر جدًّا وهي في بداية مراهقتها وقبل أن تشبع من طفولتها، وإذ بها تعارك الحياة لتنجب طفلًا، يومها كاد جدي أن يموت من الخوف وجدتي غضبت عليه، كيف لطفلة أن تنجب طفلًا…أمي كانت مشغولة بولادة طفل كل عام”. 43
هكذا كانت صورة الجدات في هذه النصوص المترعة بعذابات اغتصاب طفولتهن، والزج بهن في دهاليز الأمومة والمسؤوليات، المثقلة بالأدوار والوظائف المرهقة والمؤلمة، في التربية والعمل المنزلي، وفي الحقول، على حساب حياتهن، النفسية والجسدية والاجتماعية، في الاعتراف بعملهن ومساهمتهن عبر هذه الأدوار، في الاقتصاد والمجتمع والثقافة والتاريخ، وفي التقدير لحقهن في الحرية والعدالة والاستقلالية، وحياة العيش الكريم.
مع كم هائل من الضغط والألم الذي تخلفه التصورات التمييزية العنصرية في حقهن، الى درجة يحولهن النظام الأبوي الى جلاد نفسي ووجودي ضد أنفسهن، وهن يكرهن ولادة أنثى مثلهن، وفق سيرورة سياسية ثقافية اجتماعية، لا يدرك خطورتها الرهيبة الأغبياء في قولهم السطحي، إن أكبر عدو للمرأة هي المرأة. فالضغط الذكوري يتشربنه مع حليب الطفولة، كقيم ثقافية اجتماعية. وهذا ما أدى إلى سلخ قيمتهن الإنسانية، وجعلهن مجرد أدوات للمحافظة على عملية معاودة الإنتاج المادية والاجتماعية والثقافية. وفي تكريس التقدير السلبي لهن على مستويات القيمة و المكانة والكرامة والعفة والشرف…
“كانت جدتي حريصة على ختان المرأة، وكلنا ختنّا تحت قبضتها، هذه ذكرى لم ولن تمحى من ذاكرتي ونحن نجرّ إلى مقصلة الشرف والعفة! وإلى المعاناة لفترة لا أتذكر طولها. هل العفة تكون ببتر جزء منك؟”. 45
إنهن في نظر النظام البطريركي الذكوري، مجرد آليات لإعادة إنتاج علاقات القوة، المعرفة، والسلطة الأبوية التي تمارس قهر وهدر الأطفال والنساء…
“أنا أكبر أخواتي ويكبرني ولد، أتذكر حين كانت تضع أمي حملها أي تنجب طفلها في البيت، حيث لم تكن مستشفيات وحيث اعتادوا، كنت أسمع كل ما يقال هل أنجبت بنتًا الآن أيضًا؟ (ازيماولت) يااارب اجعلها من المستورات. أتساءل بماذا يفرق هذا عن الوأد ودفنها حية؟ لا أتكلم عن الستر فهو مطلوب. حفرت فيّ هذه الكلمة مما شوهت نظرتي لنفسي. لماذا ردة الفعل هذه من جدتي… ؟”. 42
وهذه التشوهات الثقافية الاجتماعية فيها الكثير من السموم التي تجعل المرأة حاقدة على نفسها، قابلة بمكانتها الاجتماعية الدونية المقرفة، كأنها قوانين طبيعية، كشر لابد من، يجب القبول به، بوضفها أنثى، وليس نتيجة تشكل ثقافي اجتماعي صيرها امرأة، وحدد أدوارها ومجالها الخاص المسيج بالكثير من القواعد والأسوار المرئية واللامرئية تحرمها نفس وجسدها وحريتها…
“أتعبتني ذاتي التي أحملها لأكثر من عقدين ونصف، ونظرتي المشوهة لنفسي وذلك الجزء الذي كانت تعيّرني به جدتي. في عالم يجب أن تكون فيه واثقًا، كنت أحني رأسي عندما تلتقي عيني بالآخرين لكيلا يلاحظوا تشوّهي الداخلي أكثر ما هو خارجي”. 47
وكم دفعت الجدات ثمنا غاليا حين تزوجن وهن طفلات صغيرات في السن، مجبرات على ولادة الذكور. استجابة لمنطق وعقلية وثقافة المجتمع الذكوري. لذلك كانت المرأة مجرد آلة إنجاب،. مما سهل على النظام الأبوي عملية إعادة الإنتاج الاجتماعي والثقافي، على مستوى القيم والرؤى والممارسات والأفكار…
“تم زواج أمي حرم في عمر صغير فقط تسع سنوات من رجل أكبر منها بقرابة أربعين عامًا…وبعد إنجابها لبنتها عرفة رقم ثلاثة، أصيبت بالمرض الشديد الذي لم يمكن تشخيصه، أصبحت لا تستطيع النوم أو الأكل أو الحركة، وأصابها الخوف، والدها شيخ حافظ وقارئ قرآن كان يقرأ لها، ولكن حالتها تزداد سوءًا، ولم يستطع الطب علاجها، فتدهورت صحتها”. 55
كما كانت الجدات أدوات لتكريس ثقافة العفة و الشرف الذكوري من خلال عملية الختان، التي كانت تشرف عليها الجدات، باعتقاد كبير أنها حماية للمرأة من نفسها وشهواتها وجسدها الممسوس بجنون الغواية.
والجميل في نصوص الجدات أن الكاتبات صرن واعيات بخطورة التشكيل الثقافي الاجتماعي للوعي، والرؤية للذات والعالم والأخر عند النساء. لهذا كان التذكر عبر الكتابة شكلا فنيا جماليا للشفاء. والتخلص من الاعتقاد الخاطئ بعدوانية المرأة. حيث وجدت الحفيدات للجدات الكثير من الأعذار الموضوعية، في قراءتهن للسيرورة التاريخية لتجارب الجدات، بعين نقدية مدركة لأسس البنى الفكرية الثقافية، والمادية الاجتماعية، التي تشتغل وفق التوزيع الاجتماعي السياسي للمعرفة والقوة والسلطة والثروة…
“حبوبة دولة صديقة حبوبة ستنا وحبوبة نبوية وحبوبة نعمة، والأسماء كثيرة والحديث يطول، فكل واحدة منهن لديها حكاية وسير وأقوال مأثورة. أخذنا منهن الكثير الكثير، وتركنا تلك الأقوال التي جعلتنا نشعر بالعجز أحيانًا، كوننا بنات، لكن فيما بعد أصبحنا واعيات بقدر كافٍ، فالحب وحده هو الذي جعلنا نحبهن ويحببننا، ونكون مدللات وسطهن. حتى عندما مسكننا لعملية الختان القاسية والصادمة رغم الزينة وتزين المنزل بالأهل والأنوار، لكن لن نعتابهن وهن في مرقدهن، فقد كُن لا يعلمن الخطر القاسي عن هذه العملية. كانت فقط من دواعي حبهن لنا وخوفهن علينا من قشة الكبريت ) شرف البنت( التي كبرنا بحرص من ذلك الخطر ونسير بذاك الحذر والهدوء لكيلا نندم من حتى الجري وراء فراشة تطير بانطلاقة في سعادة وحبور، فقط لأننا بنات!”. 133
ثالثا/ الأناقة، الثورة وتقويض ميتافيزيقا الذكورة
“كانت جدتي سعدية خفيضة الصوت، هادئة الطبع، قنوعة، دائمة الحركة وكثيرة الذكر والترانيم. كانت جدتي سعدية تحب الزراعة كثيرًا، كانت دائمًا تزرع الخضراوات خلف منزلها وكانت تملك مزارع كثيرة يقوم أقرباؤها بزراعتها لها. ونذهب نحن الاثنان لحصاد السمسم والفول. كانت جدتي سعدية لا تحب الاعتماد على الآخرين. كانت تقوم بجلب الماء والحطب بنفسها وأحيانًا تقوم بترميم بيتها أو عمل إضافات عليه بنفسها… كانت جدتي سعدية لا تحب الفوضى والكسل. كل يوم عندنا شيء نقوم به. كانت لها مقولة شهيرة تقولها لي عندما تراني أتكاسل أو أتذمر )قساي اجر ألابو( -بلهجة التجري- بمعنى الجلوس من غير عمل لا أجر له. وهي لا تعني الأجر المادي بقدر ما كانت تعني الفائدة المعنوية. تعلمتُ على يدها الكثير من الأعمال اليدوية كالأفرشة، والسجاد، والفخار، ومشغولات الخرز”. 136
تميزت الجدة في كل نصوص الكتاب بالنشاط والفاعلية، والتنظيم والقدرة على الفعل والإنجاز المؤثر في المحيط البيئي والاجتماعي. والجميل في عالم الجدات عدم الاستسلام للدونية والتبخيس والوصم السيئ الذي طالهن من الثقافة الذكورية. فهن الأنيقات الجميلات الشجاعات والحكيمات، والعاقلات الهادئات في قراءة الواقع والتقدير الموضوعي للمواقف في تجاوز المحن وحرائق التسلط القهري للنظام الأبوي الذكوري. هذه الوجوه الجميلة هي التي تفاعلت بها الجدات مع الحفيدات في زرع النماذج المثالية في تدبير الذات وتحصين النفس من الانهيارات وأشكال الخنوع. لهذا وجدن الجدات الثائرات ضد الطلاق والتخلي الذي يمارسه بعض الأزواج، وضد التهميش والاقصاء، وضد التبخيس والتنقيص من القيمة والمكانة الاعتبارية المعنوية والمجتمعية. وبكلمة واحدة ضد ثقافة الذكورة، المشبعة بهوامات المهارة والبطولة والقوة والإنجاز….
“لم تفقه جدتي، يومًا ما معنى تاء التأنيث لغويًّا إلا أنها أدركتها في دربتها وهي توصي جميع حفيداتها البنات ألا يصمتن حين يتعرضن للتحرش وأن وسيلة الدفاع موجودة في أسفل القدم اقلعنَ أحذيتكن واضربن المتحرش واصرخن ليجتمع الناس عليه وينفضح وأدركتها حين رأت كيف تكاتفت نساء قبيلة زوجها لتزويج والدي ضرة على ابنتها، هنا هزت رأسها وقالت حبايب النسوان نسوان تكشف عمق إدراكها إلى وجود الحبايب بالقرب من بعض، كانت لحظة فرحتها الكبرى حين أنجبت أمي لها أولى حفيداتها بعد ولادة شقيقيّ الذكور أولًا لم يشهد امرأة من ذلك الزمن تفرح بولادة حفيداتها البنات كجدتي”. 230
ومن خلال الحياة اليومية للجدات في الاعمال المنزلية، وفي الأنشطة الإنتاجية الزراعية. وأيضا الأنشطة الفنية كالمنسوجات والأفرشة والبستنة، في الاعتناء بالنباتات والأزهار. بالإضافة الى الذائقة الجمالية في العلاقة بالتنظيم والعطور، ومختلف أشكال التجميل والتزيين للفضاءات، بصورة أنيقة باعثة على الفرحة والاطمئنان والاتزان النفسي والعقلي.. الشيء الذي يفند أسطورة الذكورة في فرض التمييز، وشرعنة السيطرة والهيمنة، والسطو على المكانة والقوة والإنجاز والمهارة، والسلطة والثروة…
“ذهبتْ جدّتاي الاثنتان لكن آثارهما باقية. فالأساس الحجري لبيوتهما ما زال صامدًا، وشامخًا يحكي قصة ظلم الإنسان لأخيه الإنسان. وكل ما تعلمته منهما في تلك المرحلة المبكرة من عمري مع قِصَرها، قد أصبح لي زادًا في تكوين شخصيتي. ورثتُ منهما حب الأرض والطبيعة والاعتماد على النفس”. 143
وقد شاركت الجدات ببسالة في موجهة المستعمر، وتحملن الكثير من الآلام والفقد، وأهوال الحروب. وشتركن في الثورات والتغيير بشجاعة تحدي الموت. هذا ما سجلته الأرمينيات في وجه الإبادة التي ارتكبها الأتراك. وعانين من الهجرات المرعبة في ظروف لا إنسانية، مع تحمل مسؤولية حماية الأطفال على كل المستويات. وهذا ما الرابطة النفسية والعاطفية والاجتماعية بين الجدات والحفيدات. وولد تعلقا جميلا وحارا بهن، مشوب بألم الخسارة والفقدان والسخط على واقع القهر والاستبداد الابوي بنزعاته الذكورية، المتحصنة وراء ميتافيزيقا العنف والخراب، جوفاء منخورة من الداخل، لا تقوى على التقدير والاعتراف بالإنسان، وبناء مناعة الأوطان.
“بكيت وبكيت قبل وفاتها وحتى عند كتابة هذه السطور، عيني لم تتوقف عن البكاء. فكل ما أحتاجه هو طرف طرحتها بنفس رائحة الحناء حتى يعتريني ذاك السكون المحبب لقلبي. شعرت بغضب شديد وقت وفاتها؛ لأنه من غير المنصف أن نحمل كل تلك الذكريات والتي ساهمت في بناء شخصياتنا وعشنا سويا أجمل أيام أن لا نستطيع القرب منها في أيامها الأخيرة بسبب جواز سفر أوتأشيرة دخول. وكل ذلك بسبب حكام اختاروا أن يعذبوا شعوبهم وأن يحرموهم من أقل حقوقهم وهي العيش بأمان في أوطانهم!”. 244
والكتاب أيضا لا يخلو من الكثير من الآلام التي ولدتها العلاقة بالجدات، حيث تكرس نوع من عصاب الفشل أحيانا في تكرار تجربة الجدات في العلاقة بين الأم وأطفالها. خاصة عندما تطغى همجية هيمنة الثقافة الذكورية. فتسبب الكثير من الآلام العميقة في نفسية الأم حين تحرم من أطفالها. مما يرسخ عذابات عقدة الذنب والتأثيم الرهيبة. الشيء الذي يسبب توترات واضطرابات نفسية قاسية جدا. تؤدي غالبا الى إنهاك الصحة النفسية، وضعف حسن الحال المساعد على التحرر والتخلص من الانسدادات، والمآزم النفسية، ومن كم هائل من العذاب الجهنمي الرهيب. هكذا وجدت نفسي، في آخر الكتاب أمام نص حارق موشوم بالحديد والنار في القلب والذاكرة بحرقة ألم العذاب والترحال الوجودي الحزين، والقلق المثقل بحرقة الأسئلة التي تتولد باستمرار، بسبب مأساة هيمنة تغلب الشكل الثقافي الاجتماعي للنظام الأبوي بمركزيته الذكورية. هكذا بقوة تأتي من مناطق مجهولة في الذات تقاوم المرأة هدم الأسوار العالية لميتافيزيقا التسلط الذكوري.
” أجاهد نفسي كي أكون قادرة على الوقوف في المنطقة الرمادية بثبات، حيث يجتمع ميراث جدتيّ الاثنتين في توازن يؤدي الدور الأمومي دون أن يلغي الدور الشخصي لوجودي، حتى أصبح حاضرة لأولادي كراشدة ولجيل المستقبل وأنا أعتقد أنني ممتنة للذاكرة التي وضعتها كلتا الجدتين في حياتي، بالاسم وبالفعل، لأنني دون احتواء اللونين لم أكن لأدمج بينهما.. مرحلة الألوان المتنوعة لاحقًا هي التي أصنع من خلالها ذاكرة عصري، كجدة رمزية ربما، تورث التراكم الذي ورثته بعيدًا عن النسخ، لأنني أعتبر معاناتي الشخصية هضمًا لمضغ طويل لهذا الموروث وليس نسخًا.. موروث الجدات ليس فقط تقاليد نحافظ عليها إنما أحيانًا تكون خلاصة لتواتر منتظم طويل الأمد، فكما يولد الطفل من والدين تولد الذاكرة من جدتين ومن جيلين…”. 289و290
الهامش
د. إشراقة مصطفى حامد، جداتنا ثراء الذاكرة، دار صفصافة، الطبعة 2024.