نهاية أسبوع في تولوز.. “المدينة الوردية” تزهر شتاء

نهاية أسبوع في تولوز.. “المدينة الوردية” تزهر شتاء

علي بنساعود

تأجيل وألعاب

     تحط طائرتنا في مطار بلانياك الدولي بتولوز الفرنسية، على الساعة 3 بعد الزوال، وكان مفترضا أن تصل على التاسعة من صباح اليوم نفسه، بعد أن تقلع حوالي الساعة السابعة، غير أننا، مساء اليوم السابق للسفر، فوجئنا بالشركة تقرر تأجيل الإقلاع دون أن تعتذر للركاب، بل دون أن تكلف نفسها عناء إخبارهم، إذ اكتفت بتغيير المواعيد على موقعها على الإنترنيت!

كانت الطائرة عبارة عن سوق للبيع والشراء، حيث، في الذهاب كما في الإياب، بمجرد الإقلاع يتحول المضيفون إلى تجار يطوفون بعرباتهم، يبدؤون ببيع السندويتشات والمشروبات، يعقبها بيع العطور وأدوات التجميل، ثم السجائر والمشروبات الروحية، ويشترطون الأداء بالبطائق البنكية فقط، ما دفع أحد الركاب لأن يتطوع ويأخذ النقود ويؤدى ببطاقته ثمن سندويتش لطفلة لم يكن والدها يتوفر على بطاقة بنكية!

وكان مسك الختام، بيع “بطائق حظ” يزعمون أن مداخيلها تخصص لمساعدة جمعيات خيرية تعنى بالأطفال في وضعية صعبة، وهي بطائق يشارك مُقتنوها في قرعة يربح الفائزون فيها جوائز من بينها سيارات فخمة!

 تمييز وأعطاب…

   ورغم نظام التمييز بين المسافرين المعمول به في مطارات دول منطقة شنغن، حيث هناك شبابيك خاصة بالمسافرين الحاملين لوثائق دول هذه المنطقة والمسافرين الحاملين لوثائق باقي الدول! رغم ذلك، نُنْهي إجراءات الدخول في حوالي عشر دقائق ونغادر… وحين نغادر المطار، نجد السماء غائمة، والحرارة تتراوح بين 4 و13 درجة، وتركناها معتدلة في فاس، تتراوح بين 9 و24 درجة…

كنا نريد ركوب الترام للوصول إلى مركز المدينة الذي يبعد عن المطار بحوالي 11 كلم، إذ هناك كنت وابنتي حجزنا غرفة للإقامة بالطابق 12، من إحدى عمارات حي باغاتيل الجميل… غير أننا وجدنا أشغالا في الطريق فاضطررنا إلى ركوب حافلة وبعدها الترام ثم المترو للوصول إلى وجهتنا…

 كرم “قبائلي” في تولوز

   تقع الشقة على بعد خطوات من محطة المترو، غير بعيد عن كلية جون جوريس، وكنا اخترناها من موقع إلكتروني خاص بالكراء السياحي.

مباشرة بعد نزولنا من المترو، قصدنا محل إقامتنا، فوجدناه، كما في الصور المعروضة في الموقع، هادئا، نظيفا، واسعا، بسريرين مريحين من الحجم الكبير، بألوان دافئة، بينهما مصباح ليلي لطيف، ومدفأة، وثلاجة، ومكتب، وكرسي، مع نافذة تطل على مناظر خلابة، كما كانت الشقة موصولة بالويفي، تتوفر على مطبخ مشترك بكل مستلزماته، وغلاّي، وأكياس شاي، وحمام ومرحاض وشرفة بمائدة وكَراس، تطل على فضاء أخضر، وتتيح مناظر بانورامية رائعة للمدينة وللغروب، دأبنا على تناول فطورنا فيها، بعد أن  يعده لنا مضيفنا، وهو فرنسي من أصول جزائرية، ودود، متفتح، كريم، استقبلنا بحرارة، ولم تكن الابتسامة تفارق محياه! ولعل من تجليات لطفه وكرمه، أنه أعد على شرفنا “قصعة” كسكس بطريقة أهل منطقة القبايل التي تعود أصوله إليها!

 الأماكن كلها…

   للتذكير، فهذه السنة، تكون قد مرت أربعون سنة على أولى زياراتي لهذه المدينة الواقعة جنوب غرب فرنسا، على الحدود مع إسبانيا، وكنا نزورها سابقا ببطائق القطار (le pass interail). وهي تُعرف باسم “المدينة الوردية”، وذلك لأنّ مبانيها مشيدة بطوب وردي اللون. وقد وجدتني، في زيارتي هذه، أراها بعيون مختلفة عن عيون الشاب الذي كنته، وأنا طالب في العشرينيات من عمري، حيث أغرمت بها، بهدوئها وطقسها وعمرانها وأهلها، وكنت، يومها، أستغل وبعض رفاقي العطلة الصيفية لنأتي إلى فرنسا ونشتغل في جني الفواكه، ولا نعود إلى المغرب إلا مع بداية الموسم الجامعي…

أتخلص وابنتي من حقائبنا، نخرج لنتجول، فيشدنا جمال المدينة، ونظافتها، ورغد العيش فيها، بما يعنيه ذلك من هدوء وسكينة وأمن… نزور أهم معالمها بسهولة على الأقدام، حيث نسير عبر الشوارع، نتملى الواجهات، نتسكع في الأسواق، نستمتع بما تشهده من حيوية، وما يسودها من نظافة ونظام وأمن، كما نستمتع بالمشي في الحدائق والجلوس على شرفات المقاهي والمطاعم…

 مدينة غارقة في التاريخ

   يعود تاريخ تولوز إلى 2000 عام، وهي ذات تراث حضاري ومعماري غني، بعضه مسجل لدى اليونسكو كتراث عالمي، من معالمه ساحة الكابيتول، وهي وسط المدينة وقلبها النابض، وقد استمتعنا كثيرا بها وبما كشفته لنا عن تاريخ “المدينة الوردية”، وكنا، كلما تعبنا من التجول في الشوارع والأزقة، نعود إلى هذه الساحة الأثرية، وهي تضم مبنى البلدية وواحدا من أهم مسارح أوروبا وأعرقها، تم بناؤه عام 1190، من أجل إنشاء مقر السلطة البلدية، إضافة إلى دير اليعاقبة، وكنيسة القديس يوسف دو لا غراف وقبتها الشهيرة، وكاتدرائية سان سيرنين، وفندق ديو سان جاك، ونهر الغارون ومتحف أوغسطين… ناهيك عن العديد من القصور والمتاحف… وكلها كانت تفاجئنا بجمالها، وأصالتها، وما تزخر به أزقتها ومتاجر الحرفيين من سحر وفرادة…

 ليه يا بنفسج…؟

   ولأن البنفسج هو رمز تولوز، فإننا نجده مزروعا فيها بكثرة، للونه ورائحته، وهو زهر يستعمله السكان المحليون بكثرة في الحلويات ومنتجات التجميل، لذلك، يطلق على تولوز “مدينة البنفسج”.

وعلاقة بالبنفسج، فإنني بمجرد ما خرجت من الشقة، ورأيت أول زهرة، تذكرت أنني، من هذه المدينة اقتنيت أول عطر نسائي في حياتي، وذلك صيف سنة 1984، وكان مستخلصا من مزيج الورد والبنفسج، وكانت قارورته تحمل اسم “بنفسجات تولوز” ((les violettes de Toulouse أهديتها لحبيبتي “ماريا”، وما زلت أتذكر أنها تلقتها بفرح طفولي غامر… واحتفظت بالقارورة حتى بعد أن نفد العطر، وكان عطرا أنيقا ذا رائحة حلوة جذابة منعشة، تدوم ساعات طويلة خلال اليوم الواحد!

 الليل يا ليل…

   من مظاهر الجمال في هذه المدينة أن الليل فسحة أخرى لإعادة اكتشافها والتعرف على معالمها، سيما أن فيه تتغير ملامحها بفعل مئات المصابيح الباهرة التي تضيء جنبات الغارون وواجهات البنايات ومعالم المدينة وواجهاتها والنصب التذكارية والمواقع الرمزية، فتضفي على المدينة طابعا مميزا فريدا، يضاف إلى هذا أن تولوز مدينة جامعية شابة، نشطة وصاخبة. وقد تجولنا فيها، ليلا، فاستمتعنا بحيوية الساحات، وما تزخر به من تماثيل وعروض فنية، علاوة على أن الليل، وقت مثالي للمشي والاستمتاع بهذه المدينة وبمبانيها المضيئة.

 تولوز: جمال ومتعة وتسوق…

   هي عاصمة منطقة أوكسيتاني (occitanie)، يبلغُ عدد سكّانها زهاء نصف مليون نسمة، محتلة بذلك المرتبة الرابعة من حيثُ عدد السكان في فرنسا، ويرى كثيرون أنها من أحسن المدن للعيش في فرنسا، لما توفره من عمل وسكن ودراسة بأسعار مناسبة، كما أنها معروفة بتعدديتها الثقافية بفعل ما تأويه من وافدين، وما تستقبله من سياح… وجدير بالذكر أن المسلمين، إبان حكمهم لتولوز سموها “طولوشة”، وذلك، خلال العصور الوسطى…

ولأن الموسم موسم تخفيضات (صولد)، فقد رافقت ندى إلى بعض المتاجر الكبرى، وفيها وجدنا العديد من الأسر المغربية التي ذهبت لمجرد التسوق، وبعضهم ركب معنا الطائرة نفسها، ذهابا وإيابا…

خلال رحلتنا، نزور حديقة كومبان كافاريلي شمال المدينة، وهي حديقة تثير الإعجاب، كما  توقفنا عند كنيسة سان سيرنان العريقة، واستمتعنا بمشاهدة هندستها المعمارية الرائعة، التي تعود للقرن الحادي عشر، ويقصدها الحجاج المسيحيون منذ عدة قرون…

ولأن تولوز هي العاصمة العالمية للملاحة الجوية، ولأن حلم المشي على سطح القمر أو ركوب المحطات ومركبات الفضاء، حلم يراود كثيرا منا، فقد عرجنا على مدينة الفضاْء، وهي عبارة عن متحف فضائي تفاعلي يضم نسخًا طبق الأصل من الصواريخ والمركبات الفضائية وقبة سماوية، وجهاز محاكاة لرحلات الفضاء…

  نقانق وبط ونبيذ…

   خلال إقامتنا بتولوز، سمعنا كثيرا عن مطبخها وبعض أكلاتها الفريدة، خصوصا منها النقانق الشهيرة، وكبد البط (فوا غرا)، والبط المشوي، والأجبان، والنبيذ، وأنواع من الحلوى بطعم البنفسج… لذلك، نستغل نهاية آخر أيام رحلتنا، ونتوجه إلى مطعم شهير بهذه المدينة، اسمه وحده طبق شهي آخرMa Biche sur le Toit!  (ظبيتي على السطح) وهو مطعم هادئ، بديكور أنيق، فيه تذوقنا النقانق مع خضر وفواكه محلية، وكنا محظوظين لتناول العشاء به، خصوصا أنه يقع على سطح متجر “غاليري لافاييت” وهو ما أتاح لنا الاستمتاع بإطلالة بانورامية رائعة على المركز التاريخي للمدينة، وبمنظر غروب الشمس المذهل…

 جمالية الأسماء

   خلال رحلتنا هذه، استوقفتنا أسماء العديد من الأماكن، منها المآثر والمطاعم والمقاهي والنوادي، وما أثارنا فيها هو أنها ذات حمولة شعرية غنية بالمعاني والدلالات تطلق العنان للخيال والفهم والتأويل، ومنها مثلا:

“صرخة النورس” و”ظبيتي على السطح” و”صيادو الرمال”… وقد استمتعنا بتأمل بعضها، فتخيلنا، مثلا، أن “صرخة النورس” اسم لفضاء ذي أجواء ليلية مريحة، بلمسة بحرية، فضاء للاسترخاء والاستماع إلى صوت الأمواج الموسيقية الهادئة أثناء تناول مشروبات في أجواء ودية.

أما “ظبيتي على السطح”، فأوحى لنا بأنه اسم لمكان أنيق، وربما رومانسي، وقد جعلتنا صورة “الظبية على السطح” نتخيل أجواء طبيعية، فريدة من نوعها، ما يوحي بتجربة ساحرة. بينما رأينا في اسم “صيادو الرمال” صورة شعرية لأشخاص يبحثون عن شيء ثمين أو نادر في الرمال، ربما تكون كنوزا، وقد يثير ذلك فكرة مطبخ إبداعي، فريد، مرتبط باستعارة الصيادين الذين يستكشفون الرمال بحثًا عن نكهات فريدة!

وحين زرنا “صرخة النورس”، وجدناها عبارة عن بارجة طافية على مياه نهر الغارون، وهي عبارة عن ملهى ليلي بديكور دافئ، تأوي واحدا من أفضل نوادي التكنو في تولوز، ينظم حفلات موسيقية، ويستضيف أمسيات الروك والريغي مرورا بالجاز والموسيقى اللاتينية أو الكهربائية.

وحين تعمقنا في البحث، وجدنا أن اسم “صرخة النورس” مستوحى من عنوان سيرة ذاتية ظهرت سنة 1993 لفرنسية شابة هي إيمانويل لابوري، وكانت وقتها تبلغ 21 سنة، وهي فتاة صماء، آثرت أن تجعل من سيرتها شهادة تعبر فيها عن ذاتها بدقة، وبفهم ذاتي بعيداً عن تصور الآخرين عنها، وقد فعلت ذلك بلغة طفولية عذبة، تلتقط تفاصيل هذا العالم، “مستخدمة لغة الذين يسمعون أي لغتها الثانية”، كما كتبت في مقدمة عملها. وبذلك، فهي تسرد قصتها، وكيف تعاملت مع إعاقتها، وما عانته بسببها، وكيف وقف والداها إلى جانبها، خصوصا أن لغة الإشارة كانت ممنوعة، وقتها، في فرنسا… كما نقلت في سيرتها تجربتها في قيادة مظاهرات الصم والبكم لمطالبة الحكومة الفرنسية بشرعنة حقوق هذه الفئة من المواطنين، واعتماد لغة الإشارات، إلى أن اعترف القانون الفرنسي بها عام 1991…

أما بخصوص “صيادو الرمال” فحين بحثت عنها، وجدتها عبارة عن مطعم شهير، على ضفة نهر الغارون، يتردد عليه الناس بين شهري أبريل ونونبر، فتمتلئ شرفته بالمرتادين، وهناك يستمتعون بتناول الطعام والشراب مع الأهل والأحباب، خصوصا في المواسم الدافئة…

ويرجع البعض تسمية هذا المطعم بـ”صيادو الرمال” إلى سببين، الأول تاريخي، حيث، حتى بداية القرن العشرين، كان هناك صيادون، عند انخفاض مياه الغارون، يستخدمون مجارفهم لاستخراج الرمل، وفرز ما يصلح منه لصناعة الإسمنت، وبعد ذلك، ينقلونه على متن مراكبهم ويسافرون به على ضفاف نهر الغارون. ومن ثمة، استلهم المطعم اسمه.

ويذهب آخرون إلى سبب آخر لهذه التسمية وهي أن هذا المطعم يقع على رصيف الدوراد المقابل للغارون، الذي اقترن اسمه بالغرق… وهكذا، فإن المبنى البارد، الذي يحتضن، اليوم، الأماسي الصيفية الجميلة، والوجبات اللذيذة مع الأصدقاء، كان في الأصل ثلاجة لتخزين جثث الغرقى الذين يتم انتشالهم من الغارون في انتظار وصول عائلاتهم للتعرف عليهم.

ومن غرائب الصدف، أننا عثرنا على رواية تحمل العنوان نفسه، “صيادو الرمال” (2018) للفرنسي سيرج نيكولو، بعض أحداثها تجري في المغرب! وهي رواية مشوقة ذات أبعاد اجتماعية، سياسية، بيئية، تحكي قصة راكب أمواج عُثِرَ عليه ميتا على أحد الشواطئ المغربية. للوهلة الأولى، بدا الأمر عاديا، لكن والدة الضحية وأخته رفضتا تصديق ذلك، ولجأتا إلى محقق خاص، أقنعتاه بإجراء بحث سيأخذه من تولوز إلى الرباط، عبر سفوح جبال البرانس.

وعلى طول الطريق، كشف المحقق النقاب عن محتالين من وسط رجال الأعمال والسياسة الفاسدين. كما رفع الحُجُب عن جريمة بيئية ضخمة تتمثل في استنزاف خطير تتعرض له الرمال، كمورد طبيعي كثير الاستهلاك، مع ما يشكله ذلك من خطر على البيئة…

وهكذا، يهاجم سيرج نيكولو، في روايته هذه، المجموعات النافذة التي تستفيد بلا خجل من موارد الطبيعة، وتستنزفها ولو أدى ذلك إلى تدمير الطبيعة…

باختصار، كانت رحلتنا رائعة، غنية، رغم قصر مدتها، عدنا منها بذكريات غزيرة لا تنسى… نتمنى أن تتاح لنا الفرصة للعودة إليها…

Visited 12 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

علي بنساعود

كاتب مغربي