أمين ناسور والبحث عن مسرح يشبهنا
د. عبد الكريم برشيد
فاتحة الكلام
في كتاب (الاحتفالية وهزات العصر) والذي صدر سنة 2007 عن منتدى الفن والثقافة يمكن أن نقرأ في الإهداء الكلمة التالية للاحتفالي الكاتب:
(إلى كل صناع للهزات الحقيقية في التاريخ، سواء قي المعرفة أو في الفكر أو في الفن أو في الصناعة أو في السياسة التبيلة، إليهم كلهم أهدي هذا الكتاب).
ومن طبيعة هذه الهزات التاريخية، أنها الاستثناء الجديد الذي يبشر بالقواعد الأخرى الجديدة، وهي بهذا فعل جديد يخالف ويغاير ويجدد ما سبقه، وهو فعل قوي وعنيف عادة، وتظل طبيعته الأساسية هو أن يشكك في القديم الموجود، وأن يبشر بالممكن الوجود، وأن يخترق ما تعودنا أن نراه ونحياه من صور ومن مشاهد.
والمسرح الصادق والحقيقي هو الذي يبدأ رحلته الى الآتي، من درجة الآن هنا دائما، والذي يقدم لك ما تعرفه وكأنك تراه للمرة الأولى، وهذا هو السر في جاذبية الفنون الجميلة، والني تخرج الحي من الميت، والتي تتحدى كل قوانين الطبيعة، والتي تترجم الماضي الذي مضى إلى الحاضر وما بعده، وتترجمه الى المستقبل الذي سوف يأتي، والتي تحول الشيء العادي إلى شيء مدهش ومثير وساحر ومبهر.
وهذا هو ما لمسته في المهرجان الوطني للمسرح المغربي في دورته الأخيرة بمدينة تطوان، والتي كانت بعض عروضه ساحرة حقا، وكانت مثيرة ومستفزة أيضا، وكانت ممتعة جماليا، ومقنعة فكريا في كثير من الحالات، وسأخصص هذا النفس من هذه الكتابة لمسرحية (تكنزة… قصة تودة) للمخرج المجدد والمجتهد أمين ناسور. وفي رأيي الخاص، فإن الكتابة عن مسرحية من المسرحيات ليس بالأمر السهل والهين، ولذلك فإنني عادة لا أحضر مناقشة أية مسرحية، مباشرة بعد عرضها، ولا أعطي فيها رأيا قاطعا ونهائيا، لأن الأصل في أية مسرحية هو أنها لحظة جميلة عشناها جميعا، وأنها احتفال جماعي اقتسمناه جميعا، ويكفيني أن أخرج من أي عرض مسرحي وكأنني أخرج من حلم جميل، وأن أحرص على ألا يفسد علي أحد نشوني ومتعتي، خصوصا عندما تكون بعض التدخلات مجرد استعراض أو مجرد نميمة أو محد فعل عدواني أو مجرد تشكيك أو مجرد تشويش أو مجرد كلام في كلام في كلام، في حين أن المسرحية هي حالات وجودية مركبة، حالات لها ظلالها، ولها مذاقها، ولها شطحاتها المشروعة، ولها مضاعفها الغائب، ولها أسرارها الخفية، ولها سحرها الحلال، ولها فقهها، ولها كلمة السر التي لا يمكن أن تفتح لك الأبواب المغلقة إلا بها.
يقول الاحتفالي في كتاب (المؤذنون في مالطة) ما يلي:
(إن الأساس في الوجود هو احتفالية الوجود واحتفالية المجتمع، وذلك قبل الحديث عن احتفالية الظاهرة المسرحية، والتي لا يمكن أن تتحقق – بشكل حقيقي – إلا في ظل شروطها الحقيقية).
وهذه الشروط الحقيقية هي التي يرد ذكرها في كتاب (الاحتفالية وهزات العصر) والتي هي بالضرورة (شروط ثورية، وشروط مركبة ومعقدة ودقيقة جدا، وهي تتجاوز المسرح – الفن إلى مسرح الحياة، وتتجاوز الخشبة إلى المجتمع، وتتجاوز المجتمع إلى المدينة، والمدينة إلى العالم، والعالم إلى الكون، وبهذا كان الإبحار – في اوقيانوسها – إبحارا صعبا وخطيرا، وكان مغامرة وجودية لابد منها).
امين ناسور الإنسان والمشروع
من مدينة الجديدة، حيث تذكرت مسرحية (سالف لونجة) إلى مدينة ورزازات، والتي أتحفتنا في ليلة استثنائية باحتفالية مسرحية استثنائية، فبين المدينتين إذن، وبين الزمنين، يمتد حبل روحي ووجداني وثقافي متين، وأرى أن كل مدينة من المدن المغربية، لها سحرها الخاص، والتي لا يمكن أن نتبين سرها وجمالها إلا من خلال معرفة سحر و جمال المدن المغربية الأخرى، والتي لها بالتأكيد اصل واحد، ولكن فروعها متعددة، وكل مدينة من هذه المدن المغربية هي جوهرة في قلادة واحدة، وهي لا تختلف إلا لتأتلف، وهي لا تتعدد إلا لتتجدد، وهي لا تفترق إلا لتلتقي، وثقافة المحيط الأطلسي ليست هي ثقافة البحر الأبيض المتوسط، وثقافة الجبال الأطلسية ليست هي ثقافة السهول، وثقافة الشمال ليست هي ثقافة الجنوب، وثقافة الغرب ليست هي ثقافة الشرق، وأعتقد أن من واجب المسرح المغربي أن يستوعب كل هذه الثقافات المتعددة والمتنوعة، وأن يتمثلها، وأن يستنطقها، وأن يكلمها، وأن يكلم الناس بلغاتها، ولعل هذا هو ما فعله فنان مسرحي اسمه امين ناسور، والذي بنى مشروعه المسرحي على تعدد وتنوع وغنى الموروث الثقافي المغربي، والذي انتقل بمسرحه من جبال الريف بالشمال إلى جبال الأطلس، بوسط وعمق المغرب، إلى الصحراء المغربية في صقافتها الحسانية الغنية.
أقول هذا الكلام بمناسبة تألق المخرج أمين ناسور بمسرحية (تكنزة ..قصة تودة) تماما كما تألق في كل التجارب الإخرجية السابقة، والتي كان فيها باحثا جوالا، ينتقل ببن المناطق والمدن المغربية، من أجل أن يستخرج منها مخزونها الثقافي الغني، وقد فعل ذلك في الحسيمة، جوهرة الأبيض المتوسط، ومع بني ملال جوهرة الأطلس المتوسط، ومع ورزازات، باعتبارها خزانا ثقافيا غنيا لحد البذخ، والتي هي اليوم هوليود افريقيا في السينما، وإذا كانت هذه المدينة قد ألهمت كبار المخرجين في السينما العالمية، فما المانع من تلهم فنانا صادقا ومجتهدا يتنفس هذه الثقافة مع الهواء؟
وأمين ناسور هو أساسا فنان مثقف، وهو صاحب مشروع فكري وجمالي بسعة المغرب، جغرافيا وتاريخيا وحضاريا وجماليا، وهو في المسرح المغربي مسرحي جوال، وهو غير مرتبط بفرقة مسرحية واحدة قارة، ولكنه بالتأكيد مرتبط بمنظومة فكرية وجمالية واخلاقية واحدة، ولعل هذا هو ما جعله يقول (أومن بأن المسرح ينبغي أن ينطلق من من ثقافته ومن هويته المحلية إلى الكونية) ومن خلال هذا الاختيار المبدئي، فإنه يصحح كل أخطاء المسرح التجريبي العربي، والذي سعى دائما من أجل أن (يشقلب الصورة) وأن يجعل اسفلها هو الأعلى، وأن يجعل آخرها هو المبتدأ الأول، ولا أحد يمكن أن يطير إلى السماوات العالية إلا من أرض ثابتة ومن رمال ثابتة، وليس من رمال متحركة، وهذا نفس ما قام به كبار المسرحيين المغاربة في تجاربهم المسرحية الرائدة، من أمثال الطيب الصديقي وأحمد الطيب العلج وعبد الله شقرون ومحمد حسن الجندي ومحمد سعيد عفيفي وعبد السلام الشرايبي، والذين أعطوا للعالم مسرحيات مختلفة ومخالفة، مسرحيات أساسها الحكي والحكواتي وأساسها الغناء والمغنواتي، وأساسها الشعر والشعرية، وأساسها الكتابة بالأجساد الحية وبالأشياء الملونة وبالرسم وبالوشم وبالحركات الجماعية الموزنة والموقعة.
وبالتأكيد، فإن الفن الصادق، مثل الفكر الصادق، محكومان بأن ينطلقا أساسا من النحن، ومن ثقافة النحن، ومن تراث النحن، وأن ينطلقا ايضا من الهنا الجغرافي، بكل غناه الجمالي والفكري، وأن ينطلقا من الآن، بكل أسئلته ومسائله، وبكل قضاياه الفكرية والسياسية والاجتماعية الصادقة.
وما قام به أمين ماسور، لحد هذا اليوم، وما سوف يقوم به غدا، هو التجريب الميداني الحقيقي، لأنه لا يستعير ما تم تجريبه، ولا يقتبس ما لا يتوافق مع النحن والآن والهنا، وهو لا يمارس الترجمة الخائنة باسم الإبداع وباسم الحداثة وباسم التجديد، لأن سرقة جديد الآخرين ليس تجديدا أبدا، والمغاربة يقولون (المكسي بديال الناس عريان).
مسرحي أمام مرآة ثقافته
هي مقولة معروفة ومستهلكة في مجال المسرح، ونحن نرددها في كل كتاباتنا النقدية. وهي تقول (المسرح مرآة المجتمع أو هي مرآة الشعوب).
وبخصوص هذه المرايا التي تعكس صورة الموجود، هناك أنواع كثيرة جدا من المرايا، والتي تتفق في طبيعة فعلها، ولكنها تختلف في درجة الصدق ودرجة المصداقية فيها، واختلف في درجة الأمانة ودرجة الخيانة، فهناك المرايا الصادقة، وهناك المرايا الكاذبة، وهناك المرايا السليمة، وهناك المرايا المكسرة، وهناك المراياالمقعرة، وهناك المرايا المحدبة، وهناك المرايا النظيفة، وهناك المرايا المتسخة، وفي مسرحنا المغربي العربي هناك اليوم كثير من المرايا، القليل منها صادق، والكثير منها كاذب ومزيف، وكل من لا يرى في مرآة فنه وفكره ملامحه الخاصة، فإن مرآته لا يمكن أن تكون إلا مرآة كاذبة ، وهذا هو حال كل مراة إبداعية وفكرية و جمالية ينظر فبها المدعو الحاج عبد القادر، فيجد نفسه أمام المسيو دوبان أو المسيو جوردان، ويرى غيره ولا يرى نفسه.
وما معنى أن تنظر في مرآة هذا المسرح المغربي العربي، وألا تجد وجهك المغربي والعربي، وألا تجد ملامحك المغربية، وألا تجد ذاكرتك، وألا تجد تاريخك، وألا تجد ثقافتك، وألا تجد لغتك؟ وما قيمة المرايا التي تخدعك، والتي لا تقدمك للناس ولنفسك، كما انت في حقيقتك؟
وهذا الوجه، هو بالضرورة وجه صاحبه، بكل ما في هذا الوجه من ملامح خاصة، وهو غير قابل للتفويت ولا للبيع او الشراء ولا للاقتباس ولا للاختلاس ولا للترجمة الخائنة.
وكما انه لا يمكن أن تقتبس وجها غير وجهك، فإنه لايمكنك أن تقتبس من جارك فنونه، لأن فنونه تختزن حياته، وتختزن اعماره وتختزم تجاربه الوجودية والوجدانية الخاصة، ولقد سبق للمخرج الفرنسي جان فيلار أن قال للطيب الصديقي (لقد تعلمت لدينا التقنيات، فاذهب لشعبك ليعلمك المسرح)، وأعتقد أن هذا هو ما فعله ويفعله المخرج أمين ناسور اليوم، فهو يبحث عن مسرحه في احتفالات الناس وفي أعيادهم، وهذا هو ما عبرت عنه مسرحية (تكنزة .. قصة تودة) من خلال بلاغة مسرحية خاصة، لا يمكن أن توجد إلا فينا وبنا ومعنا، نحن الآن هنا.
وأمين نسور في هذه الاحتفالية المسرحية رجع إلى الاحتفال الشعبي احواش، بكل طقوسه العيدية، والغنية بالأزياء وبالأصوات وبالصور ولالمشاهد وبالأهازيج وبالرقصات، من أجل أن يبدع مسرحا مختلفا، وأن تكون هذه المسرحية قيمة فكرية وجمالية أخرى مضافة، وأن تكون حلقة جدبدة في سلسلة البحث عن مسرح يشبهنا ونشبهه، ويشبه لحظته التاريخية، وأن يكون هذا المسرح سفيرنا إلى العالم، وإلى كل مسارح العالم، وأن يخترق جدار الزمن، ليصل إلى كل الحقب التاريخية القادمة، لأن الأصل فس المسرح أنه فن اللحظة الحية، بجانب أنه فن سرمدي وأبدي خالد.
ومن الممكن جدا أن تستعير التقنيات والآليات، ولكن بشرط أن تخضعها لشرط هويتك ولشرط مكانيتك ولشرط زمانيتك، ولشرط خطابك، ولشرط أسئلتك ومشاكلك وقضاياك، والتي هي قضايا من (إبداع) هذا المكان هنا، ومن (إبداع) هذا الزمان الآن، ومن (إبداع) هذا السياق الوجودي والحضاري والاجتماعي والسياسي الذي له خصوصيته، والتي أوجدت نفسها ولم نوجدها نحن.
وعليه، فانه لايعقل، ولا يصح مطلقا، أن نعيش حياة غير حياتنا، ومن غير المعقول أيضا، أن نحاول أن تقتبس حياة الآخرين، وأن ننسى حياتنا، وأن ننشغل بالقضايا التي لا تمسنا ولا تعنينا ، وأن لا نمسرح قضايانا الخاصة، وعليه، فإنه لا يمكن أن تقتبس أو تختلس تجربة الآخرين الوجودية، بشكل ببغائي، والذين أبدعوا هذه الفنون أو تلك، في ظل شروطها ولكننا في المقابل، يمكن أن نستفيد من كل التجارب المسرحية في العالم، بشرط ألا نسرقها. أو أن نشوهها، أو أن نتطفل على موائدها الفكرية والجمالية.
والاحتفال واحد بكل تأكيد، ولكن طقوسه تختلف، من ثقافة لأخرى، ومن بلد لبلد، ومن حالة إلى غيرها، ومن مناسبة إلى مناسبة أخرى، وما معنى أن تحيا حالة خاصة، في ظروف زمنية ومكانية خاصة، من غير أن يكون لهذه الحالة الخاصة معادلها الاحتفالي الحقيقي الخاص؟
وما معنى أن تطلب الاحتفال إذا لم يكن لك شيء خاص تحتاج لأن تعبر عنه؟
والاحتفال ليس مطلوبا لذاته، وهو أساسا لغة، أو هو لغات مركبة، جسدية ووجدانية وروحية عامة وشاملة، ولهذا فقد كان للاحتفال دائما معنى الغنى، وكان إنحيازا لغنى الوجود والموجودات، ولهذا فقد قال الاحتفالي دائما مع الفيلسوف المغربي د.عبد العزيز لحبابي:
(ارحل بحثا عن غنى ” الوجود” زادي العلامات
ودليلى الكلمات)
فأن يكون لك وجود في الحياة الثقافية، ولا ينعكس هذا الوجود على خشبات المسارح، فهذه خيانة للذات، وقد تكون انتحارا ثقافيا غير معلن.
ولقد أكد الاحتفالي دائما على الحضور، الآن هنا، واعتبر الغياب خيانة، وأكد على أن مسرحنا ينبغي أن يشبهنا، وعلى أن يكون إضافة فكرية وجمالية، وإلا فلا معنى لوجوده الشكلاني الموسمي والبروتوكولي، والذي قد يحضر في المهرجانات السنوية، ولا يحضر في الحياة اليومية، والذي قد يعيش على هامش الحياة، بدل أن يكون هو الحياة أو هو روح الحياة وجوهر الحياة.
وتأتي الأصوات بعد الصمت، وتتعدد الألوان بعد أن نكون أمام لون واحد هو السواد وحده، وهنا يكمن سحر المسرح، فهو الضوء والظل، وهو الصوت والصدى، وهو الوجه والقناع، وهو الفعل والتفاعل زالانفعال والفاعلية ،وهو الحاضر والغائب، وهو الكائن والممكن، وهو المحسوس والمتخيل، وهو القريب والبعيد، وهو الوجه والقناع، وهو الجسد واللباس، وهو الصوت والصدى،
وفي كتاب (الصدمة المزدوجة) يحدثنا الاحتفالي عن الصيغة الاحتفالية في التمثل المسرحي، والذي هو تمثل للشخصية، بكل ظلالها النفسية والذهنية، وبكل حالاتها ومواقفها، وبكل امتداداتها المادية والرمزية المتعددة والمتنوعة، ولعل اهم ما يميز هذا التمثل الشرقي والأفريقي، عن التمثيل الغربي، هو اعتماده عل (آليات) مختلفة (وما يميز هذه الآليات هو أنها أكثر حيوية وأكثر عفوية وأكثر قربا من الاحتفال الشعبي الشرقي والأفريقي والمتوسطي).
والاحتفالية تؤمن بمقولة أن الترجمة خيانة، وهي متسامحة بخصوص ترجمة الكلمات وترجمة العبارات، ولكن يبقى السؤال، وهل يمكن ترجمة الثقافات؟
وهل يمكن ترجمة النو الياباني أو الكثكالي الهندي أو القره قوز التركي أو الحكواتي الشعبي العربي أو المقامات العربية أو أحواش أو أحيدوس إلى المسرح اليوناني اللاتيني الأوربي الغربي بجرة قلم؟
في البيان الثالث لجماعة المسرح الاحتفالي نقرأما يلي:
(إن الاحتفال هو الجانب الحسي قي الحياة، أما الحياة فهي مجموع القوى التي تقاوم الموت، هذا الموت الذي يتخذ مجموعة من المظاهر المختلفة، فهو الفقر والجوع والمرض والاعتقال والجهل والظلم وكل ما يشكل عقبة في وجه الانطلاق والنمو والتجدد والاستمرار، أي كل ما يعطل الاحتفال الذي هو بالأساس ظل الحياة وملحها وقوامها).
ولقد اعتقد قدماء المصريين أن الإنسان مجرد جسد، وأن هذا الجسد يمكن تحنيطه والمحافظة على صورته، ولقد بقي لنا من الماضي كثير من الذكريات ومن الصور ومن المشاهد، ولكن أين هي الحياة فيها؟
ولمن يبشر بمسرح الصورة، نقول له ما يلي: في مسرحكم كثير من الصور، ولكن أين الروح فيها؟ واين هي حرارة الحياة؟ واين هز الحرك؟ وأين هي الطاقة المحركة لها؟
والأصل في الصورة انها شيء من الأشياء، وأن هذا الشيء يمكن أن يعرض على الناس، ويمكن أن يدخل السوق، وأن يكون سلعة من السلع، وهذا غير الاحتفال الذي هو أساسا وجود حسي، وهز حياة وحيوية، وهو فعل وفاعلية، وهو حالات صادقة في وجود صادق، وهو لحظة حية في الزمن الحي، وهو التلاقي في الآن هنا، وهو التعدد الذي يفيد الغنى، وهو الاختلاف الذي يؤسس الأفكار والمواقف الجديدة والمتجددة.
ولقد اقترح الاحتفاليون استبدال كلمة العرض بكلمة الاحتفال، ودعوا إلى جعل كل مكان يلتقي فيه الناس بالناس مسرحا، ورأوا بأن المسرح المفتوح من جميع الجهات لا يحتاج إلى منصة عالية، ولا يحتاج إلى كراسي، ولا يحتاج إلى جدار وهمي, ولا يحتاج إلى ستائر، ولا يحتاج إلى حفرة الملقن، ولا يحتاج إلى دقات ثلاث، ولا يحتاج إلى التنكر والإيهام، ومن طبيعة النظام الاحتفالي في المسرح أنه يحرر الفعل المسرحي من قيوده ومن لزومياته الزائدة، ويحرر الجمهور من التفرج ومن التلصص على حيوات الناس وهم داخل العلبة الإيطالية، وذلك بدل أن يتمثلوا في هذا المسرح حياتهم وحيويتهم،وأن يعيشوا اسألهم وقضاياهم الحقيقية، وأن يعيدوا طرحها للتفكير الجماعي، وأن يكون ذلك بالصوت العالي.
وفي العرض المسرحي يحضر الجانب العارض، والذي يمثله صانع الفرجة، وفيه أيضا فضاء بهندسة معمارية خاصة، والذي هو فضاء العرض، والذي قد يكون له معنى السوق أو معنى الدكان، وهذا إلى جانب وجود جانب آخر يمثله الشخص الذي نعرض له، والذي قد يكون له معنى الزبون في المسرح التجاري، ويكون له معنى الكتلة السياسية في المسرح السياسي والحزبي، والمفروض في المسرح الذي يشبهنا أن يكون احتفالا وعيدا، وأن يكون احساسا مشتركا، وأن يكون فرحا مقتسما.
كلمة للختام المؤقت
وأعود لهذه المسرحية التي خلخلت الساكن والجامد والراكد لأقول ما يلي، بأن هذه المسرحية هي بالتأكيد جزء صغير جدا، جزء كائن وحاضر وموجود، الآن هنا، وذلك داخل مسرح مغربي وعربي كبير جدا، وبهذا فهي، في معناها الحقيقي، مجرد اختيار صادق، هي اختيار فكري وجمالي واخلاقي، من بين مئات أو من بين آلاف الاختيارات الأخرى الممكنة، ولعل أجمل كل الاختيارات، وأصدقها، هي أن يختار المبدع ذاته، وأن يعرف طريقه، وأن ينحاز إلى ذاكرته وإلى وجدانه والى تاريخه، وأن يحدث الناس بلغة الناس في مسرح الناس، وأن تكون له رسالة إلى الناس، وأن يسعد الناس، وأن ينشر الفرح والبهجة في قلوب الناس، وأن يجعل من الاحتفال المسرحي وليمة فكرية وجمالية، وأن يكون مادبة حسية تخاطب في الضيف المسرحي كل حواسه، وأن تشبع عقله وروحه ووجدانه.
ولأنه لا وجود لنموذج مسرحي، كامل ونهائي ومتكامل، فقد كانت هذه المسرحية مجرد خطوة واحدة فقط، وذلك في رحلة الألف ميل، وهي خطوة ثابتة في طريق المسرح، وعلى أرضه وتربته، ولكنها أبدا لا يمكن أن تكون هي كل الطريق، أو هي نهاية الطريق، لأنه، في العلم، كم في لفن والفكر، لا وجود إلا للبدايات الجديدة والمجددة والمتجددة، ولهذا فإنني اليوم، وأنا أكتب في صفحتي عن هذه التجربة المسرحية، فإنني أحاول أن أرى الكائن والموجود في هذا اليوم. وأن أتوقع مجيء الممكن غدا، وأن أحاول أن أتنبأ بالخطوات الأخرى التي سوف تأتي بعد هشه الخطوة الأساسية والمؤسية لما بعدها.
نحن إذن أمام مسرح يبحث عن ذاته، وببحث عن حقيقته، ويبحث عن لغاته، ويحث عن علمه، ويبحث عن فقهه، ويبحث عن مصادره وعن مراجعه، ويبحث عوالمه وأكوانه الكائنة والممكنة.
وبحق لي أن أقول ما يلي، هناك فرق كبير بين مسرحي يبني مسرحيات جديدة، وبين مسرحي آخر يشتغل في إطار مشروع واسع وعريض وكبير جدا، وذلك لتأسيس مسرح مغربي وعربي جديد.
ولعل ما يميز أمين ناسور المخرج، هو وجود ثوابت فكرية في مسرحه لا تتغير، وإلى جانبها توجد متغيرات وتنويعات كثيرة جدا، وتوجد منعطفات في طريقه، وتوجد مفاجأت سحرية في اشتغاله الإبداعي المتجدد، وفي هذا المعنى يقول المخرج امين ناسور لقناة “ميدي 1” المغربية ضمن فقرة ثلاثة أسئلة ما يلي: مسرحية تكنزا.. قصة تودة (هي مشروع يدخل في إطار المشاريع الكبرى لفرقة فوانيس من ورزازات)، وبهذا تكون هذه المسرحية ثمرة شراكة بين جهتين، بين مخرج يبحث عن مسر،حه، وبين فرقة مسرحية تبحث عن مسرحها، والذي هو بالتأكيد مسرحنا جميعا، شىنا أم أبينا، وهذا ما يؤكد الترحيب الكبير بهذه التجرية، مغربيا وعربيا، لأنها تمسرح تفكيرنا وخيالنا، ولأنها تقول كل ذلك الذي يريد أن يقوله كل واحد منا.
إما اسماعيل الوعرابي. وهو أحد كتاب هذه المسرحية، إلى جانب المخرج أمين ناسور، والسينوغراف د. طارق الربح، فإنه يقول عن هذه التجربة (آمنا بمخيلتنا في صياغة عرض مسرحي يحمل هويتنا، وراهن على تمغربيت الأصلية كرافد الإنعاش الممارسة المسرحية المغربية).
وهذا المسرح الشعبي، في بساطته الغنية والعميقة، هو الذي أنفقت العمر كله أبحث عنه، ومن حسن حظي أنني في هذا المسعى النبيل لم أكن وحدي، وأعتقد أن مثل الفعل، في صورته الجادة والمجددة، هو الذي يمكن أن يصالح الجمهور المغربي والعربي مع مسرح يشبهه في كل شيء، في الكليات وفي الجزئيات، وفي المواضيع والمضامين، مسرح يحاكي الحياة، كما هي هذه الحياة، في عنفها وعنفوانها، ويحكي المعيش، كما هو ظاهر وخفي في حياتنا اليومية، مسرح سمته الأساسية الجراة والمخاطرة، في الحق والحقيقة، وفي العلم والفن والفكر، وفي كل الصناعات الإبداعية المختلفة، مسرح يعتمد على العقل المفكر، بدل الاعتماد على النقل السهل، ويقوم على الإبداع بدل الاتباع، مسرح متعدد الأبعاد، له سطح ظاهر، وله جوهر خفي، وله مسيرة ومسار، وله خط فكري وجمالي واخلاقي ظاهر وبين، وله حركة ومحرك، وله طاقة فكرية وجمالية ووجدانية وتخييلة محركة، مسرح يعرف نفسه أولا، ويعرف محيطه وبيئته ثانيا، ويعرف طاقته الروحية المتجددة فيه، ويعرف حدود عبقريته، والتي هي جزء من عبقرية هذه الأرض، مسرح يعمل من أجل أن يعكس الجانب الحقيقي في المعيش، وذلك إلى جانب الاهتمام بالجانب الواقعي والطبيعي، وأن يقدم للعالم صورة حقيقة لواقع تاريخي حقيقي، وأن يعكس صورة هذا العالم الحقيقية، وأن يطرح اسئلته الحقيقية، بعيدا عن استظهار المقروء في الكتب، وبعيدا عن الإشكاليات المغلوطة، وما أكثرها، وأن يبتعد، بالقدر المستطاع، عن أكذوبة موت المؤلف وعن أكذوبة الحداثة وما بعد الحداثة وأكذوبة ما بعد الدراما.
وفي أخر هذه الورقة، فإنني أحيي الفنان المثقف أمين ناسور، وأحيي رفيقه في السفر الإبداعي والملحمي الدكتور طارق الربح، وأحيي الفنانة الصادقة والأنيقة هاجر كريكع، والتي أبدعت وأقنعت وأمتعت، وأحيي كل رفاقهم في مدينة ورزازات، وأيضا، في كل المدن التي مر منها الثنائي أمين ناسور وطارق الربح، وتركا بصمتهما الإبداعية فيها، وأحيي كل الأسرة التي قدمت مسرحية (تكنزة.. قصة تودة).
Visited 19 times, 1 visit(s) today