قصة قصيرة: أنين
حسن يارتي
– “اعذرني يا سيدي. فأحيانا تخذلني ذاكرتي وهي على قطار العودة إلى أيام الصبا. لا أشعر إلا وقد هربت دموعي مني اشتياقاً لأيام ما ظننتها تبيد أبداً.
ألفت الاستيقاظ باكرًا. أرتشف قهوتي الدافئة قبل أن أرتمي في حجر أمي لتمشط شعري برفق استعدادًا لذهابي إلى الجامعة. أحيانًا كانت تضفر لي جدائل طويلة كما تُضفر للأميرة التي سمعت قصصها باستمرار من أبي منذ الصغر قبل أن يداهمني النعاس.
تحملني خطواتي المستعجلة كل صباح نحو ذلك المقعد بالذات؛ بجانب مقعده حيث تعودت الجلوس، بينما تعود هو على مداعبة شعري بلطف قبل أن يكتظ المدرج. عشقت طلته البهية وكل تفاصيله وأنا أترقب تحركاته، خصوصا نظرته تلك التي مازالت تقتحم منامي حتى الآن. لم أكره شيئًا قطّ مثلما كرهت نهاية الحصص وأيام العطل التي كانت تأشيرة لعوالم الشوق والوحدة.
امتزجت الألوان الزاهية بحياتي الرتيبة وألحان الحب عُزفت على أوتار العود السّاكن بدواخلي، لتتشكل لوحة جميلة عندما طلب مني ذات صباح زيارته في بيته بحجة المذاكرة. لم أدرك حينها أنني سأتعود على ما سيحدث حتى غدت تلك المشاعر المتقدة أثناء خلوتنا جزءً لا يتجزأ من عالمي. ذاك الذي انهار دون سابق انذار عندما أعلمني أنه سيرحل لبلد ثان وأن أنسى ما حصل.
تشوهت اللوحة قبل أن تكتمل بزغاريد أمي معلنة تقدّم رجل لخطبتي وخبر انهيار عالمي في آن واحد، لأجد نفسي حافية القدمين على جانب الطريق ألوّح بذعر لأول سيارة عابرة تُقلني إلى مدينة مجهولة حيث دفنتُ وأنا حية.”
هكذا تسرد قصتها كل يوم وهي مستلقية على فراش العار تأن وتجعل من بؤسها تسلية لكل زبون مخمور بينما ينشغلون هم بنهش جسدها.