من حكايات الصّبابَة والعِشْق والجَوىَ فى “عيد الحبّ” والهوىَ

من حكايات الصّبابَة والعِشْق والجَوىَ فى “عيد الحبّ” والهوىَ

 د. محمّد محمّد الخطّابي

    وضع الكاتب الاسباني أنتونيو دي فييجراس Antonio De Figueras عام 1565 في مدينة “ريّال كامبُو”، Real Campo  كتاباً طريفاً جمع فيه مجموعةً من القصائدَ والحكايات والقصص الكلاسيكية عن الحبّ والصّبابَة والعِشْق والجَوىَ، وحقق الكاتب الاسباني بهذا الكتاب شهرة واسعة فى الأندلس، وفى سائر أصقاع شبه الجزيرة الإيبرية فى القرن السادس عشر، ولقد استوحى المؤلف كتابه من نصوص بعنوان “حكايات الأمير الماجد ضون فرناندو الذي إسترجع أنتيكيرا”، ونجد فى هذا الكتاب قصّة حبّ رومانسيّة حالمة عن أسمىَ مراتب الشّهامة، والولاء، والنبل والوفاء، والتيم العميق في عهدٍ كانت الكلمة فيه تُحترم، وكان العهدُ لا يُنكث حتى مع الخصوم، وقصّة من هذا القبيل جديرة بأن تُحكىَ هذه الأيام في عيد الحبّ  إذا افترضنا أنّ للحبّ عيداً لأنّ هذه الحكاية  ترتفع بالحبّ وبأهله وذويه وأصحابه إلى أعلى علييّن.

   يحكي لنا المؤلّف في كتابه قصّة حبٍّ موريسكية عميقة المعنى، بعيدة الغور عن فارس أندلسيٍّ نبيل يُدعى إبن السرّاج الذي كان مُغرماً بحبيبته ذات حُسْن باهر، وجمال ظاهر وكان اسمها ”شريفة” وقع هذا الحبّ فى خضمّ ظروف صراعاتٍ عصيبة ساد فيها التطاحن والقتال والمواجهات العنيفة، وعشعشت فيها الضغائن واستشرت الأحقاد بين مختلف العوائل والأسر الحاكمة من الجانبين العربي الإسلامي وبين الإسبان النصارى، ومع ذلك إنتصر الحبّ الذي كان محصّناً بالعفّة والصّدق والوفاء وسط هذه الأجواء الحالكة والمحن والمُدلهمّات. وهذه القصّة تظهر في العديد من الحكايات والكتب الرومانسية في ذلك العصر، وتكمن قيمة عمل “أنتونيو فييجراس” في إحياء هذه القصّة وإعادة نشرهاعلى أوسع نطاق، وقد قدّمها في قالب قصصي مشوّق، وتسجّل هذه القصّة المشاعر السامية الشفيفة، والأحاسيس المرهفة العفيفة لبعض النبلاء الإسبان في ذلك العصر وفي العصور التي جاءت فيما بعد، ولا نستغرب اذا وجدنا الكاتب الإسباني العالمي “ميغيل دي سرفانتيس” قد أثبت في روايته الشّهيرة “دون كيخوته دي لا مانشا ”  هذه الحكاية الطريفة.

الحبّ والحرب

   تحكي لنا هذه القصة أنّ إبن السرّاج كان قد وقع في أسر الفارس الإسباني النبيل ”رودريغو دي نارفايس” Rodrigo De Narváez عمدة مدينة “أنطيكيرا” Antequera التي تبعد عن مدينة غرناطة بحوالي ثمانين كيلومتر، وعندما رأى نارفايس الفارسَ العربيّ المسلم خلال سجنه غارقاً في حُزنٍ عميق سأله عن سبب كربه وغمّه ووُجومه، فحكى له ابن السراج قصته وهي أنه وقع في الأسر قريباً من المكان الذي كانت تنتظره فيه محبوبته شريفة لعقد قرانه عليها، عندئذٍ قرّر الحاكم الإسباني النبيل إبرام اتفاق مع الفارس العربي الحزين بإطلاق سراحه بشرط واحد أن يُقدّم له وعداً بأن يعود للسّجن متى إلتقى بخطيبته شريفة وعقد قرانه عليها فوافق ابن السرّاج على الفور على هذا الشرط وقدّم للحاكم وعداً بذالك، ثم إنطلق للبحث عن شريفة وعند إلتقائه بها تزوّجها سرّاً، إلاّ أنّها عندما عرفت قصّة خطيبها وسوء الحظ الذي وقع فيه قرّرت ألاّ تفارقه، وأن تصحبه إلى السّجن،ولم يتوان ابن السرّاج فى العودة إليه على الفور وفاءً منه للعهد الذي قطعه على نفسه مع الفارس الإسباني حاكم أنطيكيرا الذي عندما وجد الفارس العربي قد عاد اليه، ولم تشأ زوجته شريفة فراقه بل قرّرت مرافقته في السجن، عندئذٍ فكّر الفارس الاسباني كيف يجازي ” ابن السرّاج” على وفائه واحترامه للوعد الذي قطعه على نفسه معه، ويكافئه وزوجته شريفة على إخلاصهما ووفائهما فأطلق سراحهما على الفور.

ابن السرّاج مُعاصرُنا

   يشير المؤرّخون أنّ قبيلة بني سرّاج هي إحدى القبائل التي تنحدر من المغرب التي كان لها شأن كبير وبارز في مملكة غرناطة في القرن الخامس عشر. ويُقال إنّها تُنسَب إلى يوسف بن سرّاج رأس القبيلة في عهد السلطان محمد السّابع، وقد أورد هذه الكلمة الباحث المصري الدكتور عدلي طاهر نور في معجمه القيّم “كلمات عربية في اللغة الإسبانية”، وما زالت هناك عوائل تحمل هذا الاسم في العديد من المدن المغربية في المقام الأوّل، ولعلّه موجود كذلك ولا شكّ، في الشقيقتين الجزائر وتونس، وفي سائر البلدان العربية الأخرى إلى يومنا هذا.

ويؤكد الكاتب المصري الدكتور عدلي طاهر نور إلى أنّ هذه الحقبة اشتهرت في تاريخ الأندلس بالصّراع الدامي الدّائر بين الملوك وبين الأسر القويّة من ناحية، وبين تلك الأسر فيما بينها، خصوصاً بين أسرتيْ بني سرّاج وبني الثغري من ناحية أخرى، وكان النزاع الأخير من أسباب التعجيل بسقوط غرناطة.

ويذهب الباحث الكبير والمؤرّخ الجهبذ في تاريخ الأندلس الراحل محمد عبد الله عنان، صاحب الموسوعة الضّخمة (دولة الإسلام في الأندلس) من جهته إلى “أنّ أصل عائلة الن السرّاج يرجع حسبما يشير المقرّي إلى (مذحج وطيّ)، وهي من البطون العربية التي وفد بنوها إلى الأندلس منذ الفتح الإسلامي، وكان منزلهم في مدينتي قرطبة، ومُرسية؛ بيد أنّهم لم يظهروا  على مسرح الحوادث في تاريخ إسبانيا إلاّ في مرحلته الأخيرة، أعني في تاريخ قرطبة”.

وقد حيكت ونُسجت وصيغت حول تلك الأسرة العديد من القصص  والحكايات والأساطير الكثيرة وهي جميعها من وحي رومانسي، موريسكي، أندلسي تناولها أكثر من كاتب،في كل عصر ومصر، ولا تزال هذه الأساطير إلى يومنا هذا تملأ أرجاءَ قاعة بني سرّاج في قصر الحمراء الشهير ، فتقول إنّ أبا عبد الله أباد أسرةَ بني سرّاج في تلك القاعة، وقيل إنّ السلطان أبا الحسن هو الذي عمد إلى تدبير هلاكهم واندحارهم واستئصال شأفتهم.

وصَايا ابن حزم في العشق

   هذه المواضيع تدخل فى صلب الإحساس العاطفي الذي كان الأقدمون ينعتونه بمسميّاتٍ جميلة مثل الغزَل، أو النسيب، أو التشبيب، ومنه العذري العفيف ،والإباحي الشفيف، إنها مواضيع على الرّغم من مرور الزمن ، وانسياب السنين ما فتئت على أيامنا الغارقة فى الماديات، والتكنولوجيات المتطوِّرة والمُحيّرة تُحيي الرُّوحَ، وتجذل القلبَ، وتُنعش الوجدانَ، والتي كان لها حضور قويّ فى تراثنا العربي والأندلسي القديم على وجه الخصوص. إننا واجدون فى هذا التراث الزاخر كتاباً فريداً فى بابه، يُعتبر من أروع ما كتب فى هذا الموضوع للعلاّمة الفقيه الشّاعر ابن حزم الأندلسي فى مؤلّفه الشهير “طوق الحمامة فى الألفة والألاف”، وهو كتاب يُعالج تباريح الحبّ والهوىَ، وعذابات التّيم، والعِشق فى الأندلس، ولقد أصبح هذا المؤلّف من بين أشهر الكتب التي وُضعت فى الاندلس خلال عهودها الزاهرة، تناول فيه صاحبه موضوع الحبّ وما تعتري صاحبَه من ظواهر الإنفعال، والتغييرات التي تغشاه، وتأخذ بمجامعه ومعروف لدى القاصي والداني مدى التأثير البليغ، والأثر العميق اللذيْن أحدثهما هذا الكتاب فى آداب القرون الوسطى، سواء عند العرب أو فى العالم الغربي على حدّ سواء.

أمارات الحبّ وأعراضه

   تقول الأديبة الأردنية الأستاذة  ديانا نصار في قراءةٍ متأنية لهذا المؤلَّف الفريد: ”هذا الكتاب ألَّفه واضعُه نزولاً عند رغبة صديقٍ مُحبّ طلب منه أن يصنف له (رسالةً في صفة الحبّ ومعانيه وأسبابه وأعراضه، وما يقع فيه وله على سبيل الحقيقة). وهذا يدفع إلى أذهاننا التساؤل الأوّل: هل من الممكن فعلاً أن يُعرَّف الحبّ وتُقسَّم معانيه وأعراضُه وأنواعه والمشاعر المتعلقة به وأن يُصنّف في كتابٍ أو رسالة؟”. وسرعان ما يأتينا الجواب الشّافي من الكاتبة فتقول: ”بالرغم من غرابة الفكرة فقد انتهج ابن حزم منهجاً علمياً بحثياً في تقسيم الرسالة. حيث عمد إلى تقسيمها إلى ثلاثين باباً: عشرةٍ في أصول الحبّ، واثني عشر باباً في أعراض الحبّ وصفاته المحمودة والمذمومة، وستةٍ في الآفات الداخلة على الحبّ، واختتمها ببابين تحدث فيهما عن قبح المعصيّة وفضل التعفف”.

وتضيف الباحثة: ”هناك آراءٌ واجتهادات. أبرزها أن يكون الاسم مبنياً على فكرة الديمومة والثبات؛ كقول العرب: “أبقى من طوق الحمام”. أو أنه يحمل دليلاً على معاني الزّينة والحلية واستلهام الجمال الذي هو مثار الحبّ. أو – بكلِّ بساطةٍ ممكنة – أن الحمامة هي رسول الحبّ والهوىَ، والطوق حليتها وزينتها، أو الأمانة المعقودة في عنقها لحملها من العاشق إلى المحبوب  المعشوق”.

يصف ابن حزم  في كتابه الشهير الحبّ فيقول: “الحبُّ – أعزّك الله – أوّله هزلٌ وآخره جدّ، دقّت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تُدرَك حقيقتها إلاّ بالمعاناة. وليس بمنكرٍ في الديانة ولا بمحظورٍ في الشريعة، إذ القلوب بيد الله عزَّ وجل”. وتشير الباحثة: “يكفينا هذا الاقتباس لملاحظة النزعة الدينية والقالب العقلاني الذي طغى على غير موضعٍ في هذه الرسالة”. وهي تتساءل: ”إن كان ذلك نابعاً من خلفية ابن حزم وفكره الديني، أو من حقيقة أنه كتب الرسالة رداً على طلبٍ من صديق؛ وبالتالي فقد كانت أشبه بالتوثيق والتوصيف العلمي، وأنها لو كُتبت في فترة أطول وفي وقتٍ مختلف من حياة ابن حزم لكان محتواها أو طريقة عرضها اختلفت عن المضمون الحالي”. وتضيف: أصل الحبّ عند ابن حزم ”اتصالٌ بين أجزاء النفوس المقسومة في هذه الخليقة في أصل عنصرها الرفيع”؛ حيث يرى أنّ المحبّة ضروب: محبة المتحابين في الله عزوجل، ومحبّة القرابة، ومحبّة الألفة، ومحبّة التصاحب والمعرفة، ومحبّة البِرّ، ومحبّة الطمع في جاه المحبوب، ومحبّة المتحابين لسرٍّ يلزمهما ستره، ومحبّة بلوغ اللذة، ومحبّة العشق التي لا علّة لها إلاّ اتصال النفوس”، هي المحبة فى رأيه هي الوحيدة التي لا تفنى ولا تزيد ولا تنقص كأنواع المحبة الأخرى. يحتوي كتاب طوق الحمامة على قصصٍ وأخبارٍ شهدها ابن حزم أو نُقلت إليه. فقد تربىّ في وسط يزخر بالنساء والجواري، وهنَّ من علّمنه وأدّبنه حيث اطلع على أسرارهنَّ وخباياهنّ “.

شيخ المستعربين الاسبان غارسّيا غوميس وطوق الحمامة

   في هذه الايام التي لا حديث للناس سوى عن الحب والهولى والصباة والجوى ما أحوجنا إلى العودة  لنبش تراثنا العريق،وقراءة تاريخنا العتيد، والإستمتاع بدرره، وصدفاته، ونفائسه، وداناته وجُماناته التي أُعْجِب بها الغربُ قبلنا ، يقول شيخ المستعربين الاسبان الكبير ”إميليو غارسيا غوميس” عند تقديمه لترجمة كتاب “طوق الحمامة” إلى اللغة الإسبانية تحت عنوان: Collar de Paloma: ”أنّ الحبّ العذري دخل الأندلس حوالي 890م. وكان لابن حزم نفسه تأثير واضح، وبليغ في هذا القبيل خاصّة في البلاطات الأوربية الرّاقية”. ومعروف أنّ هذا العالم الأندلسي الجليل قد سبق وبذّ بقرون علماء النفس الأوروبيّين المعروفين أمثال “كارل كوستاف يُونغ”، و”ألفريد أدلر”، و”سيغموند فرويد” وسواهم ممّن على شاكلتهم بملاحظاته العلمية الدقيقة، وتفسيراته العميقة، وتحليلاته  الدقيقة للأمارات والتغييرات التي تعتري الحالات النفسية للعاشقين المتيّمين، في كتابه الآنف الذكر الذي تُرجم إلى العديد من اللغات الحيّة – كما هو معروف- ولقي فيها نجاحاً وإنتشاراً منقطعيْ النظير. وهكذا فإنّ كتاب “طوق الحمامة” سيظلّ بالتأكيد كتاباً لا يخلو من المتعة والفائدة والأخبار العجيبة عن الحبّ، والصّبابة والجوىَ في سائر أنحاء العالم في كلِّ زمانٍ ومكان وفى كلّ عصرٍ ومصر.

Visited 4 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد محمد الخطابي

كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الاسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا