قصة قصيرة: حكاية جميلة الجميلة

قصة قصيرة: حكاية جميلة الجميلة

حسن البقالي

     خلال تلك الثواني القليلة التي تحتاجها كتلة جسم كجسمها كي تصل إلى عمق بئر من ثلاثين مترا تناوشتها خواطر متضاربة ومشاعر فياضة وصور من الذاكرة. فكرت بداية في أن الحياة لا تعطي إلا كي تأخذ وقالت: هذه نهايتك يا جميلة، ثم أغمضت عينيها.

إغماضة خاطفة سبقت واقعة الارتطام المنتظر بأرض البئر دفعت خلالها فكرة النهاية ورأت أنها ريشة طائر في حلم وأن البئر أرض خصبة بأمداء شاسعة ووعود بلا حصر، وفكرت في أن الريشة لا يقتلها التحليق

يد آثمة دفعتها إلى السقوط

وهي بين الخيبة والرجاء تحسست أعضاءها فما وجدت أثرا لعطب. كأن يدا ثانية من قطن ورحمة تلقفت جسدها المتهاوي وأوحت له: لم يأت أوان اندثارك بعد

يد دفعتها ويد لامرئية تلقتها

وهي في قعر بئر جاف مهجور وثمة شمس في الأعلى جانحة إلى الغروب وكأن لسان حالها يقول: عومي في بحرك يا جميلة.

***

هي صغرى أخواتها من أب فقير وأم مجبرة على الصمت، تغزل الصوف وتحيك لحبيبها كنزة لأيام البرد، الحبيب الذي يربي الزرازير ويتهيأ لحفل الزفاف

في البداية أرسل إليها زرزوره الأثير الذي اسمه “رسول”، حط على كتفها ووشوش لها بالرسالة. كان قلبها يدق بشكل غريب ويدها تشتغل على المنديل الأبيض بالتطريز، كلمة وحيدة طرزت بالأحمر الزاهي: “رجب”

حفرت اسمه على المنديل وحفر اسمها على صفحة القلب: “جميلة” ونقل الزرزور الرسالة. وأبوها الذي يربت على الكتف الأخرى بحب غامر ويقول لها: أنت في كفة وأخواتك في كفة، بينما هي تود أن تقول: كلنا فلذات كبدك يا أبي.. ما لي لهن وما علي عليهن، لكنه يكون قد مضى إلى حال سبيله، فليس للفقير أن يركن إلى الراحة.

والأخوات خلال كل ذلك يترصدن بعين الريبة والحسد ويدبرن المكائد

– وهيا يا أختنا نمرح في الخلاء، قرب البئر المهمل

***

عدن إلى الدار مساء فقال الأب: أين جميلة؟

كانت الأم تنصت وحيطان الدار وأشجار السنط الطالعة في الأنحاء حين أجبن: وما يدرينا أين تكون جميلة؟ لعل الزرزور حرضها على لقاء الحبيب أو أن هاتفا شجعها على الرحيل، لقد كانت تتحدث دوما عن جزر بعيدة أو أن الذئب…

أدرك الأب ما يتوارى خلف الثرثرة من يد للغدر ومن حماقة

– أين جميلة أيتها الملعونات؟

والأم المجبرة على الصمت كادت تنطق من اختلاج الصدر بالهلع وودت أن تغالب عجز القدمين وتركض في الفلاة تسأل كل كائن تلقاه أين جميلة؟

***

أجمل منهن

وأطيب قلبا

وضع لا يروق الأخوات بالضرورة، بل يحفر في قلوبهن خنادق من مرارة 

***

وجميلة من داخل البئر تبعث بأسئلتها إلى الهوام: لماذا ألقت بي أخواتي هنا وعدن نشيطات إلى الدار؟ أيكن نادمات؟ ويكن الآن في الطريق إلي يخرجنني ضاحكات وهن يرددن: كيف وجدت مزاح الأخوات؟ فأنسى ألم السقوط وخوف السقوط وأحمد الله على اليد اللامرئية التي كانت هنا تحسبا لسقوطي؟

وها أذكر الحكاية أنا المولعة بالحكايات، فكيف أنساها؟

“كانت جميلة أيضا فوارتها أيدي الغدر التراب، وكانت ستموت حتما خلال زمن يسير لولا أنه كان هناك. أخرج الجسد النائم من تحت التراب وأسكنه بيته. كان يسكن بئرا وحين أفاقت رأت الوحش ورأت البئر فقال: لا تخافي.. أنا وحش طيب لا أؤذي أحدا ولن أؤذيك أبدا

آنست إليه وعاشت معه زمنا داخل البئر، لولا أن للبئر بوابة سرية تنفتح على حديقة قصر أمير

وكانت إذا خرج الوحش يطلب أسباب العيش تدلف عبر البوابة إلى الحديقة، حتى علم بوجودها الحراس وطالبات النزهة والأمير

وأحبها الأمير

وكانت للحكاية نهاية سعيدة” 

***

هي لا تحب أميرا

هي تحب مربي زرازير

وتأمل في بوابة سرية إلى حديقة أو إلى السماء

***

رجب كان يشعر بقلق شديد فسأل الزرزور رسول أين جميلة؟ لم يكد يكمل جملته حتى عنّ له الأب يركض باتجاهه وهو يردد أين جميلة؟ كانت مع أخواتها فعدن مساء ولم تعد. أخواتها يحسدنها يا رجب وأنا أبوهن يؤلمني ذلك

– يا ويحي

صاح رجب، أيكنّ قد أقدمن على فعل لا منجاة بعده؟ أيكنّ؟ أيها الزرزور رسول طِر، حلق في سماوات الله ولا تعد إلا بأخبار الحبيبة

وحلق الزرزور في سماوات الله وبعينيه مسح الأرض وبأذنيه ابتلع الأصوات ” هل يكون الهدهد أفضل مني؟ هل يأتي بالأخبار وأفشل في ذلك؟ لوجه جميلة نور وعلي أن اتبع خيط النور”

أبعد من أشجار السنط، وبمعزل عن الطريق المتربة التي تؤدي إلى ممالك ومهالك، إلى مدائن ومداشر يسكنها بشر آخرون وحيوانات داجنة وزرازير، يقع البئر المهجور. بمجرد ما لمحه الزرزور قال: لا بد أن يكون السر في البئر. وعلا صوته بتغريد تعرفه جميلة حق المعرفة، تغريد عذب وفصيح، تغريد يقول: أنا رسول رجب إليك يا جميلة.. أنا الذي يقف على كتفك ويناغيك كما لو أنك طفلته/الزرزورة قبل أوان التحليق.

قالت جميلة: أنا أحب رجب وأحبك أيها الرسول وأبوي وأخواتي أيضا وكل الكائنات. لقد تلقفتني يد لا مرئية ودفعت عن سقوطي العطب.

أحاط بجميلة الأحبة والأخوات النادمات، واحتفلوا بزفافها إلى مربي الزرازير.

Visited 19 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

حسن البقالي

كاتب مغربي