السياسة المدنية والأخلاق والتكنولوجيا..!
محمود القيسي
“أنتِ خائفة عليّ، لأن آلاف الأطنان تنهال على رأس شخص وحيد على بعد آلاف الأميال. أنا خائف عليك، لأن جنودًا يلبسون سترات سوداء، يضربون الشباب في ميدان يبعد عنك بعشرين ميدانًا. هو خائف علينا، لأن قاذفة ستقتل شاعرًا راهنا عليه في شط العرب. هما خائفان علي فكرة البيت، لأن النيران الذكية ستصهر خاتم الخطوبة. هم خائفون علي عيون البنات، فبدونها لن يستطعن البكاء إذا هاجر المحبون. نحن خائفون عليهم، لأن التكنولوجيا تشفط الأرغفة. الخائفون مئة، أولهم زبائن البورصة”.
*قصيدة التكنولوجيا
“السياسة المدنية هي تدبير المدينة بما يجب بمقتضى الأخلاق والحضارة”… لا أدري أو أدري إن الأخلاق في عصرنا الحديث لم يعد لها مكان أو لم تعد موجودة إذا صح التعبير! نحن نعيش في عصر الذكاء الاصطناعي أو عصر “الغباء الاصطناعي”.. عصر التكنولوجيا والتقنية المتطايرة التي تدفعنا الى موتنا بدلًا من أن تدفعنا الى الحياة!!
يؤكد الفيلسوف الألماني ”يورغن هابرماس” أن التكنولوجيا تحولت إلى أيديولوجيا، والاستهلاك من أهم مرتكزاتها، فكل شيء قابل للاستهلاك، وهو ما يفرض خلق رغبات دائمة ومصطنعة لهذا الانسان المستهلك، فزادت الشراهة في مجال الاستهلاك الرقمي، الذي جعل الإنسان أسيرًا للحظة الراهنة التي يشاهدها، ويغوص في عالمها الافتراضي.
كما أن التكنولوجيا في العصر الرقمي ليست محايدة من الناحية الأخلاقية والثقافية، فكل تقنية جديدة تأتي بثقافتها، وتأثيراتها السلوكية، حتى وإن كانت في المجال الصناعي، ففي بعض المجتمعات أثرت ميكنة النسيج على الترابط الاجتماعي، القائم على شيوع “أنوال النسيج” التي كانت تخلق وشائج قوية، فتسللت ثقافة جديدة سمحت بتغييرات اجتماعية، كذلك الرقمية، لا تعرف الحياد الأخلاقي، فهي أشد توسعا وتأثيرا على الإنسان، حتى بات يطلق على العصر الذي نعيش فيه هو “عصر الشاشة”، التي تقف في وجه الإنسان أينما التفت.
نعم، التكنولوجيا ليست محايدة.. لقد أصبح الإنسان أسيرًا للشاشة لا يستطيع أن يستغني عنها، فنشأت عبودية جديدة.. عبودية لها أخلاقها وثقافتها التي ترسخها وتحكمها.. هذه الخطورة الرقمية على الأخلاق تحتاج إلى منظومة أخلاق تعالج آثار تلك التقنية، ففي مسار الأخلاق في العصر الرقمي لكل تقدم مشكلاته الأخلاقية، فالفرد الذي ينعزل بهاتفه الذكي بعيدًا عن الأعين، بات في حاجة إلى كوابح أخلاقية قوية، كوابح جديدة في مفهوم الثقافة الأخلاقية.. والتنبيه من الانعزالية الفردية التي تتحول بدورها إلى انعزالية إجتماعية ومجتمعية.
عرّف الصحفي النمساوي روبرت ميسيك Robert Misik الإنسان بأنه “كائن متسوق” بعدما أصبح الاستهلاك أحد معايير تحديد الهوية، بل جزءا من البنية الحياتية المعاصرة، وأحد وسائل بناء الهوية، فالهوية تتحدد بنوعية وكمية الشراء. وتحدث الفيلسوف البولندي “زيجمونت باومان” في كتابه “الأخلاق السائلة” أن القيمة العليا التي تحكم الحياة حاليًا هي الاستهلاك، والاستهلاك لا يحتاج إلى ضوابط ولكن يحتاج إلى إطلاق للرغبات من عقالها، فالرغبة تحفز الانسان للتخلص مما في يديه لشراء الجديد، لكن ألمح باومان إلى أن ذلك أدى إلى عدم اليقين، والحقيقة أن الانسان إذا كان خواء من الداخل صفرت فيه كل ريح، إذ تغيب القيم الضابطة والأخلاق الحاكمة لسلوكه، وتقتصر رؤيته على ما يستهلكه.
الرأسمالية، أو “التكنولوجيا الرأسمالية” تقود العالم إلى الانحراف نحو تحويل الحياة إلى الاستهلاك، وانعكاس ذلك على الأخلاق، فالاستهلاك الرفاهي خطير على الأخلاق، وأغلب الاستهلاك الرقمي، جعل باطن الإنسان يتآكل لصالح الشاشة، والصراع من أجل الرفاهية لا يبدو أنه يقترب من نهايته؛ بل إنه يتزايد بنسب متضاعفة، فكل نقطة “تقدم”، تثير الشهية إلى نقطة “تقدم” أخرى أعلى منها، وهكذا بحيث يمكننا القول بأننا بصفة عامة نكرس وقتًا أطول للبحث عن أسباب راحتنا، أكثر من الوقت الذي نستمتع فيه بالراحة. ولكثرة انهماكنا في هذا الإتجاه فإن ما كان مجرد وسيلة أصبح غاية حقيقية نجري وراءها. والغاية تبرر الوسيلة.. مما يجعلنا نقرر أن هذا الحرص الجامح على السعادة المادية يعتبر انحرافًا من الضمير في عصر الآلة.. أو عصر الضمير الغائب.
إذا كنا نعتقد أنّ حياتنا اليومية هي في الواقع مجرد محاكاة تم إنشاؤها بواسطة جهاز كمبيوتر قوي، كما هو الحال في فيلم “ماتركس” الشهير، فإن هذه الفكرة قد لا تكون ببساطة خيالاً علمياً، و”الأشعة الكونية” يمكن أن تكشف عن ذلك.. والسياسات الإمبريالية يمكن أن تكشف عن ذلك أيضًا وأيضًا.. نحن نعيش مرحلة صراع الإمبرياليات الكبرى في ماتركس (سوسيو/وجودي) تقوده مصالح تلك الرأسماليات الذي أصبح الصراع بينهما ليس مجرد حصة من هنا أو حصة إضافية من هناك. بل، صراع داخل ماتركس واحد..
ماتركس (تكنولوجيا “الغباء” الاصطناعي) التي وضعت كيمياء وفيزياء الأنسان في المرتبة الثانية أو المرتبة الثالثة او الرابعة او العاشرة.. والذي أصبح معها الصراع الوجودي بين “سام الأمريكي” و “التنين الصيني” في الماتركس السياسي المعاصر مجرد صراع على ما تبقى من هذا الكوكب البنفسجي الباهت.. مجرد صراع بين جسدين لا يتقن الواحد منهما لغة الأخر دون تدخل البرامج الآلية “الذكية” أو الغبية والتي تفتقد للعنصر الأهم وجودياً!؟… عنصر الأنسان وجوديًا.. ومصالحه الوجودية… لا أرض لجسدين في جسد كما قيل.. ولا منفى لمنفى في هذه الغرف الصغيرة كما يقال.. والخروج هو الدخول.
كتب جورج أورويل قبل عقود روايته الذائعة الصيت (1984م)، وربما لم يخطر بباله حينذاك أنَّه يستشرف مستقبل الأدب البشريِّ، وذلك عند حديثه عن قراءة الناس أدباً تكتبه الآلة، ويبدو أنَّ البشريَّة تسير بخطى متسارعة لتحقيق ذلك، إذ تطالعنا وسائل الإعلام يوماً بعد يوم بأخبار أدبٍ جديد تكتبه الآلة، الأمر الذي جعل الأوساط الأدبيَّة والأكاديميَّة تتحدث عن هذا الأدب الجديد (أدب الذكاء الاصطناعيِّ). “الذكاء الاصطناعي”: ما كان حلمَ الأمس، بات رعبَ اليوم، وخصوصا الغد، بصورة أكيدة وتوقعات مرعبة. هذا ما يقوله ويرجحه من يَعملون على استكشاف طاقات، بل إمكانيات هذا الذكاء: الإنسان، لا سيما الإلكتروني، يستولد آلة (في اختصار)، لكنها لن تلبث أن تهدد إدارة الإنسان لموارده وطاقاته.
قراء (الغيب الإلكتروني) يفحصون، ويستكشفون ما لها أن تؤول إليه الآلات الإلكترونية المصنُعة: لها أن تَدفع ملايين البشر إلى البطالة العاجلة… والاغتراب الذاتي.. والموضوعي كما ذكر “كارل ماركس” قبل مئتي عام… تعمل جوجل منذ سنوات مع جامعة ستانفورد وجامعة ماساتشوستس في الولايات المتحدة لتحسين مهارات اللغة الطبيعية لدى روبوتاتها، عن طريق تكنولوجيا للذكاء الاصطناعي تسمى النموذج الشبكي العصبي التكراري (RNNLM)، وهو نفس النظام الذي تستخدمه جوجل في الترجمة الآلية (جوجل ترانسليت) والتعليقات على الصور، هذا الروبوت قادر على بناء جمل بمعدل كلمة واحدة في المرة، عن طريق تحليل الكلمات السابقة في الجملة.
لقد تمكن الذكاء الاصطناعي من إكمال السيمفونية العاشرة لبيتهوفن، من خلال نموذج «دال -إي»، وهو برنامج يبتكر فنون طورته شركة «أوبن إيه آي» الأميركية مثلما قامت بتطوير «شات جي بي تي». ومن الممكن الآن لأي شخص لديه اتصال بالإنترنت، استخدام الروبوت لإعداد نص أدبي، مع إمكانية أن تقوم التقنية الأحدث بإرفاق صور مع النص. ويعد مثل هذا (الذكاء الاصطناعي التوليدي)، مخيفا جدا بالنسبة لبعض الأشخاص الذين يخشون من أن تكون الفنون أصبحت محاصرة من جانب الروبوتات.
لا تنكر الماركسية على الإطلاق أهمية (العامل الذاتي) في التاريخ والدور الواعي للبشرية في تطور المجتمع. يصنع الناس التاريخ لكنهم لا يفعلون ذلك باتفاق كامل مع إرادتهم الحرة ونواياهم الواعية. وبعبارة ماركس: (“التاريخ لا يفعل شيئا”، إنه “لا يمتلك ثروة هائلة” و”لا يخوض المعارك”. إنهم البشر، البشر الحقيقيون هم من يفعلون كل ذلك، هم من يملك ويتصارع؛ إن “التاريخ” لا يستعمل البشر كوسيلة لتحقيق أهدافه الخاصة، كما لو أنه شخص قائم بذاته؛ إن التاريخ ليس سوى نشاط البشر الذين يتبعون أهدافهم). إن إنكار التقدم في التاريخ من سمات نفسية البرجوازية في مرحلة الانحطاط الرأسمالي.
إنه انعكاس صادق لحقيقة أن التقدم في ظل الرأسمالية قد وصل بالفعل إلى أقصى حدوده وصار يهدد بالسير في الاتجاه المعاكس. كما أوضح ماركس أن الأفكار لا تسقط من السماء، كما إن الفهم العلمي للتاريخ لا يمكن أن يقوم على الصور المشوهة للواقع التي تسبح مثل أشباح باهتة في أذهان الناس، بل على أساس العلاقات الاجتماعية الحقيقية. وهذا يعني البدء بتوضيح العلاقة بين الأشكال الاجتماعية والسياسية وأسلوب الإنتاج في مرحلة معينة من التاريخ. هذا هو بالضبط ما يسمى بالطريقة المادية التاريخية في التحليل. كما اشار ماركس الى (ان تاريخ اي مجتمع حتى الآن ليس سوى تاريخ صراعات…
وان الأسلحة التي صرعت بها البرجوازية الاقطاع ترتد الآن على البرجوازية نفسها.. بيد ان البرجوازية لم تصنع فحسب الأسلحة التي تؤدي بحياتها بل انجبت ايضا الرجال الذين سيستعملون هذه الأسلحة: فبقدر ما تنو البرجوازية اي رأس المال تنمو ايضا الطبقات والقوى المضادة.. واشار ماركس في كتاباته الى ان تقدم الصناعة الذي تشكل البرجوازية اداته الطيعة وغير الواعية يسحب تطور الصناعة الكبرى من تحت اقدام البرجوازية البساط الذي اقامت عليه نظام انتاجها وتملكها. ان البرجوازية تنتج اول ما تنتج حفاري قبورها وسقوطها الحتمي.
“كان عطفه الإنساني على حصان منهك القوى سبباً لجنونه، وليكتشف في نهاية حياته أنه “عاش أحمق”. نيتشه نجح في آخر حياته في الامتحان الأخلاقي للإنسانية، إذ إنّ “الامتحان الأخلاقي للإنسانية، الامتحان الأكثر جذرية، والذي يقع في مستوى أكثر عمقاً بحيث إنه يخفى عن أبصارنا، هو في تلك العلاقات التي تقيمها مع من هم تحت رحمتها، أي الحيوانات.. وهنا تحديدًا يكمن الإخفاق الجوهري للإنسان، الإخفاق الذي تنتج عنه كل الإخفاقات الأخرى”!