ﭘاكيطا في بلاد الموروس: عن السجن والحب والحياة… (2-2)
المهمة محمد عبد الإله
(1) حب السينما والمطالعة
لم تكن إقامته وإخوته في حي “الباريو مالكا” مجرد انتقال من البادية إلى المدينة فحسب، بقدر ما هي انفتاح على فضاء ثقافي مبهر، في عالم وعلاقات اجتماعية جديدين. فقد تعلق بحب السينما لدرجة (..) يستحيل على إدريس إحصاء كل الأكاذيب التي لفقها هو وأخوه محمد لأمهما وأبيهما وأختيهما، ليستطيعا الحصول على ثمن تذكرة سينما (..) علما أنها لم تعرض من الأفلام، وقتها، غير ما يسمح به نظام فرانكو.
إلى جانب السينما دأب على قراءة ومطالعة الكتب في البيت الجديد، توفر لباكيطا ولأبنائها من الكتب ما بقي هناك بعد رجوع والديها (خوصيفا وإدواردو) إلى إسبانيا (..) من روايات وردية وروايات الغرب وبعض الكتب المستعملة التي (..) صارت مع الوقت، تجتذب أمينة ومحمد وإدريس، يستبدلونها بمثيلات لها مستعملة، يوفرها كشك صغير في الباريو (..) ولا يقتني جديدا إلا بعد توفير ما يشجعه من “بسيطات” على الذهاب إلى ساحة مولاي مهدي، ليقتني من (الأينسانشي) واحدة من قصص الغرب الأمريكي (..) يقرأها هو وتقرأها أمه، ولا يتذكر ما إذا كان أخوه محمد يقرأها (..) يعترف الشاب إدريس بأنه استطاع (..) أن يتثقف قليلا من 1959 إلى 1963، بالرغم أن الباريو كان يوفر له إمكانيات ضئيلة (..) إضافة إلى حظه في التعلم بمدرسة “الشريشار” المغربية الفرنسية، حيث جلس أمام أساتذة (..) عملوا على جعله يتلمس شيئا كالمستقبل (..) يتذكر منهم ثلاثة بشكل خاص: الشاب الفرنسي فاص، والسيد أخريف، والسيد الورياغلي (..)
(2) ثلاث سنوات في عمري
التحق إدريس بالسلك الثانوي سنة 1959، إلا أنه، وبسبب تقصير إداري حرم من منحة الذهاب للدراسة بثانوية مولاي يوسف بالرباط العاصمة. لكن، بمساعدة مندوب الوزارة الجديد (معلمه السيد الورياغلي) الذي تيسره له الالتحاق بداخلية مدرسة الودادية الإسرائيلية العالمية. منذ 1962، بدأ إدريس يتعرف على كبار الكتاب الفرنسيين والانجليز، وبدا يستوعب الأفكار والمفاهيم الجديدة.
(3) عقدة الفقر
لدورة الزمن وإيقاعه مكانة، في ما استقرت عليه حياة إدريس الشاب من ترتيبب غالبا ما يتحرك مساره وفق خط منكسر. أبناء جاهلون بتاريخ والدهم، وأم لا يتخطى عالمها حدود ما يضمها ومحمد تم من حيز مكاني، شهد إنجاب البنات والأبناء. أب مفلس، أحيانا يستهتر بحياة أبنائه، بفعل ضغط يأس ناتج عن فقدان الوظيفة وضياع البيت المشيد فوق ما ورثه عن أمه من الأرض. صار الفقر عقدة إدريس. تقبله كقدر أو غضب سقط عليه من فوق.
(4) الحاج ميلود و ليسي ليوطي
نشأ إدريس على لازمة لا يخطئها لسان باكيطا (..) شيء أحسن من لاشيء (..) كذلك حصل، حينما ولج إلى ليسي ليوطي بالدار البيضاء. لم ينقطع عن التعليم بسبب عجز عن مسايرة إيقاع الدراسة، و إنما بسبب جرعة ألم زائدة ناتجة عن الإحساس بالفقر. لم ينبعث الأمل في نفس إدريس إلا لأن صهره ميلود وعد بحسن إيوائه، أما والده محمد، فلم يعد بغير تكاليف لوازم الدراسة، ليبقى النتيجة على ما سيبدله إدريس من جهد. في مدينة الدار البيضاء، عاش تجربة، لم تيسر له بما يكفي للاندماج بعلاقات أبناء البورجوازية، رغم أن تلميذات فرنسيات كن (..) تجعلن عيونهن حلوة لأجله (..) إلا أن إدريس لم يكن يحوز حتى (..) ما يسمح له بشراء حلوى يابسة، يحلي بها بعض مرارة ذلك القحط (..)
(5) تفوق إدريس طريقه نحو بوردو
لم يلتحق مباشرة بمدينة بوردو، بل كان عليه، قضاء سنته الأولى بملحقة لها، أقامتها البعثة بثانوية ديكارت بالرباط، نظير منحة صغيرة من البعثة الفرنسية. هكذا ضاعت عليه فرصة السفر إلى فرنسا سنة 1967. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فبدل دراسة الفلسفة التي كانت نصب عينيه واختياره، اضطر لاختيار الأدب الاسباني، حتى من دون أن يودع الوالد.. لما كانت سنة 1968 رحل إلى فرنسا عن طريق طلب (auto-stop).
في فصل ، فرنسا و السجن و سنوات اسبانيا
(1)أصدقاء زمن الثورة
لما حل بمدينة أفنيون صادف بها أجواء المهرجان. أفواج الشابات والشباب (..) بسيطين، واضحين، متضامنين (..) عثر بسرعة على عمل، كعامل في صناعة سلل الفواكه. لاحظ أن هؤلاء الشباب والشابات (..) يوجهون انتقاداتهم ضد الأنظمة البورجوازية، واتجاه سيطرة المال على ضمائر وتصرفات الناس (..) .. أثار انتباهه، أنهم (..) كلهم كانوا مع الثورة (..)
في الحي، بعض الجارات صارحنه بوسامته، أما الجيران فبعضهم أقر بطيبته. رفقته الجديدة وإعجاب الجيران غمرته بما حرره نسبيا من عقدة فقره. لم يعد يرى الفقر خطيئة، لكن سؤال وجود الفقر في هذه الدنيا الحية بروعة رجالها وكمال نسائها، ظل قائما، وبموازاته استمر سؤال السبيل إلى ممارسة الحب مع امرأة تستأثر بمشاعره؟
فشل في التجاوب مع إيماءات (ليديا ) الإيطالية التي تزوره في خيمته، ثم مع (كوليت) الفرنسية التي لم تخف ميلها نحوه. كان على نمط من التنشئة الاجتماعية جعلت منه جاهلا بثقافة الحب والنظر للعلاقة الحميمة مع المرأة.
Toulouse (2) جامعة تولوز-
في تولوز، صادف إدريس الشاب فوران ثورة مايو 1968 الطلابية، واكتسب في أعقاب اندماجه بأجوائها صداقات وعلاقات مع الجنسين. قرر أن يحرر نفسه من عزلتها، وأن يفتح لتأملاته أفقا أكثر اتساع ورحابة.
Lucile(3) شتنبر الأسود –
في شتنبر 1970، و أثناء تظاهرة تضامنية مع الفلسطينيين المطرودين من الأردن، تعرف إدريس على الفرنسية (لوسيل). صداقة سرعان ما تحولت إلى علاقة حب جارف، فسقف مشترك للعيش. في هذه المرحلة حاول أن يتعلم أكثرو يقرأ كثيرا، كما اهتم كثير بالصراعات والثورات التحريرية .تعرف على مناضلين فرنسيين وأفارقة وأسيويين وعر. اختار إدريس طريقه، وانحاز بمحض وعيه إلى جبهة النضال الثوري، خاصة بعد تعرفه على يساريين مغاربة، يحملون ما بدا له في صالح بلده المغرب من أفكار وتصورات سياسية. لقد انتقل من نظرة إلى أخرى مغايرة شكلت بالنسبة إليه (..) إضاءة و بابا مفتوحا على تحقيق السعادة الكونية في ذهنه على الأقل (..) فصحا على أن السياسة ليست هلامى، و إنما هي انخراط في التغيير.
(4) مأساة الرفيق إدريس
حينما اعتمدت خلية (تولوز) دوافع محض إيديولوجية لتعليل قرارها القاضي، بتخلي الرفيق إدريس عن زوجته الفرنسية، وحيث أن السيدة قدمته لأهلها، مباشرة بعد السنة الثالثة على تعارفهما ، وحيث أن القناعة بالحياة المشتركة كانت قاسما مشتركا بينهما، رفض القرار، وانسحب من الخلية ومن النضال.
(5) إدريس يساءل الماركسية
لوعيه بما أصاب فيه كارل ماركس، تساءل إدريس عن أين أخطأ؟
لم يعد ماركسيا، بمجرد ما ساءل أطروحات في مدى صوابها من عدمه، في موضوع الوصول إلى السلطة. مختصرا رأيه أن بلوغها عن طريق العنف لن يمر من دون سلطة عنف.
ساءل أيضا مفهوم الحزب، و مدى سدادة اعتباره ماركسيا أو غير ماركسي، بناء على مفهوم المركزية الديمقراطية. تعليله، أن المركزية تتعارض مع الديمقراطية.
ساءل الماضي في ضوء الراهن، معتبرا أنهما يجلان بعضهما.واضعا في الميزان، ثماتل وتفاضل عهدين من تاريخ المغرب، مقيما المنجز في ضوء الخسارة والربح، بحيث أن المعني بهما معا، ليس الشيخ إدريس في ذاته، بل المجتمع في ديناميته و سيروراته.
(6) عودة بعد انفضال
يشي انسحاب إدريس من خلية (تولوز) بنظر السارد، إلى أنانية تلك المجموعة، وغورها في ما لا يفيد حركتها في ما تصبوا إليه، بقدر ما يتجه لكسر فرح قائم. فبعد دخول الشاب إدريس إلى المغرب، استعاد أستاذ الأدب الاسباني صلته بمنظمة “إلى الأمام”، لما ظهر من الظروف ما يشجع على هذه العودة، وذلك سنة 1975. وفي أقل من سنة، بتاريخ 13-01-1976، وقع اعتقاله. يقول السارد في رصد لحظة قاسية على السيدتين (..) ذهبت (لوسيل) و (باكيطا ) ما لا يحصى من المرات إلى أقسام الشرطة في الرباط والدار البيضاء ، تسألان عن الزوج والابن (..)
(7) وحيدا مع أمي
بعد ما ينيف عن نصف سنة رهينة التغييب والتعذيب “بدرب مولاي الشريف”، أحيل على السجن. وبعد الحكم عليه بعشرين سنة أمام استئنافية الدار البيضاء خلال يناير – فبراير 1977 (..) حين كانت تأتي أمه لرؤيته في السجن، كان يعجبها الحديث معه حول طريقته في التفكير وحول سبب اعتقاله (..) وكان هو أيضا يعجبه الأمر (..) رغبة مشتركة ولدها تواصلهما عبر المزار، وحرقة البُعد. وضع الجديد أتاح ما تعذر عليهما بلوغه زمن الحرية. يقول السارد (..) كانت ثمة أسئلة تشغل بال باكيطا، وقد طرحتها في عدة مناسبات، أثناء زياراتها، كانت تدور حول ذلك الذي يسمونه الماركسية، وحول ذلك الذي يسمونه الإلحاد (..).. لم تمنع الحوارات الجدية باكيطا من الترويح على نفسها كلما زارت ابنها المعتقل. لم تفقد هذه الاسبانية، التي تعرفت في عمرها ذاك على السجن، روح الفكاهة والتنكيت مع إدريس. فوضعيته الجديدة، أتاحت لإدريس التقرب أكثر من قلب أمه، والتقاط دبدبات نبضها، وضعية، يقول عنها السارد (..) لم تكن دائما متأتية، لولا ما خاضه المعتقلون السياسيون عبر الإضراب عن الطعام من نضال، دام أحدها خمسة وأربعون يوما، و استشهدت خلاله الرفيقة سعيدة المنبهي.
(8) نهزم السجن بالضحك
(..) كلهم، وكل شئ كان موضوع تنكيت وذريعة لقضاء وقت سعيد (..) ففضلا عن كونه فضاء مغلقا، هو أيضا فرصة لإذلال المعتقل. تدليلا منه على ذلك، يعرض السارد حالات ومواقف مشحونة بالعنف الرمزي. بما هو إمعان في النيل من الروح البشرية قبل الجسد، يقول (..) بدلوا لأصحاب الأحكام بالسجن ملابسهم المدنية بملابس السجناء الإجبارية: سترة وسروال أبيضين بخطوط سوداء. قميص داخلي أبيض باهت مصنوع من قماش أكياس الطحين، وصنادل ذات قيعان مصنوعة من إطارات العجلات (..)
وهو يسرد ما حصل معه، يعرب بما لا يبقي مجالا للشك،عما ينطوي عليه هكذا نهج من (..) أهداف جد محددة: معاقبة المدان (أو المدانة) وجعله يعيش بالتحديد مواقف مؤلمة، مزعجة، قاسية، مهينة (..)
(9) تلطيف غمة السجن
ليست غمة السجن بالنهاية غير ما يقوم عليه وضع الاعتقال من حرمان شامل، لعل رأس الرمح في ما يكشف عنه السارد في سيرة باكيطا والمورو هو انعدام العلاقة الحميمية، مما يحيل الحرمان المدوخ إلى غمة كاوية. لا يلم بها الفرد إلا لتعمق وحشته. و أمام هول المحنة، كان إدريس يفكر بما يعيش على علته غير المتزوجين من رفاقه. لأنه، وطلية السنوات السبع الأولى لاعتقاله بالسحن المركزي بالقنيطرة، رأى في زوجته لوسيل طيف نجدة، وبسلم ما ينتهك حرمة نفسه من ندوب، كلما تكلس بأثر منها الجهاز العصبي المركزي للسجين، تصبح خطرا محدقا، قد يتهدد عقله. فبالنسبة له، كانت لوسيل تبادله الرسائل، و يجعل كلاهما الآخر في قلب عالمه الخفي. أما زيارتها المنتظمة، فمواعيد لوجد معلق بين حاجة محروس وعيون حارس ليس بها ماء. فهذا وغيره، يلطف من حرمانه ويعطي لروحه بعض من سلوى الحياة العادية. يقول السارد عن لوسيل (..) كتبت له رسائل حب، كانت تؤكد أنها تفكر فيه، وكانت تجلب له ما يطلبه منها، وتقول له إنها ستنتظره إلى أن يخرج من السجن (..) غير أن للواقع العنيد أحكامه الخاصة. ذلك أن المعتقل إدريس ابن باكيطا (..) بدء يلاحظ أن زياراتها لم تعد بنفس الحنان، وأنها لم تعد تتجاوب بنفس الطريقة الصريحة والمشعة والتلقائية (..) متخيلا أن حبه كان يتبخر شيئا فشيئا، ولكن يلاحقه تهوس غير قابل للعلاج (..) لقد خلف انفصاله عن (لوسيل) فراغا استحال إلى رُهاب.