أهلنا في غزة… أنتم وحدكم والعالم يتفرج!
خالد بريش
أيام قليلة، وينقضي الشهر الخامس على هذا الإجرام الذي لم تعرف له البشرية مثيلا. أيام وينقضي الشهر الخامس على الصمود الأسطوري لغزة وأهلها في مواجهة عدو مجرم، لم يبق نوعا من السلاح إلا واستخدمه، ولا جريمة إلا واقترفها. وفي كل يوم يضرب رئيس وزرائه وبقية الكورس من القادة لجماهيرهم من الصهاينة والقادة الغربيين، وبعض العرب المتصهينين موعدا، ويُحدثونهم عن الاقتراب من الهدف، وبتحقق انتصارات على الأرض، لكن يعودون كل يوم بخفي حنين لأن أسطورة الفزاعة التي صنعها الغرب في المنطقة قد انتهت كسراب كان يظنه الظمآن ماء…!
ردات فعل المهزوم
الانتصار، قد تحقق يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) لغزة، ولهذا الجيل المقاوم المبدع من أبنائها، والباقي وكل ما يقوم به هذا الكيان المدعوم من الغرب من قتل ودمار وتنكيل وحصار الخ… هي ردات فعل لمهزوم تنهش الهزيمة والقهر روحه، ويعيش حالة ضياع على كل المستويات. إنه البُعْبُع وقد فقد توازنه وهيبته، التي ذهبت مع الريح. وكما يقولون في المثل الشعبي « يلي ضرب، ضرب… ويلي هرب، هرب… »، أو كما قال له المقاومون أنفسهم يوما، عندما أعلن وزير دفاعه فرحا من أنه اكتشف نفقا كبيرا فكان ردهم: « لقد وصلت متأخرا…! »…
لقد كان واضحا منذ اليوم الأول، أن هذا الكيان وكل داعميه، سوف يشنون حرب إبادة شرسة لا هوادة فيها على غزة وأهلها، لكي لا يتجرأ أحد فيما بعد، ويقدم على ما قامت به المقاومة في غزة هاشم… لقد كان واضحا أن هذا الكيان لن يسكت على ما لحق به من عار وهزيمة في يوم السابع من أكتوبر، وأن كل من قرأ تاريخ هذا الكيان، وما ارتكبه خلاله من مجازر يندى لها الجبين، وتستر عليها الغرب ـ عفوا، بل من أجلها يحترمه ويدعمه ـ سوف يدرك أنه لن يرضخ لنداءات الإنسانية، ولن يعبأ بالتظاهرات، وكل ما يسمى بالرأي العام، وأن كل تصريحات القادة الغربيين، ما هي إلا مهدئات لا أكثر ولا أقل، محملة بوعود طالما أغدقوا مثلها، بل أكثر منها بكثير وبلا حساب كلما كانوا في مأزق. وما زالت أصداء أصواتهم حاضرة، يوم أشبعونا كلاما وصدعوا رؤوسنا بالحقوق والدولة والعودة الخ… فصدقهم « الختيار » رحمه الله، وخرج من بيروت عام 1982 بعد صمود أسطوري رائع… فإذا بهم سريعا ما تناسوا كل شيء، ونفذ الكيان المجرم أبشع المجازر في صبرا وشاتيلا، واختفى فيليب حبيب عن الشاشة فجأة، ولم يعد مرة أخرى إلى المنطقة، وبالتالي لم يعد أحد يتحدث عن تلك الوعود…!
اليوم وبعد هذه المذابح والدمار والتجويع المتعمد قد حصحص الحق، ووضعت المقاومة الجميع في أماكنهم التي يستحقونها، وأصبحت الأمور في غاية الوضوح، لا تشوبها شائبة، إلا بالنسبة للمعجبين بآلهة الاستعمار أمريكا وسياستها، ويتدفأون في أحضانها… وسقط هذا الكيان إلى حضيض الحضيض، وسقطت معه آلهة الاستعمار والإمبريالية أمريكا، وعلى نفس درب السقوط تبعتهما أوروبا، قديسة الديمقراطية، المتاجرة بحقوق الإنسان والعلمانية التي لا يمكن لقادتها ومنظريها ونخبها أن يشرحوا ويبرروا لأي عاقل، إغداق المعونات العسكرية والمادية على كيان ديني متعصب عنصري حتى النخاع، يرتكب المجازر، ويقتل الأطفال الخُدَّج في حواضنهم، والنساء وكبار السن العاجزين الآمنين، ويمارس دمارا عبثيا على الهواء، وكأنه يمثل فيلما في هوليود.. في الوقت الذي يدعون فيه المثل والأخلاقيات، والتمسك بأهداب الإنسانية…!
لقد جعل الغرب الديمقراطي من هذا الكيان محطة صليبية استعمارية، وأعطاه كل مقومات القوة والتفوق، فكان أهم استثمار له في الشرق الأوسط، وأهم ممثل لمصالحه… وأن استهجانه اللفظي لأنهار الدماء، وهذه الأعداد الضخمة من الضحايا الأبرياء، ما هي إلا مجرد استهلاك إعلامي، بينما في الحقيقة لا يمانعها، لكنه يريدها على نار هادئة، وعلى دفعات متتالية، فالكوتا مفتوحة، وحساب الكيان المصرفي من دماء أبناء أمتنا مفتوح أيضا، والضوء الأخضر لا يتغير لونه، بالرغم من لون الدماء الطاهرة… نعم، لا مانع لديه، ولكن، ليس بهذا القدر من الوحشية والدمار، مما يسبب له عسر هضم، وبعضا من الإحراج الإعلامي، وتسقط بالتالي ادعاءاته بالإنسانية وحقوق الإنسان…!
لقد كانوا مضطرين إلى عقد لقاءات باريس والدوحة والقاهرة، كمخرج من مأزق ومتاهة حرب دخلها الكيان الغاصب، بعدما أزبد وأرعد، وأغدق وعودا بأنها أيام قليلة لن تطول، مصورا الموضوع وكأنه نزهة على شاطئ بحر غزة، لكنها تخطت الأربعة أشهر، تكبد فيها خسائر لا تحصى، وحققت المقاومة صمودا أسطوريا… لقاءات ومشاريع تهدئة، في أساسها لانتشال الكيان من الغوص أكثر في أوحال هذه الحرب، التي كشفت تآمرهم، ومن أجل تحرير الأسرى الغربيين، وخاصة أننا على أبواب انتخابات أمريكية. ولو كانوا صادقين للحظة واحدة، لأدخلوا المساعدات الإنسانية والأدوية، ولوضعوا حدا لهذا التجويع المقيت والمميت، وهم بلا شك قادرون على ذلك.
وحتى لا نذهب بعيدا، فإن كل المباحثات والنقاشات، وكل ما تم الاتفاق عليه خلالها، كان الكيان الغاصب على علم بتفاصيله وترك فيه بصماته، وتمت صياغته أساسا، بما يتوافق مع مصالحه ومصالح حُماته، وتمت مناقشة كل كلمة وفاصلة فيه، في حضور محاميه والمدافع عنه « أمريكا»، وشريكه في حصار غزة «مصر»، بينما قامت قطر بدور نقل وجهة نظر حماس في مواجهة الجميع، مما يعني أن الكيان قد أعطي الفرصة لكي يفاوض مرتين، الأولى خلال إعداد الأوراق، والثانية في جلسات المفاوضات.
لكن الحقيقة أن أمريكا والغرب وربيبهم الكيان المدلل وبعض “الأعدقاء”، لا يريدون في الأساس اتفاقا، ولا وقف هذه الحرب العبثية، بل يريدون أمرا آخر، بسيطا جدا: وهو أن تستسلم المقاومة، ومن ورائها شعب غزة بأكمله، ويرفعون الأعلام البيضاء، ويركعون أمام جبروت الغرب وهذا الكيان الغاصب المجرم، وأن يقبل الغزاويون بالهجرة الطوعية إلى بلاد الله المختلفة، وينسوا كل ما يربطهم بفلسطين، لقاء بعض المغريات المادية والمعنوية، وأن لا يبقى من سكان القطاع إلا 20 % فقط، لكي يعملوا خدما عند الصهاينة الحاقدين، وسوف يسهل السيطرة عليهم عبر مستوطنات تزرع في وسطهم، وتقطع أوصال القطاع كما هو حال الضفة الغربية تماما. وبعبارة أخرى يريدون عبيدا، وأن يعيدوا بالتالي سيرة أباطرة الرومان!
نعم إنهم يريدون اليوم وبكل تبجح، من بطل صامد منتصر، أن يستسلم، ويخضع لإرادتهم…! فهل سمعتم عبر التاريخ عن منتصر يستسلم، ولماذا…؟! إنهم اليوم وفي عصر الآلهة أمريكا يريدون هذا، وبالتالي قلب الموازين والأعراف، وفرض إرادتهم، ولو كلف ذلك إبادة شعب غزة بأكمله، وعلى مرأى ومسمع من العالم كله…!
«لا تصالح»
وما من داع يا أهلنا في غزة أن يردد أحد على مسامعكم ما قاله شاعر مصر وابنها يوما «لا تصالح على الدم.. حتى بدم.. ولو قيل رأس برأس»… على الرغم من أنكم اليوم وحدكم في الميدان، لا العرب العاربة معكم، ولا المستعربة، ولا التائهون في بحار الملذات. حتى العلمانيين اليساريين المتنورين العقلانيين والثوريين جدا، وكذلك السلفيين، ليسوا معكم، لأنكم لم تستأذنوهم، ولم تستشيروهم، ولأن كل واحد منهم يريد طوفانكم على مزاجه الخاص، وكأنه فنجان قهوة الصباح، أو طبخة يحبها… فقط الشرفاء الذين يعضون على جراحهم بين زحام أبناء أمتنا معكم، ويرون أن كل مسمار يدق في نعش الكيان الغاصب، هو خطوة، بل خطوات إلى الأمام، ويُعجل في نهايته الحتمية، ويضع حدا لسيطرة الغرب على بلادنا ومقدراتنا وعقولنا.
Visited 14 times, 1 visit(s) today