حضور الاحتفالي في (الغياب) المؤقت
د. عبد الكريم برشيد
فاتحة الكلام
هو شهر كامل غبت فيه، هكذا قد أظهر في الصورة، ولكن ما خلف هذه الصورة يقول شيئا آخر، يقول بأن الغياب ممنوع في ومحرم في الشرع الاحتفالي، وبأننا محكومون بالحضور في المكان المطلق وفي الزمان المطلق، ومتى كان من حق الاحتفالي الصادق أن يغيب، وفلسفته في الوجود وفي الحياة هو الحضور الجديد في الزمن المتجدد؟ ولقد (غادرت) هذه المنصة بإرادتي واختياري، وانتقلت بعقلي وفكري وكتاباتي إلى منصات أخرى كثيرة جدا، وشهر رمضان هو شهر احتفالي بامتياز، لأنه الشهر الثالث عشر في السنة، وفيه نكون مع الله ليكون الله معنا، ونكون أيضا مع أنفسنا، ونستعيد الأسئلة الضائعة، ونعيد التفكير في شرطنا الوجودي، ونقف أمام مرايا أنفسنا حتى نستعيد شيئا من أنفسنا،
وأشهد أن جل مسرحياتي قد كتبتها في ليالي شهر رمضان، وهي بهذا فيض الروح وفيض النفس وفيض العقل وفيض الوجدان.
حياة أخرى في الشهر الثالث عشر
وفي هذا الشهر الثالث عشر من هذه السنة، فكرت كثيرا، وتساءلت كثيرا، وكتبت كثيرا، ولقد كنت في أيامه الأولى ضيفا على البرنامج التلفزيوني (سيرة ومسار) بالقناة الرابعة، والذي هو برناج ثقافي من إعداد سعاد اليعقوبي وإخراج وداد تافكي، ولقد سافرت إلى مراكش، وكنت ضيفا على دار بلارج، وعلى مديرة الدار الأخت مها ماضي، وبالمناسبة فإنني أحييها هي والصديق الاحتفالي سعيد شكور، وأحيي كل الذين زارهم البرنامج وقدموا في حقي شهاداتهم الصادقة، ابتداء من صديق الطفولة والشيخوخة بكاوي المكي، وبالقصاص والفاعل الثقافي السي محمد العتروس، وبراعي الثقافة والمثقفين في مدينة ابركان الاستاذ بن عيسى زنبي، وانتقل البرنامج إلى مدينة وجدة، والتي احتضنت جزء مهما من طفولتي ومن شبابي، ومن هذه المدينة التي هي مدينة والدتي ومدينة جدتي لأمي جاءت شهادة الدكتور مصطفى رمضاني في حق مسيرتي ومساري، ود مصطفي رمضاني اقتسم معه سماء وأرض وهواء وماء وثقافة مدينة ابركان، ولقد قدم لي مسرحية (سالف لونجة) في أواسط السبعينات من القرن الماضي، ولقد عرف كتابتي المسرحية أولا قبل أن تللتقي، وقبل يعرفني معرفة شخصية، مما يدل على أن الأرواح الصادقة تلتقي عادة قبل الأجساد، ولأنه قد عرف مسرحي الاحتفالي منذ أن كان فكرة اساسية ومؤسسة متكاملة، أي قبل أن يصبح فكرا، وأن يكون منظومة فكرية وجمالية وأخلاقية، فقد كان أصدق شاهد على مسار هذا الاحتفالي ومسيرة هذه الاحتفالية، ولعل هذا هو ما أهله لأن يعتبر اليوم أهم مؤرخ للتيار الاحتفالي ، من بدايته التاسيسة الأولى إلى الآن.
وانتقل البرنامج إلى مدينة فاس، ليجد أن المكان هناك مازال وفيا لمكانيته. ولكن ذلك الزمان الذي كان لم يعد كما كان، ولقد عشت في هذه المدينة عصرا كاملا، هو العصر الذهبي للثقافة، وفيه ترددت كثيرا على المسارح وعلى قاعات السينما وعلى المكتبات وعلى المراكز الثقافية الأجنبية وعلى حقات الحكواتيين الشعبيين، والذين يأتي على رأسهم الفنان الشعبي الصادق، والذي كان ملهمه في كتابة مسرحية أهديتها له، والذي هو حرية، والذي هو بطل مسرحية (الحكواتي الأخير).
ولقد صور البرنامج واجهة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بظهر المهراز، والتي تخرجت منها في بداية السبعينات من القرن الماضي، ولقد أسعدنا الحظ، نحن جيل السبعينات من القرن الماضي، أن ندرس على أساتذة من العيار الثقيل، والذين هم د. أمجد الطرابلسي، ود. صلاح الأشتر، ود. عباس الجراري، ود بنشريفة، ود. محمد نجيب البهبيتي، ود. ابرهيم السولامي، ود. محمد السرغيني، ود. محمد برادة، ود. حسن المنيعي، وذ. بنتاويت.
مسيرة ومسار في برنامج تلفزي
وعرج البرنامج على مدينة الخميسات، والتي شهدت انطلاقتي المسرحية في بداية السبعينات من القرن الماضي مع جمعية النهضة الثقافية، ولقد أعطتني هذه المدينة مناخا ثقافيا صحيا، وأهدتني راحة نفسية، وأعطتني رفاقا صادقين في الطريق الثقافي والإبداعي الصادق، وبالمناسبة أترحم على دينامو الفعل الثقافي في المدينة الأستاذ سيدي محمد بلقاضي، والذي كان وراء تأسيس جمعية النهضة الثقافية بالمدينة، وأترحم على صديقي ورفيقي في الجمعية الأستاذ لحسن حمامة، والذي كان أقرب المقربين إلي، والذي كان يقرأ مسرحياتي قبل أن يراها الجميع، وأترحم على الرفاق المؤسسين لجمعية النهضة الثقافية ابراهيم سوفان والأستاذ المسكالي، وتحياتي لكل الذين أسوأ الفعل الثقافي في هذه المدينة، محمد الزيدوني وحميد المرداسي ولحسن ازدو والشاكوري وبناني والحجامي والسي محمد زروال عبد الحق التمتماني ومحمد السويرتي واحمد كريطيط وغيرهم كثير جدا، وسوف أعود إليهم في كتابات أخرى قادمة.
وأما كتميرا البرنامج أدلى الفنان المسرحي محمد الصغير، والذي هو أحد رواد الفعل المسرحي بالخميسات، شهادته الصادقة في تأسيس المسرح بالمدينة، وفي نشر الثقافة المسرحية، وفي الانتقال بتلك التجربة المسرحية إلى كل المهرجانات وتلتظاهرات المسرحية إلى كل المدن والقرى المغربية، أما الشهادة الثانية، فلقد كانت لواحد من الجيل الجديد في المسرح بالمدينة. والذي هو المسرحي والنقابي وللفاعل الجمعوي نجيب بنصرو، ولقد أعطى شهادة أخرى.، والتى هي شهادة جيل الشباب الجديد، وذلك في حق ذلك الجيل الذي كان شابا، في ذلك الزمن الذي مضى ولم يمض.
ولقد كانت مدينة الدار البيضاء محطة أخرى في هذه المسيرة ، ولقد أعطى البرناج الكلمة لقامتين كبيرتين في مجال الإبداع والنقد والتنظير والإعلام المسرحي، وهما د. محمد الوادي الاحتفالي (القديم) صاحب الاحتفالية الجديدة، والذي لم يكن مجرد شاهد فقط، لأنه أحد الأسماء الكبيرة التي صنعت واسست المسار الاحتفلي فكريا وجماليا واخلاقيا، أما د، نذير عبد اللطيف، وهو الموثق والمؤرخ، فقد أعطى صورة موثقة عن الاحتفالي والاحتفالية، وذلك من خلال الإبداع ومن خلال الأقوال والتصريحات، ومن خلال البيانات ومن خلال المواقف. ومن خلال المحطات الأساسية والتاسيسة في هذا المسار الفكري والإبداعي.
وبخصوص هذا الاهتمام بمسيرتي وبمساري، يعتبر نذير عبد اللطيف هذه التجربة محطة أساسية، في المسرح المغربي إلى جانب أنها حلقة متميزة يطبعها البحث الجاد، ويميزها (التحليل والرصد والتوثيق حول رائد من رواد المسرح العربي سي عبدالكريم برشيد)، كما جاء في كلمته.
وبخصوص هذه الحلقة التوثيقية يقول د.نذير عبد اللطيف في أحد تعاليقه على كتاباتي في الفيس بوك (الحلقة فيها مجهود جبار ورحلة متعبة كان فيها التصوير بين الخميسات ووحدة وبركان والدارالبيضاء ومراكش… وكل الفعاليات من هذه المدن تحدثوا بصدق ونبل ومسؤولية حول تجربة هذا الاحتفالي الملسوع بأبي الفنون.. حياك الله صديقي الكريم وأطال الله في عمرك).
الاحتفالي والاحتفالية وأسئلة الحال والمآل
وهذا لقاء آخر ، بأسئلة أخرى وبمسائل فكرية أخرى سيكون له وجود على راديو ميدي 1 الدولية، وكان ضروريا أن أنتقل إلى مدينة طنجة، وإلى المنطقة الحرة الدولية، وأن أكون ضيفا على الإعلامية المثقفة اعتماد سلام، والتي كشفت من خلال اسئلتها الذكية عن محطات أساسية وجوهرية في مسار الفكري والمسرحي وفي مسيرتي الحياتية، ولقد وجدت نفسي أمام أسئلتها أعيد معرفة نفسي، وأعيد مناقشة كثير من الأفكار. والتي كنت أعتبر أنها بديهيات ومسلمات، ولقد تيقنت، من خلال كل حوارات بشهر رمضان، بأن الأسئلة الكبيرة تؤدي بشكل مباشر إلى الأجوبة الكبيرة والخطيرة.
ولقد عدت مرة أخرى إلى مدينة طنجة، لأكون هذه المرة الجديدة ضيفا على الإعلامية الناجحة إيمان اغوثان، وذلك في برنامجها اليومي (رمضان معانا)، والذي ظل يبث يوميا خلال شهر رمضان، وبشكال مباشر وحي. وعلى امتداد ساعة ونصف من الزمن، وفي هذا اللقاء تعددت الأسئلة وتنوعبت وتشعبت وذهبت بنا كل مذهب، ولقد طرحت في اللقاء أهم وأكبر وأخطر كل الأسئلة التي يمكن أن نتوقعها أو لا نتوقعها، والتي عرجت على أهم قضايا المسرح المغربي والعربي اليوم، ولقد سألتني عن الحفل والاحتفال، وعن العيد والتعييد، وعن الفرق بين الاحتفال الصادق والاحتفال الذي هو مجرد مظاهر برانية كاذبة عنوانها الفشر، وسألتني عن المغرب و(تمغربيت)، وعن الفرق بين الأمس الفقير ماديا والغني رمزيا وإبداعيا، وبين هذا اليوم الغني ببنياته التحتية، وبسياسته المسرحية الشاملة والمتكاملة، والذي يحتاج مع ذلك لمجهود إبداعي أكبر، وذلك حتى يمكن أن يكون أهلا لأن يمثل هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ الثقافة المغربية الجديدة.
وبمناسبة اليوم العالمي للمسرح أجرت معي الأستاذة زهرة منون حوارا لمجلتها الإلكترونية (ألوان)، وتعقيبا على هذا الحوار كتبت على صفحتي بالفيس بوك الكلمة التالية:
(هذا حوار فكري أبوح فيه بما يعرف الناس عني وبما لا يعرفون، وفي هذا الحوار أيضا، أواصل التأكيد على رؤيتي للعالم وعلى إيماني بأن المسرح ليس صورة، ولكنه الحياة، وبأن تاريخ المسرح هو نفس تاريخ الإنسان وتاريخ الإنسانية، وبأن الآتي في هذا المسرح غدا هو الأجمل.
هو حوار حصري أخص به مجلة (ألوان) والتي تصدر من كندا، وبالمناسبة فإنني أشكر الأخت زهرة منون، والتي أعادت طرح الأسئلة الصادقة والحارقة في ملف المسرح، قديما وحديثا بوعي فكري جديد ومتجدد).
ولقد أعطت المجلة للحوار عنوانا رئيسيا واحدا وعناوين فرعية أخرى متعددة، أما العنوان الرئيسي فهو (المسرح: هو أصدق الصادقين والمعبرين عن حياتنا في معناها الظاهر والخفي)، وفي العناوين الفرعية أيضا نقرأ (ينبغي ألا نكون عنصريين في الفن)، و(كامل شيء نقتسمه ينقص إلا الفرح (فهو) يكبر). ومن العناوين الفرعية أيضا (لا خوف على المسرح).
المسرح هو مرآة الشعوب، ولكن مرآة المسرح ليس مرآة واقعية ، ولكنها مرات تكون مرآة سليمة فتعكس الأشياء كما هي، مثلما تعكسها الصحافة، وكما يريدها المؤرخ والموثق، ولكن في أحيان كثيرة تكون هذه المرآة ساخرة، فتظهر وجوهنا مشوهة بطريقة كاريكاتورية، وهذا ما يفعله المسرح في كثير من تياراته، خصوصا في المسرح العبثي أو مسرح اللامعقول، والذي يقدم لنا الواقع بصورة مقلوبة، وحتى تلك الصورة التي كانت تلتقط في الكاميرا القديمة كانت مقلوبة، تماما كما تلتقط الصورة داخل العين، والتي صورة مقلوبة، ولذلك فالمسرح يقدم لنا الواقع من خلال شخصيات وحالات ووقائع ، وبالتالي فهو لا يعطينا الأشياء كما هي، وإنما كما ينبغي أن تكون، وكما لا يمكن أن تكون أيضا، و ذلك هو المحال في كثير من المسرحيات التي تصل إلى حد اللامعقول وإلى حد اللاممكن و إلى حد اللاوجود.
فالمسرح هو هذه الحياة بكل تناقضاتها وسلبياتها وبكل إيجابياتها، وفي هذا المسرح نرى وجوهنا. فالمغاربة عندما يتوعدون شخصا من الأشخاص يقولون له (سنريك وجهك بالمرآة)، وهو يخاف أن يرى وجهه في المرآة، تماما كما تخاف الأنظمة الظالمة أن ترى وجهها القبيح في مرآة المسرح وفي مراة الصحافة.
حوار آخر جاء على هامش الاحتفال باليوم العالمي للمسرح، ولقد تم من بعيد على أمواج إذاعة طنجة، وكان المحاور شيخ الإعلاميين سعيد كوبريت، الفنان والمثقف ورئيس بيت الصحافة في طنجة، ولعل أجمل ما كان في هذا الحوار هو أنه كانت محاولة جادة وصادقة من أجل إعادة التفكير في ماضي وحاضر ومستقبل المسرح المغربي والعربي، ولا شيء أجمل وأنبل من أن نقرأ حاضر المسرح المغربي على ضوء ماضيه، ولعل أجمل ما في كل حوارات سعيد كوبريت هو أنه لا يسأل أسئلة رمادية أو أسئلة بلا لون وبلا طعم، وأسئلته دائما هي أسئلة المعني والذي له غيرة كبيرة على المسرح وعلى الشعر وعلى القصة وعلى التشكيل وعلى السينما وعلى كل الفنون والآداب التي لها علاقة يومية بالناس وحياة الناس.
Visited 24 times, 1 visit(s) today