فتاوى لا تعني عرب أميركا
محمد العُزيْر
غروب الثلاثاء الثالث من حزيران/ يونيو 1992، وأمام مقر الجمعية المصرية للتنوير في مصر الجديدة بالقاهرة اقترب مسلحان على دراجة نارية من المفكر الليبرالي والكاتب العربي الدكتور فرج فودة، الذي كان يهّم بركوب سيارته، وأطلق أحدهما ويدعى عبد الشافي أحمد رمضان، الرصاص عليه من رشاش حربي، فأصابه بجراح قاتلة، قبل يومين من الأضحى. عندما سأل القاضي القاتل عن سبب قتله فرج فودة أجاب: “لأنه كافر”، فسأل القاضي: “من أي كُتبه، عرفت أنه كافر؟”، فرد:”أنا لم أقرأ كتبه“!.
فسأل القاضي: “كيف”؟ فرد القاتل: “أنا لا أقرأ ولا أكتب“!.
بعد ظهر الجمعة الرابع عشر من تشرين الأول/أكتوبر 1994، وأمام منزله في الجيزة، اقترب شاب يدعى محمد ناجي من الأديب والروائي العربي المعروف نجيب محفوظ، فور صعوده إلى سيارة صديقه الدكتور محمد فتحي، ليتوجها إلى نادٍ ثقافي لإلقاء محاضرة، وطعنه في رقبته ممزقًا الشريان الرئيسي وشبكة الأعصاب، إلّا أنه نجا من الموت نتيجة إسعافه السريع في مستشفى قريب. عندما سأل القاضي منفذ العملية لماذا طعنت نجيب محفوظ”؟ قال: “لأنه كافر وخارج عن الملة”، سأله القاضي:”كيف عرفت”، فأجاب ناجي: “من روايته، أولاد حارتنا”، فسأل القاضي: “هل قرأت أولاد حارتنا؟”، فقال المنفذ: “لا”.
كشفت التحقيقات وجلسات المحاكمة في القضيتين أن العمليتين نفذتا بموجب فتويين أصدرهما الشيخ المصري الكفيف عمر عبد الرحمن، مؤسس ومرشد تنظيم الجماعة الإسلامية الإرهابي، والذي دخل إلى أميركا عام 1990، على الرغم من ورود اسمه على لائحة الشخصيات المتهمة بالإرهاب أمريكيًا، وذلك بموجب تأشيرة سعت له بها وكالة المخابرات المركزية الأميركية (سي. آي. ايه)، لقاء خدماته “الجهادية” ضد السوفيات في أفغانستان، أيام الود والتحالف المتين بين واشنطن وبين الإسلام السياسي المسلح! حصل عبد الرحمن على التأشيرة في العاصمة السودانية الخرطوم، التي كان منفيًا إليها، وتحول فور وصوله إلى أميركا إلى نجم التطرف الديني المجاهد، يصول ويجول بحرية، وتمكن بسرعة، ورغم معارضة دائرة الهجرة والجنسية على الإقامة الدائمة، التي ألغيت لاحقًا، لكنه لم يرحّل، بفضل الـ (سي. آي. ايه) طبعًا، حيث رد على قرار إلغاء إقامته بطلب اللجوء السياسي.
بعد الهجوم الإرهابي الأول على مركز التجارة العالمي في نيويورك، في السادس والعشرين من شباط/ فبراير 1993، والذي أدى إلى مقتل ستة أشخاص وجرح المئات، ووقوع خسائر بملايين الدولارات، انتهى شهر العسل مع الجهاديين، ولم تعد المخابرات قادرة على حماية “الشيخ الأعمى”، كما كانت الصحف الأميركية تسميه، والذي كان ملفه الضخم يثقل كاهل مكتب التحقيقات الفدرالية، الذي ألقى ضباطه القبض عليه في حزيران/يونيو من العام نفسه، قبل تنفيذ خمس عمليات إرهابية كانت تستهدف جسورًا وأنفاقا ومواقع حساسة في نيويورك، حسبما كشفت تحقيقات وتسجيلات الـ (اف. بي. آي)، التي عرضت في المحكمة.
حُكم على عبد الرحمن بالسجن المؤبد عام 1995، ومات في سجنه في نورث كارولينا عام 2017، بعدما قُدر له أن يعايش نتائج ما أسسه من عنف وكراهية، وبعد أن دفع العرب في بلدانهم والعرب الأميركيون في عالمهم الجديد، الأثمان الباهظة لتحالفات غير مقدسة وحروب غير مقدسة، وبعدما عمت الفتن المذهبية المقيمين والمغتربين، وساد الإرهاب وشاعت الضغائن. وإذا كان للهمّ العربي المقيم ملابساته وتفاصيله وشؤونه التي لا يقدر العرب الأميركيون على حلها، ولن يسمح لهم بالمشاركة في الحل وإن قدروا، فإن ما يعنيهم أكثر بعد التركة الثقيلة لتحالفات الإسلام الجهادي هو مستقبلهم هنا والآن.
صباح الأربعاء في السابع عشر من آب/ أغسطس 2002، وعبر شاشات التواصل التي أصبحت البديل المقبول للمقابلات في زمن وباء “كوفيد 19″، وبعد خمسة أيام على محاولته اغتيال الكاتب والروائي العالمي المعروف الهندي الأصل سلمان رشدي، أبلغ منفذ العملية الشاب العربي الأميركي هادي مطر صحيفة “نيويورك بوست”، التي أجرت أول مقابلة صحفية معه من سجنه بعد فعلته، أنه لم يقرأ من رواية “آيات شيطانية” سوى بضعة صفحات، وهذه إفادة قابلة جدًا للشك، خصوصًا وأن مطر أفاد بأنه يعرف رشدي من خلال مشاهدته له على فيديوهات تنشر على الانترنت والتواصل الاجتماعي، مؤكدًا أنه “لا يحبه لأنه خبيث”، ولأنه هاجم معتقداته وهاجم الدين الإسلامي.
لم يفصح مطر، الذي عبّر عن دهشته لنجاة رشدي، عما إذا كان أقدم على فعلته تنفيذًا لفتوى الإمام الخميني، موضحًا أن محاميه نبهه إلى ذلك، واكتفى بالقول إنه يكن الاحترام لشخص الإمام الراحل الذي أهدر دم الروائي، إلّا أنه نفى أن يكون على تنسيق مع الحرس الثوري الإيراني، وقال إنه قرر محاولة اغتيال رشدي بعدما قرأ على الانترنت إعلانًا عن الندوة التي شارك فيه وشهدت الهجوم. لكنه شأنه شأن سابقيه إلى مهاجمة الكتاب والمفكرين، لم يخدم قضية ولم ينجز هدفًا ولم يؤثر إلا في زيادة التعاطف مع الكلمة بوجه الرصاص والخناجر والسكاكين.
من حق مطر أن يحترم من يشاء، وأن “لا يحب” من يشاء، لكن ليس من حق أحد أن يعتقد مهما بلغت به حماسته، أن يدعي أنه يدافع عن دين يتّبعه ويتنازع فيه ويختلف عليه أكثر من مليار ومئتي مليون إنسان، ويُقتل باسمه وعلى اسمه الآلاف “منذ تبّت” وحتى اليوم. الطعنات التي وجهها هذا الشاب العاطل عن العمل، والذي لم يكمل دراسته ويعيش في الطابق السفلي لبيت أمه، التي تتولى إيواءه وإطعامه، وهو في يفترض أن يكون في عز عطائه، أصابت العرب الأميركيين جميعًا، تمامًا كما أصابتهم تبعات فتاوى عمر عبد الرحمن من قبل، ومردودها بجميع المقاييس، ليس في صالح العرب الأميركيين، ولا في خدمة القضايا الحياتية والكيانية والوطنية والإنسانية التي تهمهم، وفي مقدمتها حقوقهم المدنية المهددة في جو ليس مؤاتيًا لهم، يحاولون فيه الدفاع عن وجودهم وحضورهم ودورهم.
يعرف المعنيون من العرب الأميركيين، وخصوصًا رجال الدين والكهنوت بجميع مشاربه، أن هادي مطر، ليس أول عربي أميركي يقدم على فعلة تضر بمصالح العرب الأميركيين، فأخبار المقبوض عليهم بتهم التخطيط لأعمال عدائية أو هجمات مسلحة من الشباب المولود في أميركا تتوالى من أكثر من ولاية، ولا تجد من يرفع الصوت إزاءها وينبه إلى خطورة هذه المسالك، ليس خوفًا أو تخويفًا، ولا مسكنة ولا “تقية”، وإنما لأن مصالح العرب الأميركيين ومستقبلهم ومستقبل أولادهم، وهو مستقبل مرهون بحضورهم وقدرتهم على الفعل السياسي والاجتماعي في هذه البلاد. هذه بلادهم، لأن أوطانهم وبلدانهم مهما بلغ الإطناب في مدحها ومهما علت أصوات الأناشيد فيها وعنها، لا محل لهم فيها، ولا مستقبل فيها حتى لمن فيها، والذين لا ينتظرون لحظة إن تمكنوا من السفر، والذين يموتون في البحار طلبًا لعيش كريم بعيد عن الفتاوى وبعيدًا عن الفتاوى.
ينبغي أن يكون الموقف العربي الأميركي من هذا الأمر واضحا، وأن يرتفع الصوت المنادي على رجال الدين والمؤسسات الدينية، للخروج من التعبئة المذهبية والكيديات ولغة وثقافة القرون الوسطى. هذا موقف مطلوب وضروري وحيوي، ومن يعتقد أن هذه الأعمال ستؤدي إلى نتيجة إيجابية واحدة، ليقل للعرب الأميركيين علنًا كيف وأين وعلى أي أساس؟ إذا كان من يعتقد ذلك لا يجرؤ على قول كلمة علنًا عن شعوره بفعلة هادي مطر، كيف له أن يقنع العرب الأميركيين بالقبول بالتضحية باستقرارهم وحضورهم ومستقبل أولادهم، لتنفيذ فتاوى لا تعنيهم في شيء.