تارودانت: الربيع والمسرح والفيشطة

تارودانت: الربيع والمسرح والفيشطة

د. عبد الكريم برشيد

فاتحة الكلام
       أما تارودانت فهي مدينة مغربية، لها جغرافيا وتاريخ, ولها علم وفكر, ولها فن وصناعات, ولها ماض لم يمض، ولها حاضر لا يغيب.
    أما الربيع فهو سلطان كل الفصول، وقد يكون ربيع هذه الأرض، كما يمكن أن يكون ربيع الأجساد والنفوس والأرواح، تماما كما يمكن أن يكون ربيع الحياة وربيع الفكر وربيع العلوم وربيع الفنون.
    أما المسرح فهو هذا الفن المركب، والذي وهو علم الحياة والأحياء. وهو فقه النفوس وفقه الأرواح الخية، والذي هو المرآة التي تسع الوجود وتسع الموجودات في التاريخ، واللذي أوجدته الشعوب والأمم العاقلة والمفكرة لترى صورتها الحقيقية فيه.
وأما الفيشطة، فهي الحفل والاحتفال، وهي العيد والتعييد، وهي الفرح والبهجة، ولقد حضرت الفيشطة في مدينة تارودانت من خلال صورتين اثنتين، الصورة الأولى تمثلت في احتفالية مسرحية قدمها المخرج المسرحي المجدد أمين ناسور، وكان عنونها (الفيشتة)، وأما الثانية فهي ذلك المهرجان المسرحي الذي نظمه مسرح الأفق بالمدينة، باقتراح وتصور من طرف المخرج محمد حمزة، والذي جدد دماء المدينة لأيام وليالي طويبة، والذي أهدى كل الناس في هذه المدينة العالمة والحالمة ساعات استثنائية، وجعلهم يعيشون الفيشطة الغنية بالألوان والأضواء وبالأجواء السحرية وبالحالات والمقامات، وعن هذه الساعات النعمة بالحياة والحيوية أحكي اليوم.
 
بين ربيع الطبيعة وربيع المسرح
    وفي البدء كان الذي كان، وهتف بي صوت من داخلي وقال لي ما يلي:
اعلم أيها الاحتفالي بأن هذا الربيع هو فصل احتفالي مثلك ومثل كل الاحتفاليين في العالم. وبهذا فهو في الطبيعة أجمل وأكمل كل مواسم الطبيعة.
واعلم أيضا، أن هذا الربيع هو حلقة من حلقات الزمن، وأنه بهذا زمن الشباب المتجدد في الوجود المتجدد، وهو موسم من مواسم الحياة، بل هو أصدق وأبلغ كل مواسم الأعمار.
ونعرف أن الإنسان في هذا الوجود هو أساسا كائن ثقافي واحتفالي، ونعرف أيضا، أن أيام الاحتفال المسرحي لا يمكن أن تكتمل إلا باحتفال الطبيعة، وذلك في مهرجانها الذي هو مهرجان العين، وهو مهرجان الأذن، وهو مهرجان كل الحواس، وهو مهرجان كل النفوس، وهو مهرجان كل الأرواح الحية في هذا الوجود الحي.
ولقد تذكرت، بهذه المناسية الاحتفالية، بأن شجرة الاحتفالية قد نمت وظهرت وانكشفت للعيون لأول مرة في ربيع سنة 1974، وتذكرت أيضأ، أن جماعة المسرح الاحتفالي، والتي ضمت في بداياتها الأولى المخرج الطيب الصديقي والممثلة ثريا جبران والشاعر الغنائي محمد الباتولي والكاتب والمنظر عبد الكريم برشيد، قد ولدت في مدينة احتفالية وعيدية ومهرجانية اسمها مراكش، وقد كان ذلك سنة 1979.
ولأن من طبيعة فصل الربيع أن يظهر ويختفي، وأن يذهب ثم يعود جديدا، ولأنه حين يعود، بعد كل دورة حياة، فإنه لابد أن يعود وهو أجمل وهو أكمل وهو أكثر حياة وهو أكثر حيوية، ولقد تفتقت عبقرية المسرحي المغربي، ابن مدينة تارودانت، على أن يكرمها بمهرجان مسرحي، وأن يعطي لهذا المهرجان المسرحي الربيعي اسم (ربيع تارودانت).
ومدينة تارودنت، مثلها مثل أختها وشقيقتها مراكش، هما معا مدينتا احتفاليتان وعيديتان، تمجدان الإنسان والإنسانية، وتعشقان الحياة والحيوية، وتنتصران للمدينة وللمتمدن الحضاري،
ولقد أسعدني الحظ أن أعود لهذه المدينة، والتي لي فيها أهل وأحباب، ولي فيها أصدقاء ورفاق في الطريق المسرحي، ولي فيها صور ومشاهد وذكريات جملية، وإنني لا آسف اليوم على أي شيء سوى أنني لم أحضر السنة الماضية أيام الدورة التأسيسة الأولى، ولقد كان ذلك لأسباب عائلية قاهرة، وأنا عادة لا يسعدني سوى الفعل التأسيسي، وأن يكون لي شرف المساهمة في فعل التأسيس، أما ركوب القطار في غير محطة انطلاقه، فذلك فعل لا أحبه ولا يليق بي.
 
مسرحيات متعددة في ربيع واحد
    ولقد عرفت الكلية متعددة التخصصات ورشتين مهمتين الأولى تتعلق ببناء الشخصية المسرحية، وأطرها الممثل والمخرج المسرحي المسرحي عبد الله شكيري، والذي هو أحد مؤسسي المسرح الجامعي الدولي بمدينة الدار البيضاء، وأما الندوة الثانية فكانت بعنوان (ورشة من النص إلى العرض) والتي أطرها الممثل والمخرج المسرحي جواد العلمي، والذي هو أحد الوجوه الأساسية والمهة في المشهد المسرحي بالمغرب، سواء في المسرح أو في التلفزة.
وفي (ربيع المسرح) بتارودانت حضرت ثلاثة عروض بأساليب جمالية مسرحية مختلفة، والتي هي (سرح مسجونك) لمسرح تانسيفت بمدينة مراكش، وهي مسرحية (لافيراي) لمؤسسة أرض الشاحن للثقافات بمدينة شفشاون، وهي مسرحية (رماد) من إخراج يونس رونا.
    وبالنسية لمسرحية (سرح مسجونك) والتي هي من إخراج الفنان حسن هموش، فهي استمرار للخط الفكري والجمالي لمسرح تانسيفت، مع إضافات وتنويعات جديدة بكل تأكيد، ولك ما كان منتظرا فقد لقي العرض المسرحي تجاوبا كبيرا من الجمهور للأسباب التالية:
إن الفرقة كانت وفية لنهر تانسيفت في اسمها. وكانت وفية للذاكرة الشعبية الشعبية المراكشية، وهي بهذا وفية لخطها (التحريري) ولمراكشيتها، والذي يتجلى في روح البهجة وروح الفرح وروح النكتة الذكية.
وهي مسرحية تلتفت إلى الخلف، ولكنها تنتصر للشباب، وتنتصر لربيع الحياة، كما أنها تنتصر للحيلة على حساب العار، وتنتصر للتمثيل داخل التمثيل، لأن الحياة تمثيل وتمثل، وهي مسرح وتمسرح وهي حكي ومحاكاة.
    أما العرض الثاني (لا فيراي) والذي كتب نصه المسرحي أنس العاقل وأخرجه ياسين أحجام، فقد حكى التاريخ بطريقة فنية جميلة جدا، كما أثار كثيرا من الأسئلة ومن المسائل الفكرية والسياسية بوعي وبجرأة فنية عالية، وفي كل هذه الأعمال المسرحية كان الأداء حيويا، وكان لعبا جادا، وكان مقنعا فكريا وممتعا جماليا.
 
أسئلة ومسائل جدبدة ومتجددة
    وفي مجال الفكر المسرحي والعلم المسرحي والفقه المسرحي، فقد طرح المهرجان أسئلة ومسائل جادة وجديدة للنقاش، ونظم مع الكلية بتاروانت ندوتين كبيرتين، لقد كانت الندوة الأولى عن الذكاء الاصطناعي في علاقته بالإبداع المسرحي، والتي اقترحها وأدارها باقتدار المفكر والفنان السي إدريس القري، والتي ساهم فيها مسعود بوحسين ونور الدين زيوال والإعلامي والمسرحي والباحث في التراث الشعبي عبد المجيد فنيش.
والجميل أن ورقة هذه الندوة قد كانت ذكية وموضوعية، وأنها لم تطرح الذكاء الاصطناعي ليكون بديلا عن العبقرية الإنسانية وعن الإبداع الإنساني، وقد اكتفت بأن أشارت إلى أن الذكاء الصناعي قد دخل مجالات الحياة العملية للإنسان، وأنه قد دخل المسرح أيضا، وأن تدخل هذا الوافد القديم الجديد في المسرح لا يمكن أن يتعدى درجة أن يكون فقط (كميسر ومساعد قوي، في الكتابة المسرحية، وفي صيغ التعبير الإبداعي الموجه للجماهير العريضة، ولشباك التذاكر).
وبخصوص ما قد نراه (هجمة) الذكاء الاصطناعي على الإبداع الفكري والعلمي والجمالي، فقد أجمع كل المتددخلين على الفرق الموجود بين الذكاء وبين الإبداع. وأكدوا على أن الذكاء فعل مادي له علاقة بالتدبير وبالتسيير، وبتعديل وتوضيح الموجود، أما الإبداع فهو فعل الخلق والابتكار، وهو إيجاد اللاموجود. وأعتقد أن ما يسمى اليوم بالذكاء الاصطناعي هو مجرد حيل بصرية، وهو نفس علم الميكانيكا، والذي كان يسميه العرب قديما بعلم الحيل،
وفي هذه الندوة أثيرت أسئلة كثيرة جدأ، وقد أشعرتني بعض هذه الأسئلة بأننا ما أوتينا من علم المسرح إلا قليلا، وبأن القضايا الأكبر والأخطر هي التي تنتظرنا، وتنتظر الذين سوف يأتون بعدنا، والذين عليهم أن يواصلوا ما بدأه الذين سبقونا، ويبقى أن نشير إلى أن من حسنات ربيع تارودانت أنه سلط الضوء على الأسئلة والمسائل الكبرى والحقيقية، ليس في المسرح فقط، ولكن في كل الأجناس الأدبية والفنية المختلفة.
    أما الندوة الثانية، فقد كانت تحت موضوع (اتجاهات المسرح المغربي) والتي أدارها الأستاذ الجامعي د. عبد السلام اقلمون، وشارك فيها الأساتذة المسكيني الصغير، الشاعر الزجال والمسرحي صاحب تجربة (المسرح الثالث) والدكتور جلال اعراب، الناقد والباحث والأستاذ بجامعة بن زهر بأكادير وعبد الكريم برشيد.
والسؤال الذي طرحته هذه الندوة هو التالي:
(إلى أي حد أثرت هذه الاتجاهات المسرحية في التجربة المسرحية داخل المغرب وخارجه؟)
    وفي ندوة (اتجاهات المسرح المغربي) تدخل الممثل المسرحي جواد العلمي, وقدم مقطعين من مسرحيتين شارك فيهما. وهما (المقامة البهلوانية) تأليف عبد الكريم برشيد وإخراج عبد المجيد شكير، والثانية مسرحية (الرمود) من تأليف الأستاذ المسكيني الصغير وإخراج بوسرحان الزيتوني.
 
قصة الاحتفالية كما رواها ااحكواتي
    وفي هذه الندوة كان علي أن اقدم الاحتفالية من جديد، وأن أقرأها من خارجها، وأن أشرح للحضور علاقتي بها، والتي هي علاقة عشق صوفي قائم على التماهي والحلول، ولقد اخترت أن أتحدث عن هذه الاحتفالية باعتبارها قصة، وأن أكون الحكواتي الذي يحكي ويحاكي، ولقد أكدت دائما على أن هذه الاحتفالية، في جميع مراحلها ومواسمها ودرجاتها، هي مجرد قصة من قصص الخيال العلمي والفكري. وبخلاف ما قد وصفها بعض النقاد المغاربة. فهي ليست خرافة، لأنها فعل في التاريخ. من غير أن تدعي أنها هي كل التاريخ.
وفي احتفالية (الناس والحارة) يقول السجين، وهو يخاطب الناس من وراء جدار وهمي:
(سادتي .. قصتي أكبر وأخطر من حياتي، ومن الممكن أن تكون أغنية، ومن الممكن أن تكون ملحمة أيضا، ومن الممكن أن تكون لوحة مرسومة على جدار الزمن، ومن الممكن أن تكون تاريخا لما أهمله السادة المؤرخون، ولقد اخترت أنا أن تكون احتفالية مسرحية، وأن أعيشها معكم، فما قولكم، دامت لكم إنسانيتكم وحريتكم؟).
وقصتي أنا الاحتفالي، هي ننفس قصة الاحتفالية، وهذه القصة فيها الحياة وفيها الحيوية، وفيها كل عناصر الحياة، من حالات ومقامات ومن صور ومشاهدات. ومن أفعال وتفاعلات، ولهذا يقول السجين مخاطبا الجمهور الموجود خارج سجنه أو سجونه:
(بحق الله، لا تسألوني عن قصتي، هل هي ضاحكة أم باكية، وهل هي مفيدة أم مسلية، وكل ما أعرفه عنها هو أنها قصة، مثل كل القصص، هي قصة وكفى، وقد لا تكون هذه القصة قصتي وحدي، وقد لا أكون أنا هو أنا، وقد لا أكون واحدا من الناس، ومن يدري، فقد أكون كل الناس وأنا لا أدري..).
وإن الذي ألهمني أن أتحدث عن الاحتفالية باعتابرها قصة، هو العالم والمؤرخ ديورانت وزوجته في كتابهما (قصة الحضارة)، ولقد حاولت أن أقرا وأن أكتب وأن أسرد قصة الاحتفالية في ضوء قصة الحضارة، انطلاقا من قناعتي بان تاريخ البشرية هو تأريخ البحث والكشف والاكتشاف والاختراع والابتكار.
ولقد كان ضروريا أن أطرح السؤالين التاليين:
— كيف يمكن أن نقرأ قصة الاحتفالية قراءة فلسفية؟
— وكيف يمكن أن نتجاوز سرد الأحداث والوقائع إلى القبض عن المعاني الخفية فيها؟
وإن كل ما أفعله اليوم، في هذه الكتابة، هو أن اخطو خطواتي الاحتفالية بثبات، وأن أرى نفسي من خارج نفسي، وأنا اخطو هذه الخطوات باتجاه ما يمكن وما ينبغي أن يكون، في مسرح الوجود وفي المسرح المسرحي.
 
باب التغيير يفتح من الداخل
    وهذا الربيع المسرحي، كما عشناه في مدينة تارودانت، هو فعل للتغيير والتجديد، بحثا عن أجمل الأيام وعن أصدق الساعات واللحظات، ونعرف أن (التغيير باب لا يفتح إلا من الداخل)، ومن يفتح باب هذا البيت ينبغي أن يكون صاحب البيت، وأما إذا فتحه الغريب فإنه لا يمكن أن يكون إلا لصا، وقديما قالت العرب (أهل مكة أدرى بشعابها)، ونحن نقول اليوم أهل البيت المسرحي أدرى ببيتهم، وهم أعرف الناس بقضايا وخبايا هذا البيت، وأهل تارودانت أدرى بفنهم وعلمهم، وأدرى بفكرهم وصناعاتهم الجميلة، من الذين يتخوفون على الإبداع من هجمة الذكاء الاصطناعي أجمع.
    وبخصوص هذه االدورة الثالية لربيع تارودانت يقول مدير المهرجان محمد حمزة المسرحي، الفنان الشامل والمتكامل في تقديمه لهذه الظاهرة المسرحية (نواصل المسار الذي بدأنا في مسرح الأفق تحت شعار  (فرجة تكوين استمراية) عاقدين العزم على جعل موعد ربيع المسرح تقليدا سنويا واحتفالا وطنيا يجمع عشاق أبي الفنون من كل مكان، ويفتح الفرص أمام الشباب الموهوب للاستفادة من خبرات كفاءاتنا الوطنية.
 
التكريم
    وفي حفل الافتتاح، والذي لم أتمكن من حضوره، تم تكريم الرائدة المسرحية نزهة الركراكي. وكان من قدم شهادته في مسيرتها ومسارها رفيقها في نفس المدرسة المسرحية، والذي هو الفنان النجم محمد الجم.
    أما في حفل الاختتام فقد تم تكريم الممثل المسرحي عبد الرحيم المنياري، والذي قدمت في حقه شهادة صادقة من الممثل جواد العلمي.
    أما الرئاسة الشرفية للدورة الثانية لربيع تارودانت فقد أسندت للفنان النجم محمد الجم. ولقد ضمت إدارة المهرجان مجموعة كبيرة من الأسماء في مختلف المجالات.
    أما ضيف الماستر كلاس لهذه الدورة فقد كان أستاذ التعليم الفني، الممثل والمخرج فريد الركراكي خريج المعهد العالي والتنشيط الثقافي بالرباط، والذي له مساهمات واضحة في المسرح وفي التلفزة وفي السينما.
وانتهت الدورة. ويبقى المسرح، ويبقى ربيع المسرح.
    ألف تحية لكل الأسماء الجميلة التي صنعت الحدث، والتي كان أغلبها في الظل، والتي ناضلت من أجل أن يكون الربيع في تارودانت ربيعا للمسرح والمسرحيين.
Visited 40 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي