الصحافة في خدمة السياسة.. إريك رولو

الصحافة في خدمة السياسة.. إريك رولو

جورج الراسي

       علاقتي مع الصحافي الفرنسي إريك رولو كانت فريدة في نوعها..
تبدأ الحكاية في سبعينيات ومطلع ثمانينيات القرن الماضي، حين حطت في العاصمة الفرنسية وفي لندن، مجموعة من كبريات المجلات العربية هربا من آتون الحرب التي غرق فيها لبنان…
صدف أنني تعاملت مع معظمها بحكم تواجدي في باريس، ومن ضمنها مجلة “الحوادث”، الأكثر شهرة وانتشارا في ذلك الوقت، و التي اتخذت من لندن مقرا لصدورها.. وكنت أغطي لها أسبوعيا تطورات بلدان المغرب العربي…
لا أدري نوع الذبابة التي “عقصت” تلك المجلات حينها، لكي تتهالك على اجتذاب بعض الأقلام الصحافية الفرنسية… لا شك أن الأمر كانت وراءه دوافع تجارية.. وسياسية…
    وبما أن مجلة “الوطن العربي”، الصادرة في باريس، لصاحبها وليد أبو ظهر، نجحت في اقتناص Philippe Rondot – وكنت أنا أيضا من كتابها عند صدورها – فكان لا بد لمجلة “الحوادث” من أن تجد مرادفا له… فوقع الخيار على Éric Rouleau.. ووقع الخيار علي للقيام باستمالته وإقناعه بمهامه الجديدة…
    الحقيقة أن المهمة كانت بمنتهى السهولة، لأن “المكافأة” التي عرضت على إريك كان من الصعوبة رفضها، إلا إذا كنت ممن ربحوا الجائزة الكبرى في “اللوتو” اللبناني، أي عشرات المليارات من “الليرات”. 13000 ألف فرنك فرنسي عن كل مقال – مجموعة خربشات – أي بحدود ألفي دولار أسبوعيا (لم يكن اليورو قد ظهر بعد). أي ما يوازي مرتب شهر لصحافي مرتب درجة أولى من أبناء جلدتنا…
(صدقوني ليس هناك مسؤول فرنسي لا يحلم بالقبض “عدا ونقدا”، حتى لو كان يريد تمويل حملته الانتخابية لرئاسة الجمهورية… فيقدم له مبلغ 50 مليون يورو بالحقائب الدبلوماسية وغير الدبلوماسية، وبمجرد فوزه تكون مهمته الأولى اغتيال ولي نعمته..!).
     الأنكى من ذلك أنه كان من مهامي إعطاء Éric المبلغ بنفسي بعد كل مقال، بفضل تحويلات السيدة أمية اللوزي من لندن، وهي التي حملت لواء المجلة بعد اغتيال زوجها الصحافي الألمعي سليم اللوزي في بيروت…
وللأمانة أقول إن أمية راشد المقدم، ابنة طرابلس، كانت “على قد الحمل”، واستطاعت أن تنهض بالمجلة بعد اغتيال سليم اللوزي، الذي خطف وعذب وقتل “برصاصة في الجبين”. وكانت له كلمة عشية استشهاده يقول فيها: “إذا كانت الغربة قد فرضت على الصحافة الانفصال عن الوطن. فإنها يجب ألا تفرض عليها الانفصال عن الحرية”.
    وكانت السيدة أمية قد اتخذت من الصديق سليمان الفرزلي بمثابة “محرك غوغل” في المجلة، لكونها طارئة على المهنة..!
وكان “البيك” منح الصلح يكتب الافتتاحيات تحت أسماء مموهة…
 
“مستعربون” جدد
    لقد درجت العادة أن نتكلم عن “المستشرقين”، أي الباحثين الأجانب، الذين اتخذوا من الاهتمام بأمور وشؤون الإسلام والوطن العربي منهجا لهم، أمثال Jacques Berque و André Miquel و Olivier Roy و Vincent Monteuil… وقد أتقن معظمهم العربية.
    إلا أننا قلما تكلمنا عن “المستعربين “، أي من “تفرنسوا” و هم من أصول عربية، وقد عمل عدد كبير منهم في كبريات الصحف الفرنسية، أمثال Paul Balta و Robert Solé , و Simon Malley,  و Éric Rouleau نفسه…
والملاحظ أنهم كانوا في غالبيتهم العظمى من المصريين، قبل قدوم الأفواج الجديدة من المصريين أيضا، ولكن من اللبنانيين والسوريين كذلك…
” إيلي”، أو “إلياس رفول” هو الاسم الحقيقي لـ Éric Rouleau. 
من مواليد القاهرة في 1 – 7 – 1926، ابن عائلة يهودية. بدأ عمله الصحفي في مجلة Egyptian Gazette عام 1943، وكانت أول “خبطة” صحفية قام بها، المقابلة التي أجراها مع حسن البنا مؤسس “حركة الإخوان المسلمين” عام 1949، قبل مدة قصيرة من اغتيال البنا.
عام 1951 بدأ يتعرض لمضايقات الشرطة الملكية بسبب آرائه “التقدمية”، ونزعت عنه الجنسية المصرية، فسافر ليستقر في فرنسا.
فهو ممن هاجروا قبل عام من ثورة “الضباط الأحرار”، لا هربا من الثورة، ولا لمعارضته قرارات التأميم، و لا احتجاجا على المد القومي.
بدأ حياته الجديدة بالتعاون مع “وكالة الصحافة الفرنسية” AFP – قبل أن يلتحق عام 1955 بكبريات الصحف الفرنسية Le Monde, مما أتاح له فرصة السفر إلى دول عديدة في الشرق الأوسط و إفريقيا.
عام 1963 أجرى مقابلة مع جمال عبد الناصر، مما اعتبر منعطفا هاما في حياته المهنية، إذ فتحت أمامه أبواب مصر والعالم العربي من جديد، فغطى حربي 1967 و 1973، و أجرى حوارات ولقاءات مع العديد من الزعماء، ومن بينهم الرئيس أنور السادات والملك حسين وياسر عرفات (الذي التقاه على مأدبة في القاهرة عام 1968، في أول ظهور علني للزعيم الفلسطيني)، ودافيد بن غوريون ، وموشي دايان واسحاق رابين وشيمون بيريس والعقيد معمر القذافي. وكان مقربا من الزعيم الكردي مصطفى البرزاني، ويتابع عن كثب تطورات القضية الكردية.
 
في خدمة السياسة 
    انتخاب François Mitterand رئيسا للجمهورية الفرنسية عام 1981 شكل منعطفا رئيسيا في مسار رولو، إذ طغت الاهتمامات السياسية تماما على المتابعات الصحفية.
عام 1985 عينه ميتران سفيرا في تونس – مقر الجامعة العربية ومقر منظمة التحرير الفلسطينية منذ خروجها من بيروت عام 1982 إثر الغزو الإسرائيلي، رغم امتعاض دوائر الخارجية الفرنسية من “عدم احترام الأصول” في التعيينات الدبلوماسية.
في 27 حزيران / يونيو 1985 قدم أوراق اعتماده إلى الرئيس بورقيبة.
    كان عين فرنسا على تطورات الأوضاع، وارتبط بعلاقات وثيقة مع “أبو إياد” – صلاح خلف – صندوق أسرار ياسر عرفات ومنظمة التحرير – وكان من عادته أن يلتقيه في حديقة منزله في تونس – تفاديا لأجهزة التجسس والالتقاط – وقام لا حقا بكتابة سيرته في كتاب بعنوان: Abou Iyad : un Palestinien sans patrie ( 1979 ) – “أبو إياد فلسطيني بدون وطن… وكان أبو إياد مولجا مهمة التعاون مع المخابرات الفرنسية، لدرء خطر “إرهاب الحركات الإسلامية”.
كما كتب لاحقا كتابا آخر عن القضية الفلسطينية بعنوان: Les Palestiniens d’une guerre à l’autre – الفلسطينيون من حرب إلى أخرى-
وطبعا لو كان بيننا اليوم لوجد مادة وفيرة لكتاب ثالث حول غزة.
وكان أحد مؤلفي كتاب بعنوان “الحرب الثالثة” – الحرب العربية – الإسرائيلية عام 1967 Le Troisième combat.
لقد بقي سفيرا في تونس عامي 1985 و1986، قبل أن يعين سفيرا في تركيا بين عامي 1988 و1992، في أوج التطورات الخليجية.
وقد تخلل ذلك النشاط الصحفي والدبلوماسي فترات من البحث العلمي والمحاضرات الجامعية، فقد “أفرزته” جريدة لوموند مرتين لكي يلقي محاضرات في الجامعات الأميركية: جامعة كاليفورنيا وجامعة لوس أنجلوس UCLA, وجامعة Princeton في نيويورك، المرة الأولى كانت عام 1974، والمرة الثانية في 1978 – 1979. والواقع أنه تمتع دائما بحاسة شم قوية تميز عادة كبار الصحفيين.
في عام 1960 وصل إلى تركيا قبل ساعات من حدوث الانقلاب العسكري الذي اطاح بمندريس، وفي عام 1974 كان في قبرص 36 ساعة قبل الإطاحة بالمطران مكاريوس. وفي نفس تلك السنة وصل إلى أثينا قبل 24 ساعة من انقلاب العقداء.
وفي عام 1970 وصل القاهرة قبل ست ساعات من رحيل جمال عبد الناصر.
وقد رأت فيه بعض ألسنة السوء نذير شؤم، فطالبت بإرساله إلى كل بلد التغيير مطلوب فيه..!
 
… ولبنان له قرص
    وبما أن للبنان قرص في كل عرس، فقد ارتبط اسم رولو بالمفاوضات التي دارت عام 1986 لتحرير “الرهائن” الفرنسيين في لبنان: Marcel Carton و Marcel Fontaine و Jean- Paul Kauffmann، والتي كان مقدرا لها أن تتم في 15 آذار/ مارس 1986 عشية انتخابات تشريعية في فرنسا.
فقد تنافس الرئيس ميتران ورئيس وزرائه آنذاك جاك شيراك (في ظل المساكنة بين اليمين واليسار) على توقيت إطلاق سراحهم بما يخدم المصلحة الانتخابية لكل واحد.
كان الرئيس جاك شيراك يكن له كرها شديدا لأنه يعتبره من معسكر خصمه ميتران.
وعندما تقرر أن يزور شيراك تونس بصفته رئيسا لوزراء فرنسا، رفض أن يكون سفير بلاده في تونس ضمن مستقبليه.
فجرت تسوية تقضي بأن يكون رولو متواجدا في فرنسا خلال زيارة شيراك لتونس…!
وكانت الصداقات اللبنانية لإريك رولو قد لعبت دورا حاسما في مسألة الرهائن. فقد كانت المفاوضات مع الجانب الإيراني جارية على قدم وساق لإطلاق سراحهم. ووصل طلب من قيادة حراس الثورة في طهران إلى الزميل الصحافي في باريس أسعد حيدر بضرورة تبليغ قصر الإليزيه بهذا التطور.
وبما أن أسعد لم يكن ممن يرتادون القصر في أوقات فراغهم، سارع إلى إبلاغ رولو بالأمر في تونس، وهو الذي تابع الموضوع مع الرئاسة الفرنسية.
ومن الصداقات اللبنانية الأخرى لرولو المخرجة السينمائية التي رحلت شابة: جوسلين صعب، وعدد كبير من الصحفيين والسياسيين..
منذ عام 2004 اختار إريك الانطواء في بلدة Uzès في جنوب فرنسا، حيث وافته المنية يوم الأربعاء في 25 شباط / فبراير 2015 عن عمر ناهز 89 عاما..
ورغم أنه نهى أولاده الثلاثة عن امتهان الصحافة، إلا أن اثنين منهما اختارا مهنة المتاعب.
..
    صدقت مقولة: “الصحافة تقود إلى كل شيء… شرط الخروج منها”…
Le journalisme mène à tout, à condition d’en sortir “…
Visited 52 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

جورج الراسي

صحفي وكاتب لبناني