الترجمة مسؤولية ثقافية وأخلاقية: في نقد ترجمة كتاب “التخييل الذاتي” لإيزابيل غريل
لبنى الصبح
اقتنيت كتاب إيزابيل غريل من باريس إبان صدوره عام 2014 لحاجتي إليه في أطروحة الدكتوراه، ولم تتح لي فرصة الاطلاع على الترجمة العربية للكتاب إلا مؤخرا في معرض الكتاب بالقاهرة. سبق لي أن سمعت تعليقات ساخرة عن الترجمة، لكنني لم أعرها أهمية. وبعد الاطلاع عليها قررت كتابة هذا المقال لعله ينقل إلى القارئ العربي مشاكل الترجمة خاصة عندما يقدم عليها أناس تعوزهم اللغتان معا (لغة الانطلاق واللغة الهدف).
تقديم:
الترجمة فعل ثقافي وحضاري يسعف على تقارب الشعوب وتفاهمها، ويُمكِّنُ بعضها من الاستفادة من بعضها الآخر لتدارك تأخرها وتخلفها. وهي أمانة على عنق كل مترجم لنقل المعاني من اللغة الأصلية إلى اللغة المترجم لها بدقة وأمانة. وفي هذا الصدد بين عبد الله العروي أن من بين الأسباب التي حفزته على إعادة ترجمة كتاب ” الإيديولوجية العربية المعاصرة” هو كثرة الأخطاء التي تخللت الترجمة الأولى ([1])، وهو ما يحول دون فهم العقل الغربي على حقيقته. أليس من أسباب تعثر مسيرتنا الثقافية هو سوء الترجمة التي غالبا ما يقوم بها أشخاص لا يتقنون إلا لغتهم القومية. ” لأني أرى اليوم أنها (الترجمة) أم المسائل فيما يتعلق بموضوع كتابي هذا، أي تحديث العقل العربي. لقد تكلمنا منذ عقود، ولا نزال نتكلم، على تعثر مسيرتنا الثقافية. نكثر من التحليلات والافتراضات، ناسين أو متناسين أم كل ثقافة تتحدد أساسا بمادتها. ما هي المادة التي تغذي أذهان كتابنا ومفكرينا؟ ما هو حظها من الفكر الحديث كما تعرفه الشعوب المتحضرة المحيطة بنا؟ لا نعني هنا ما يقرأه المثقف العربي في لغاته الأصلية، بل ما يقرأه معربا ذلك المثقف الذي لا يحسن إلا لغته القومية”([2]).
تستدعي الترجمة- علاوة على نقل المعنى بأمانة- تمكُّن المترجم من نظاميْ اللغتين المترجم منها وإليها، وتعرُّفه أسرار اللغة وبنياتها الداخلية، وقدرته على إيجاد ما يماثل صيغها التعبيرية في اللغة الهدف دون السقوط في الترجمة الحرفية أو التسانن (transcodage)، وتفوقه في ترك التأثير نفسه لدى القارئ على المستوى الدلالي والأسلوبي والتركيبي والعاطفي. يقول أمبرتو إيكو في هذا الصدد:”الترجمة تعني فهم نظام اللغة وبنية نص معين في تلك اللغة وإنشاء نسخة مكررة من النظام النصي والتي يمكن- تحت تأثير وصف معين- أن تنتج تأثيرات مماثلة لدى القارئ، على المستوى الدلالي والنحوي والأسلوبي والإيقاعي والصوتي والرمزي أو بالنظر التأثيرات العاطفية التي استهدفها النص المصدر”([3]).
ليست الترجمة من لغة إلى أخرى بالأمر الهين لتعذر المقايسة بينهما بحكم خصوصية كل لغة على حدة. وهو ما يقتضي من المترجم- علاوة على ما سبق ذكره- أن يقوم بعملية التفاوض ([4]) بحثا عن المكافئات المناسبة دون الإخلال بالمعنى الأصلي؛ وهو ما يتطلب منه دراية وحنكة لتعذر أحيانا الاهتداء إلى ما يقابل كلمة مؤطرة في سياق ثقافي معين.
وهذا ما يبين أن الترجمة ليست نقل لغة إلى لغة أخرى، بل هي نقل نسق ثقافي إلى آخر؛ ما يستحث المترجم على التوثيق بالتحري في الكتاب المترجم من الجوانب جميعها حتى يكون على دراية بسياقاته الثقافية ورهاناته المعرفية وعدته الاصطلاحية.
سياق المقدمة أملاه علي اطلاعي على الكتاب المترجم (التخييل الذاتي لإيزابيل كريل)([5]) الذي يتعذر قراءته لإبهامه وركاكته ، على عكس النسخة الفرنسية ([6]).والتي جاءت سلسلة وواضحة، وهو ما حفزني- بالنظر لأهمية الموضوع- على قراءة هذه الترجمة قراءة نقدية للتأكد ما إن كانت سليمة وأمينة أو مخيبة للآمال المعلقة عليها.
تنطلق هذه المقالة من سؤال يهم مدى احترام المترجميْن لمعاني الكتاب الأصلي لإيزابيل كريل، وانضباطهما لقواعد الترجمة المتعارف عليها، كما يسائل المراجعة لمعرفة ما أن كان لها دور في الرقي بالترجمة إلى المستوى المنشود أو إسهام في تحريف المعاني الأصلية والارتداد بالترجمة إلى الدرك الأسفل.
لا يقتصر الأمر على عدم تمكن المترجميْن من اللغة الفرنسية، بل يتعداه إلى ركاكة تعبيرهما باللغة العربية لعدم قدرتهما على تبيئ الترجمة باحترام ضوابط اللغة العربية، والحرص على عدم معاكسة المعنى الأصلي أو الإخلال بالسياقات الأصلية. فعلاوة على حرفية الترجمة وانزلاقاتها، أعاين أيضا وضع الكلام بين المضاف والمضاف إليه، والعطف بالإضافة، وربط النعت بغير المنعوت المقصود، واستعمال كلمات في غير موضعها، وعدم الدراية بمواقع الجمل الاعتراضية، وعدم الإلمام بقواعد همزة التسوية وغيرها من الحالات النحوية واللغوية.
ونظرا لكثرة الملاحظات، أكتفي بالصفحات الأولى لإعطاء نظرة إجمالية عن سوء الترجمة في الكتاب باعتماد النقاط الآتية:
1- يتضح أن المترجمين تصرفا في النص الأصلي بمجانبة المكافئات المناسبة لسوء تقديراتهما من جهة، وعدم تحكمهما في ناصية اللغة الفرنسية وفهم أسرارها من جهة ثانية. وهو ما جعلهما يجانبان الصواب، ويعاكسان المعنى الأصلي. قد أجد العذر للمترجميْن ربما لقلة تجربتهما ولطابعها الغر، لكن اللوم على المراجع الذي كان عليه إن يتفطن لسوء الترجمة، ويعمل على تقييم أدائها، والرقي بها إلى المستوى المنشود.
2-نورد النصين الأصلي والمترجم فيما يلي:« Le nouveau roman du je, bâtard engendré au xx°siècle par la fiction (du latin Fingere :façonner) et le réel) « le réel impossible » est officiellement baptisé en 1977 « autofiction » par Segre Doubrovsky sur la fameuse quatrième de couverture de son roman Fils ».P7″فقد أصبحت رواية ضمير المتكلم الجديدة باعتبارها الشكل الهجين الذي نشأ خلال القرن العشرين بفعل التداخل بين التخييل (عن اللاتينية والذي يعني شكل أو كيف) والوقع (الواقع غير الممكن عند لاكان- تدعي ولأول مرة تخييلا ذاتيا وبصفة رسمية سنة 1977 من طرف سيرج دوبروفسكي الذي وضعها (التسمية) على ظهر غلاف روايته الشهيرة “الابن”.ص.23أكد منظرو التخييل الذاتي على فكرة الخلقة الغربية للتخيل الذاتي لأنها الابن غير الشرعي لأبوين مختلفين في هويتهيْما (التخييل والواقع). فهو- بهذه الصيغة- جنس مستولد ولقيط (Bâltard). أما التهجين – غير الوارد في السياق- فيُقصد به طريقة غريبة في تشابك الواقع والخيال للرد على دعاة الجنس الخالص أو الاختلاط (لا يمكن الجلوس على كرسيين دفعة واحدة، كما ردد فليب لوجون أكثر من مرة). يعود النعت ” الشهير” على الصفحة الرابعة من الغلاف التي اكتسبت شهرتها من ابتداع جنس جديد، ومن الارتكاز عليه للتنظير لتوجه جديد في الكتابة عن الذات. يعنى باللفظ اللاتيني Fingere اصطنع وتصنع (Feindre-façonner) وليس ” شكل أو كيف”؛ أي قدرة التخييل على تصنع الواقع واختلاقه.3-إن عنوان رواية سيرج دبروفسكي جناسيٌّ في طبعه ومقصده. فهو يفيد الابن (Fils) بالنظر إلى علاقة السارد بأمه، ويفيد الخيوط( Fils) السردية المتشابكة كما ورد في المقدمة. في السياق نفسه لم يتجشم المترجمان الرجوع الى رواية “الابن/ الخيوط” للتأكد من المقصود بخيوط الكلمات (fils des mots) عوض الترجمة الحرفية التي اعتمدها المترجمان بقيادة المُراجع (سلاسل الكلمات). وفي النص الذي سأستدل به عن ” الأوراق” يتضح ان المترجمين ترجما حرفيا عبارة (Etre soi) دون التحري في معناها ومكافئها في اللغة العربية.4-علاوة على الصياغة الركيكة للمترجمين، عمدا إلى ترجمة الكلمات حرفيا. لا تقصد إزابيل كريل بلفظ (Avalanche) المعنى القريري المباشر (انهيار الجليد) بل المعنى المجازي (كمية كبيرة من الأشياء، حدث جسيم ومزلزل).
«Il était aussi l’auteur de livres fondamentaux sur les auteurs canoniques Corneille et Proust) et d’un écrit sur la nouvelle critique »p.8″كان أيضا صاحب الأعمال الأساسية حول المؤلفين ” الكنائسيين” ( كورناي وبروست) وصاحب كتاب حول النقد الجديد”.ص25.لم تقصد إزابيل غريل ” المؤلفين الكنائسيين”، بل “المؤلفين المكرسين” الذين يتمتعون بالقدرة على وضع قوانين وسننن أدبية جديدة (Canons littéraires) وتكريسها. ولا يقصد سيرج دوبروفسكي بعبارة (au soir de leur vie,p8) ” في مساء حياتهم ص.25″ (لم يتساءل المترجمان على من يعود الضمير “هم”؟ أيعقل أن يعود على غير العاقل؟) بل يعني خريف عمرهم أو بلوغهم من الكبر عتيا، ولا يقصد سيرج دوبروفسكي بعبارة (c’est un privilège réservé aux importants de ce monde,p8) “إنها امتياز لما هو أهم في هذا العالم ص26″ بل يقصد ما يلي: إنها امتياز مقصور على المرموقين أو المشاهير في هذا العالم. و لا يقصد بعبارة (J’écris recta ça tombe pile ,p9 ) ” أكتب بانضباط سقوط إلى الوراء ص28″ بل يعني ما يلي: أكتب بدقة وفي أحسن الأحوال. أكتفي بهذا القدر لكثرة العبارات والألفاظ المشوهة من هذا القبيل.5- يترجم المترجمان النص حرفيا دون فهمه في سياقاته المختلفة. وهذا ما جعلهما يضعان مقابلا مكيانكيا لحرف الفاء باللغة الفرنسية (°f) دون أن يدفعهما الفضول إلى البحث عن المقصود به. سبق لسيرج دبروفسكي أن تحدث أنه سيخصص مذكرة لهذياناته، ثم أشار في أكثر من موقع وخاصة في الصفحة 9 عندما صرح بـ”أن التخييل ( الخلق/ الأسلوب) والواقع (الشيء) يوجد في الأوراق (Feuillets) التي تُنسخُ فيها أحلامُ الذات عينِها”،ص.9. ولهذا كان عليهما أن يثبتا حرف (و) الذي يحيل إلى الورقة.6-تعمد سيرج دوبروفسكي عدم إثبات علامات الترقيم في هذياناته، لكن المترجمين- في غفلة من المراجع- تطاولا على اختصاص المؤلف بوضع علامات الترقيم في غير محلها وموضعها، ودون استيعاب الخلفية التي تتحكم في مقصد المؤلف بتأكيد الترابط العضوي بين مرضه النفسي وحصص العلاج النفسي، وبين حالته الوجودية وطريقته الخاصة في الكتابة؛ وهو ما أفضى به إلى استحداث جنس أدبي جديد يراهن على تخييل أحداث شخصية محض واقعية.7- تُرجمتْ عبارة “ََAutofiction intrusive ou auctoriale”بالتخييل الذاتي المقحم والنظمي في حين المقصود هو التخييل الذاتي الذي يتدخل فيه الكاتب (Auteur) أكان كائنا ملموسا أم خياليا، وتُرجم عنوانُ كتاب فانصون كولونا بـ” التخييل الذاتي واضطرابات أدبية أخرى” في حين المقصود هو ” التخييل الذاتي والهوس بأكاذيب أخرى”، وتُرجمتْ عبارةُ (introspection classique) ب” الاسترجاع الكلاسيكي” في حين المقصود هو “الاستبطان الكلاسيكي”. لا تقصد إزابيل غريل” بعبارة ” J’écris un TEXTE EN MIROIR un LIVRE EN Reflets,p9 ” ما ترجمه المترجمان ” أكتب نصا معكوسا، كتابا تحت الضوء ” ص28، بل تقصد نصا في شكل مرآة كتابا في شكل انعكاسات” …الخ. علاوة على ذلك وردت أخطاء كثيرة في إثبات أسماء الأعلام والتواريخ والهوامش وعناوين الكتب.8- بما أن المترجمين لا يفهمان النص الأصلي، فقد عمدا على نقله حرفيا بطريقة ركيكة. أعطي أمثلة مع العلم أن الكتاب كله مكتوب بهذا الشكل. ” منذ فرويد، والأنا تفر من نفسها. تجمع الذاكرة الواقع والتخييل، فيصبح المتكلم مفككا. لقد اعتبر التخييل الذاتي منذ البدء سيرة ذاتية أعيد النظر فيها من قبل التحليل النفسي” ص30. ” التمييز والتقسيم وسحق الذات في عالم خارج الأعراف التقليدية، حيث يمكن أن يخضع كل شيء فيه للمساءلة والتشكيك، تلقي الإنسان في عصر الشك، ومن هذه الخسائر تتكون نواة التخييل الذاتي….وتفضل بدلاً من ذلك التزام ضمير المتكلم الذي يعكس المجتمع الحالي بواسطة التعبير” ص. 31. “أن مصطلح التخييل الذاتي كان قد أحدث من طرف المؤلف قبل سنه 1975 ثم نسي”، “ف- 1635 (….) أكتب نصا معكوسا، كتابا تحت الضوء بالفعل أنا أكتب المشهد الذي رأيت، والذي أرى، هنا، يبدو الأمر قاسيا. جالس هنا على الإطلاق، هذا صحيح أطلاقا، سيتم النسخ مباشرة، أكتب بانضباط سقوط إلى الوراء. ص28.9-تحتاج الترجمة إلى التحري في الموضوع واستقصائه قبل الإقدام على ترجمته ( ما يُصطلح عليه في مجال الترجمة بالتوثيق). يتضح من خلال الأخطاء الفادحة المشار إليها سابقا، أن المترجمين يلقيان الكلام على عواهنه، ويترجمان بلا تفكير ولا روية، ويستخفان بالقارئ إن لم نقل يستغفلانه مقدمين له بضاعة بائرة وفاسدة ومُدلِّسة. كان على دار النشر ( رؤية)- والحال هكذا- أن تعرض الكتاب على لجنة القراءة للتأكد ما إن احترم المترجمين لضوابط الترجمة. كما كان على دار النشر (أرمان كولان) أن لا تأذن بترجمة الكتاب إلا بعد التأكد من توافر المترجمين المزعومين على القدرات والكفايات المنشودة. استفحلت في العقود الأخيرة ظاهرة المترجمين المزيفين الذين يشكلون خطرا على المثاقفة بتشويه ثقافة الأخر، وإفساد الذائقة اللغوية، ومعاكسة المعاني الأصلية، واللهث وراء النشر والمال على حساب الجودة والنزاهة الفكرية. خاتمة:
في ختام هذه المقالة يتضح لي أن الترجمة مسؤولية ثقافية وأخلاقية جسيمة تستدعي شروطا علمية كثيرة لعل أهمها هي الأمانة العلمية، حتى يتحقق التواصل الفعال بين الشعوب، وتُروَّجُ المعارفُ كما هي دون تصرف أو تحريف. وهي تتطلب من المترجم أن تتوافر فيه جملة من المواصفات لنقل المعرفة من سياق ثقافي إلى آخر باعتماد الوسيط اللغوي المناسب، والتفاوض بحثا عن المكافئ الملائم.
إن الفشل في تحقيق هذا الشرط يؤدي لا محالة إلى سوء الفهم والتقدير بين الشعوب، وتشويه المعنى ونقل المحتويات بشكل خاطئ، وقد يفضي أحياناً إلى نتائج كارثية في بعض المجالات. لذا، يجب أن يكون المترجمون والمراجعون والمدققون اللغويون والمحررون على درجة عالية من الكفاءة والوعي بوظيفة الترجمة المثلى، وبتحمل المسؤولية حفاظا على سمعتهم العلمية وسمعة المؤسسات الأكاديمية التي يمثلونها. وهو ما يتطلب المزيد من الاستثمار في المجال المعرفي حرصا على تطوير مهارات الترجمة لتؤدي مهمتها في تقارب الشعوب وتوصلها وتفاهمها.
_____________________________________________
[1] -عبد الله العروي، الإيديولوجية العربية المعاصرة، ترجمة محمد عيتاني، دار الحقيقة، ط1، 1970.
[2] – عبد الله العروي، الإيديولوجيا العربية المعاصرة، (صياغة جديدة)، المركز الثقافي العربي،ط1،1995.
[3] -Umberto Eco, Dire presque la même chose expérience de traduction, Grasset, p.2003.
[4] – فيما يخص مفهوم التفاوض، ينظر إلى المصدر نفسه، ص. 18.
[5] – إزابيل كريل، التخييل الذاتي، ترجمة حنان أقجيح وفاطمة عبيد، مراجعة وتقديم سعيد جبار، منشورات رؤية عام 2017.
[6] -Isabelle Grell, l’autofiction, Armand Colin,2014.