“التين والعقاب” قصص من الضاحية المفقودة

“التين والعقاب” قصص من الضاحية المفقودة

 المصطفى اجماهري

                  إن المكان في حالات كثيرة، ليس حيزا جغرافيا فقط، فهو أيضا البشر، والبشر في زمن معين.

                                       عبد الرحمن منيف، سيرة مدينة، 1994

       سواء في مجال البحوث أو في الإبداع أحاول أن أعمل في إطار مشروع كتابي ينطلق من المحلي متوخيا إضاءة جوانب من المجتمع المحيط بي ومن تجربتي الحياتية. وتندرج مجموعتي القصصية “التين والعقاب” Figues et châtiment في هذا الإطار المرسوم. هذه المجموعة صدرت في سلسلة آداب العالم العربي عن دار النشر الفرنسية لارمتان في باريس سنة 2016. وتتضمن الأضمومة اثنا عشر قصص قصيرة، عبارة عن حكايات شخصية ووقائع صغيرة عشتها أو عايشتها في فترة المراهقة بضاحية الجديدة إبان ستينيات القرن الماضي مع بروز أولى علامات الحياة العصرية في هذه المنطقة.

   حاولتُ في هذا العمل التخييلي رصد ثقافة الضاحية القروية في علاقتها الملتبسة بالمدينة. كما رصدت فيها بعض سلوكيات أهل الضاحية، وغالبيتهم ينتمون لنفس المنطقة، إزاء مدينة يعتبرونها مصدرا للقوة المعرفية والاقتصادية والقانونية، ومصدرا للسلطة أيضا. ومن المفيد الإشارة إلى أن إهمال الضاحية في أجندات البحث الميداني رافقه أيضا، أو أدّى إلى تغييب أهلها الأصليين، المنحدرين من نفس المنطقة، والذين استوعبهم الامتداد العمراني فذابوا، اليوم، داخل نسيج بشري متنوع تطلق عليه الأدبيات الاجتماعية “الأحياء الهامشية”. ذلك أن تناولي للموضوع انطلق من معرفة مباشرة وليس افتراضية لمكان في الخيال. حيث الملاحظ أن غالبية من كتبوا عن الهوامش لم يعرفوها وإنما صنعوها من نسج خيالهم وبلغة مطبوعة بالسوداوية والتذمر.

   فمن خلال محطات قصصية، تصدّيتُ في هذه المجموعة إلى الضاحية المفقودة ذات الطابع القروي والتي استمرت في الوجود خاصة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي قبلما يطالها التحول التدريجي ابتداء من منتصف الثمانينيات. ثم جاء امتداد المدار الحضري فشمل أراضيها الفلاحية، حتى أصبحت مغطاة، مع توالي السنين، بالعمارات والمساكن الفردية والبنى التحتية.

***

   من هذه الضاحية القروية، والتي لم تعد اليوم موجودة، استرجعتُ مسارات أناس بسطاء عايشتهم بعين الطفل والمراهق الذي كنته. شخصيات بسيطة ارتبطت بالعمل الفلاحي واليدوي. أبطال متواضعون قلّما يتم الاهتمام بهم في الحياة العامة. جرفهم تيار النسيان فغابوا من صفحات التاريخ. غالبية هذه الشخصيات تتعرض، بحكم جوارها من المدينة، لتأثيرات التحديث والتمدن، كما يتجلى ذلك من خلال بعض الأمثلة : الطحّان الذي يكتشف السينما ومعها أفلام كلينت إستوود، الزوجات البدويات اللواتي يقعن في شراك طيار متدرب، العامل الفلاحي الذي لا يفهم الحكم عليه بالحبس وهو لم يفعل سوى أن استضاف امرأة متزوجة وحاملا، ثم المحارب القديم الذي يتوهّم أنه ضابط كبير في الجيش فيعامله الجيران على أساس من ذلك الوهم. هكذا في مجموع القصص يتقابل الوعي القروي البريء، المشبع بالسذاجة والتلقائية، مع ممارسات مدينية تقوم على النفعية وتسعى إليها.

   لقد مارست المدينة سحرها وقوتها على الضاحية من خلال توفير مواد الاستهلاك والخدمات وما مارسته من مثاقفة على أهل الضواحي. من تمّ رصد الكتاب بعض سلوكيات هذه الفئة من الناس إزاء عملية التحديث التي تسارعت بعد الاستقلال. فالقرويون المتاخمون للمدينة (هنا الجديدة) كانوا يعرضون منتوجاتهم (بيض وخضراوات) على الفرنسيين القاطنين بفيلات حي البلاطو، بينما يتعلم أطفالهم في المدارس القريبة ويستفيدون من وسائل الترفيه المتاحة (سباحة في الشاطئ، تردد على السينما، ارتياد ملعب كرة القدم).

***

   فؤاد العروي، صديق فترة المراهقة في الجديدة، في تقديمه للمجموعة، وصف هذه القصص بكونها “مادلينات بروستية”، وهو يرى أن “الطفولة، كما عشتُها، كانت بمثابة حقل لا ينضب من الحكايات والذكريات والأشياء المُشاهدة. فكل قصة من تلك القصص، كما يقول، “ترجعنا فجأة وبقوة، لذكريات الأيام الماضية، تلك الأيام  التي كنا نظن أنها قد اختفت إلى الأبد، لكنها لا تنتظر إلا لمسة الراوي لنعود إليها، كما هي، سليمة، بغض النظر عن عوادي الزمن”. فمن منا لم يتعرض يوما للعقاب في الكُتاب القرآني بسبب طيش أو عدم انضباط ؟.

   القصة المشار إليها، “التين والعقاب”، عنوان المجموعة، تروي كيف أن بعض الأطفال لكونهم قطفوا بعض حبات التين من مزرعة مجاورة للمسيد، عوقبوا من طرف الفقيه بالسوط على باطن القدمين. كان ذلك جزاء غير متناسب مع “الجريمة” الصغيرة المقترفة، ولكنه فعل اعتبر خطيرا ما دام أن جنان فواكه التين الطرية، وأيضا غرفة المسيد حيث يدرس الأطفال، هما معا في ملكية سي الجلالي. ولهذه الحكاية مغزى، كما في باقي الحكايات.

   وفي قصة “صنادل المتعة” على سبيل المثال، أحكي كيف أن أبناء الفقراء في ستينيات القرن الماضي، كانوا ينتعلون صنادل من نوع يسمى فليكسوبلاستيك. وقد يلجأ الأطفال أحيانا لألعاب صبيانية ماكرة من أجل التسلية ليس إلا، فيفقد أحدهم تلك الصنادل الرخيصة، ولكنها تكون غالية بالنسبة للأب إلى حد أن فقدانها قد يسبب غضبه. يحدث ذلك عندما يلعب الطفل ويغرق صندله في الوحل. من تمّ يضطر الأب للرجوع من أجل البحث عنها في غبش الغروب.

   تعج المجموعة بمثل هذه الحكايات عن نماذج إنسانية من الضاحية البائدة: اثنا عشر قصة، ولعلها أكثر من ذلك، لأن كل قصة تضم في ثناياها العديد من الطرائف.

Visited 40 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

المصطفى اجماهري

كاتب وناشر مغربي