برج الذّهب الموحّدي.. حارس صومعة إشبيلية الخيرالدا
د. محمد محمد الخطابي
يرى غيرُ قليلٍ من المهندسين المعماريين والمؤرّخين وخُبراء العُمران فى اسبانيا ومن جنسيّاتٍ مُتعدّدة أن هذا البُرج الشامخ الذي ينعت بـ: (برج الذهب..Torre de Oro) يُعتبر من أقوى وأمتن وأصلب الأبراج والقلاع والحُصون الحربية والدفاعية الذي شيّد فى القرن الثالث عشر 1220 خلال حكم دولة الموحّدين المغربية فى اشبيلية الفيحاء على ضفاف نهر ”الوادي الكبير” الذي ما زال يحمل اسمَه العربي القديم إلى اليوم.
برج الذهب الحارس الأمين
واعتُبر هذا البُرج الموحّدي الخالد الحارس الأمين لصومعة الجامع الأعظم بعروس الأندلس إشبيلية التي أصبح يطلق عليها اليوم الخيرالدا (من بناء الموحّدين كذلك)، التي تقع على مقربةٍ منه والتي ما فتئت تناطح السّحاب، وتتحدّى الزلازل التي عرفتها هذه المنطقة منها زلزال 1860 المدمّر الشهير الذي ضرب لشبونة وما جاورها وبلاد الأندلس ووصلت اهتزازاته القوية إلى شمال افريقيا حيث تضرّرت من جرّائه صومعة (حسّان) بالرباط التي تعتبر الأخت التوأم لصومعتي الخيرالدا بإشبيلية و(الكتبية) بمدينة مراكش البهجة، وقد تمّ بناء صومعة الجامع الأكبر فى إشبيلية (الخيرالدا) بأمر من الخليفة أبي يعقوب المنصور الموحّدي بعد انتصاراته فى مدينة شنترين البرتغالية فى التاريخ المتراوح بين (580 – 594 / 1184 – 1198)، وتربط الصّوامع الثلاث توأمة بروتوكولية موقّعة بين بلديات هذه المدن الثلاث منذ أواسط الثمانينات من القرن الفارط أشرفت عليها بنفسي خلال تقلدي لمنصب المستشار الثقافي بسفارة المفرب بمدريد فى ذلك الإبّان.
بكاء السّماء
كانت إشبيلية السّاحرة عاصمة الخلافة، وهي حاضرة الملك المنكود الطالع الشاعر الرّقيق المعتمد بن عبّاد، الذي اقتيد مكبّلاً بالسلاسل الثقيلة والأصفاد الحديدية، من طرف أمير المرابطين يوسف بن تاشفين، إلى منفاه السّحيق فى أغمات بالقرب من مدينة مراكش، رفقة زوجته الفاتنة الحسناء الشاعرة اللعوب اعتماد الرّميكية وسائر أفراد عائلته.. وذائعة الصّيت هي القصيدة المؤثرة التي يصف فيها الشّاعر الأندلسي أبو بكر ابن اللبّانة الداني هذا الحدث التاريخي المؤسف والحزين، والذي يقول في بعض أبياتها:
تَبْكِي السَّمَاءُ بِمُزنٍ رَائِحٍ غَادِي / عَلَى البَهَالِيلِ مِنْ أَبْنَاءِ عَبَّادِ
عَلَى الْجِبَالِ الَّتِي هُدَّتْ قَوَاعِدُهَا / وَكَانَتِ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ذَاتَ أَوْتَادِ
يَا ضَيْفُ أَقْفَرَ بَيْتُ الْمَكْرُمَاتِ فَخُذْ / فِي ضَمِّ رَحْلِكَ وَاجْمَعْ فَضْلَةَ الزَّادِ
وَيَا مُؤمِّلَ وَادِيهِمْ لِيَسْكُنَهُ / خَفَّ القَطِينُ وَجَفَّ الزَّرْعُ بِالوَادِي
إِنْ يُخْلَعُوا فَبَنُو الْعَبَّاسِ قَدْ خُلِعَوا / وَقَدْ خَلَتْ قَبْلَ حِمْصٍ أَرْضُ بَغْدَادِ
حَانَ الوَدَاعُ فَضَجَّتْ كُلُّ صَارِخَةٍ / وَصَارِخٍ مِنْ مُفَدَّاةٍ وَمِنْ فَادِي
وَالنَّاسُ قَدْ مَلَؤُوا الْعَبْرَينِ وَاعْتَبَرُوا / مِنْ لُؤْلُؤٍ طَافِياتٍ فَوْقَ أَزْبَادِ
سَارَتْ سَفَائِنُهُمْ وَالنَّوْحُ يَتْبَعُهَا / كَأَنَّهَا إِبِلٌ يَحْدُو بِهَا الحَادِي… إلخ القصيدة.
بين رنّة الخلخال وسرعة البديهة
ويحكي لنا التاريخ انّ المعتمد ابن عبّاد كان ذات يوم مشمس يتنزَّه مع شاعره ابن عمّار في مرج الفضّة – أحد المتنزهات الجميلة بضواحي إشبيلية المطلة على نهر الوادي الكبير – فقال لصديقه الوزير ابن عمّار وهو ينظر محدّقا فى صفحة النهر الجارف: أجز: «صَنَعَ الريحُ منِ الماءِ زَرَد » (يقصد أن يكمل رفيقه بيت الشعر)، إلاّ إنَّ بديهة ابن عمّار كانت بطيئة، فسكت طويلاً، وفكّر مليّا ولم يكمله، وكانت بقربهما إمرأة حسناء تغسل الملابس في النهر وانتهى الى المعتمد من بين تشابك أغصان الأشجار الكثيفة رنين خلخالها ، فقالت على الفور مستكملةً صدر بيت المعتمد : «أيُّ درعٍ لقتالٍ لو جمَد». وقد تعجَّب المعتمد إعجاباً كبيراً من موهبتها بالشعر، ومن سرعة بداهتها، وافتتن بجمالها الملفت، فسأل عنها، فقيل له إنها جارية لرّميّك بن حجّاج واسمها اعتماد، فذهب إلى صاحبها “رميّك بن حجّاج” واشتراها منه وتزوّجها، وعُرِفَت بعد ذلك بلقب اعتماد الرميكية، وكانت أقرب زوجات المعتمد إليه، ومن أحبّ محظياته إلى قلبه. بل وقد كان لقب المعتمد بالأصل هو “المُؤَيَّد بالله”، لكن بعد زواجه من الرميكيّة غيَّر لقبه إلى المُعتمد على الله تيمُّناً واستبشاراً باسمها “اعتماد”.
هذه آثارنا تدلّ علينا / فانظرُوا بعدنا إلى الآثار..!
من أين يولد الوادي الكبير؟
وبالمناسبة أدرج للقراء الكرام قصيدة مقتضبة من ترجمتي عن اللغة الإسبانية بعنوان: “الوادي الكبير”.. للشّاعر الإسباني الأندلسي الكبير المعروف مانويل ماتشادو. المدرجة فى كتابي الصّادر مؤخّراً فى الأردن الشقيق عن دار النشر (خطوط وظلال للنشر والترجمة والتوزيع ) المرموقة بعنوان: (قطوف دانية من الشعر الإسبانيّ و الأمريكيّ اللاّتينيّ المعاصر)..
Rio guadalquivir يقول الشاعر “ماتشادو” عن نهر”الوادي الكبير”، الذي ما زال يشقّ الأراضي الأندلسيّة ويحمل اسمه العربي القديم حتّى اليوم:
ألم ترَ سلسلة جبال كاسورلا
حيث يولد الوادي الكبير
بين الحِجارة قطرةً، قطرة
هكذا تتولّد أغنية
مثل هذا النّهر الخالد
المُنساب نحو قرطبة
ثمّ صوب إشبيلية
وأخيراً يضيع فى اليمّ
الزّاخر العميق .
جادك الغيثُ إذا الغيث همَى!
يطيب لي أن أغتنم هذه السانحة، لأحييي بالمناسبة فى هذه الومضة الاسترجاعية الخاطفة، عن برج الذهب وصومعة إشبيلية الخيرالدا، مجموعة (أندلسّيا) العتيدة الوارفة الظلال، التي لا يألو المشرفون عليها بألمعية فائقة جهداً، ولا يدّخرون وسعاً فى التعريف بالتاريخ الحافل لأجدادنا الأبرار الميامين، من عرب وأمازيغ، فى شبه الجزيرة الإيبيرية، التي خلّد أخبارَها وأشعارَها وتاريخَها ومآثرَها العديد من العلماء والدارسين والمؤرخين الثقات، أذكر منهم على سبيل المثال وليس الحصر ، العالم الأندلسي الجهبذ الجليل ابن بسّام الشنتريني (من مواليد مدينة شنترين البرتغالية) فى كتابه الكبير الزاخر: (الذّخيرة فى مَحاسن أهل الجزيرة)، مثلما فنّد ودوّن أخبار مدينة غرناطة الحمراء الشاعر والعالم والمؤرّخ الأندلسي المعروف لسان الدين ابن الخطيب فى كتابه الشهير: (الإحاطة فى أخبار غرناطة)، ومعروف أن هذا الشاعر الصادح هو صاحب الأبيات المعروفة التي ضربت شهرتها الأطناب عن الأندلس، والتي يقول فيها: جادك الغيث إذا الغيث همى / يا زمان الوصل بالأندلس…لم يكن وصلك إلاّ حلما / فى الكرى أو خلسة المختلس.