هكذا تكلمت روح المكان في “عدالة المكان”

هكذا تكلمت روح المكان في “عدالة المكان”

لحسن أوزين

“إذا كان الناس يفضلون في بعض الأوقات تذكّر الأيام الجميلة من الماضي، فإنّ الأيام القاسية يصبح لها جمالٌ من نوع خاص،

حتى الصعوبات والمعاناة التي عاشوها تتحول في الذاكرة إلى بطولة غامضة وممتعة،

فهم لا يصدقون أنهم احتملوا كل ذلك العذاب واستمروا بالحياة”.       / عبد الرحمن منيف

       (كتاب “عدالة المكان (الزبداني، مضايا، وداريا)” هو كتاب أعدته وحدة البحث النسوي في منظمة “النساء الآن” في عام2024. هذا الكتاب هو الأول في سلسلة من الكتب بعنوان “عدالة المكان”، التي ستغطي سياق التهجير القسري في ريف دمشق منذ عام 2011، موثقةً الكلمات التي روتها النساء اللواتي عشن التهجير وتجاربهن قبل مغادرة منازلهن وبعدها.)

    حاولت كالعادة، بنوع من الفضول، استجابة للأفكار والهواجس التي أثارها العنوان في ذهني، أن ألقي نظرة على هذا الكتاب، كقراءة بعض سطور المقدمة، النظر الى المحتوى: الفهرس. لكن كما يحدث، أحيانا، حين تفرض علي بعض الكتب نفسها. وجدتني غارقا في سحر الكتاب، ألتهم هذا الكم الهائل من الألم والمعاناة، والعذابات المروعة والرهيبة. ومن الفرح الجنوني في اكتشاف الوجه الاخر العظيم، المنسي والمقهور والموؤود غالبا، للوجود الاجتماعي الإنساني، للعطاء النسوي: فكرا، إرادة، شجاعة، فاعلية، صناعة للتاريخ، ونهوضا كالعنقاء…

    تجد القراءة نفسها أمام مسؤولية صعبة، أن تكون يقظة، مفتحة العيون والعقل والقلب. تنصت بعمق لروح المكان المتجذرة في ذاكرة وكل جوارح تجارب مجموعة من النساء، من الزبداني، مضايا، داريا…، وهي تتدفق شلالا ممتعا ومؤلما من السرد الذاتي الجميل، لغة، وفكرة، ورؤية للذات والأخر والعالم. وقد وجدت هذه الروح الموشومة في عمق الذات، في شكل الكتابة الذاتية، بعض الممرات النفسية الآمنة، بتوسط من الذاكرة. المسنودة والمدعمة من قبل المقدمات المعرفية والمنهجية لعملية اشتغال وحدة البحث النسوي في منظمة ” النساء الآن”.

    هكذا تشكلت نصوص هذا الكتاب تبعا لجدلية القمع والنضال، الموت والحياة، القهر والصمود، الفقدان والولادة من جديد…، لذلك يجد القارئ نفسه أمام كتابة تشهد على نفسها وعلى المجتمع وعلى همجية الدولة والنظام السوري. ولم تكن الكتابة تهدف فقط الى التطهير والخلاص من ألم العذابات الرهيبة التي ترسبت في جوف ذوات النساء، بل أيضا وبشكل أساسي، كان همهن حماية الذاكرة والتجارب والصرخة من النسيان والضياع والانكسار، والتأريخ للذات، والفرد والمجتمع والثقافة…

    لهذا جاءت نصوص الكتاب حارقة موجعة مشبعة بدلالات الفقدان والخيبات والعذابات التي سببها النظام البعثي الصهيوني، في إبادة المكان وتطهير، أو تصفية الإنسان اعتقالا، اغتيالا، إعداما، تهجيرا، تجويعا…، وفي الوقت نفسه هي نصوص مفعمة بالحب والقوة والشجاعة والتعاون والتضامن، والقدرة على بناء الذات وإثبات فاعليتها الخلاقة في تحدي الظروف القاهرة، وهمجية الدولة الفاشية الأمنية، و الرؤى والأفكار النمطية الجاهزة المُبخسة والمُقللة من شأن وقيمة وكرامة النساء.

أولا / أقنعة المقاومة ووجوه صهيونية

    لا يستطيع قارئ هذا الكتاب أن يقصي، أو يعزل السياقات الراهنة للقراءة. فصفحات الكتاب تحكي تجارب مؤلمة ومروعة من الإبادات التي تعرض لها الشعب السوري، والمكان/البيوت. حدث هذا في الريف وفي المدينة. وهذا الرعب الهمجي يرتبط راهنا بالإبادات التي تقوم بها الصهيونية الاستعمارية الاستيطانية الإسرائيلية. بدعم من بعض الدول الأوروبية وأمريكا. هكذا يجد القارئ نفسه أمام صهيونية محلية للنظام السوري الذي يبيد المكان والناس. ويحرق الأخضر واليابس بتحالف مع محور المقاومة الإيرانية وحزب الله. بالإضافة الى القوات الروسية.

    تأتي ذاكرة النساء على هذا الرعب الجهنمي الأقرب الى الاحتلال الصهيوني، في القتل والإبادة والتهجير القسري، وتفكيك الأسر والعائلات. وهدم وإبادة المكان، والسطو على الممتلكات، وفرض مشاعر وثقافة الخوف والإرهاب. الشيء الذي أدى الى تشريد الناس، وارتكاب جرائم فظيعة في حق المدنيين العزل. ومع كل صفحة تكبر المآسي ومعاناة السكان المرعوبين المهجرين، والمدفوعين تحت وطأة التهديد بالاعتقال والقتل، بشكل أو بآخر، الى المنفى القسري.

    مع القراءة تحضر الحرب، أو بالأحرى، الإبادة الصهيونية للمكان/البيوت، والشعب الفلسطيني. فتكبر الأسئلة المؤلمة على أن الصهيونية بوصفها استعمارا استيطانيا متوحشا، فماذا جعل النظام السوري وجها آخر للتفكير والممارسات الصهيونية وهو حاكم محلي؟ وتزداد الأسئلة التباسا في غياب الوعي النقدي، والالمام بالمعطيات الإقليمية والمصالح الجيوسياسية حين تشترك قوى المقاومة اللبنانية لحزب الله والمذهبية الطائفية العراقية الى جانب ولاية الفقيه الإيرانية في تدمير المدن والقرى السورية. وإبادة الشجر والحجر والبشر. وانتهاك حرمة البيوت وتحويلها الى مجرد أنقاض. وزرع التمزق والتشظي والتفكك الأسري والعائلي. وتدمير النسيج المجتمعي واللحمة الوطنية، بنشر العنصرية والطائفية والكراهية…

    لذلك يجد القارئ نفسه أمام ضرورة تعميق البحث والمعرفة، وإعادة النظر النقدي إزاء الأقنعة التي تتلبسها البشاعات والفظاعات المحلية. مختبئة تحت رداء المقاومة والوطنية، وما شابه ذلك من إيديولوجيات الوحش الاستبدادي المحلي.

ثانيا / سيرة المكان من سيرة النساء

    لم يكن صدفة أو تعسفا قراءة وتأريخ سيرة المكان من خلال سيرة النساء، أو العكس. لأن هناك علافة تفاعل جدلي متبادل التأثير والانفعال والمشاعر والأحزان والأفراح، بين النساء والمكان/البيوت. لأنها أمكنة مرتبطة بشكل خاص بالنساء، في إطار التقسيم الثقافي الاجتماعي للعلاقات الجندرية الاجتماعية. بالإضافة الى أن هذا الارتباط الانثربولوجي والسوسيولوجي بالبيوت والروائح والنباتات، ومختلف أنواع الورود والأزهار. وبشكل عام في العلاقة بالطبيعة، تحضر المرأة بشكل حميمي نفسي اجتماعي إنساني خاص. ولعل في الكتاب إشارات جميلة وعميقة الدلالة على هذا الترابط الجدلي الحميمي الروحي بين البيوت المكان/الطبيعة، والنساء. ومن ضمن هذه العلامات السيمائية الثرية بالمعاني والدلالات، تلك الأم التي عملت المستحيل لتعيد الحياة لشجرة التوت. و التشبث بالبيت حلما، فكرة، واقعا وأنقاضا، وذاكرة لا تقهر ولا تنسى. بل والأكثر من ذلك، إنها ذاكرة نسوية، لا تخون ولا تقبل بالتخلي أو بالبدائل من الأمكنة/البيوت الأخرى، داخل البلد، أو خارجه. إنها حالة من الارتباط العشقي المفعم بالحب بكل الزوايا والروائح والعلامات الفارقة…

    انطلاقا من هذا نفهم الموجهات الإرشادية( براديغم) لوحدة البحث النسوي، و استراتيجية الكتابة التي تعبر عنها نصوص الكتاب، على أن الكثير من التفاصيل والقضايا المحورية في الصراع الاجتماعي السياسي، تضيع وتصير جزءا من التاريخ المنسي والمهمش، إذا لم تحظ النساء بحق الكلام والشهادة والتأريخ والفعل الاجتماعي الإنساني. هذا يعني أن عدالة المكان، المجتمع، الثقافة والتاريخ…، تتأسس بناء على الاعتراف الاجتماعي السياسي والثقافي بالمنظور والرؤية والفعل النسوي في حماية الذاكرة وجبر الضرر، وتجاوز منظور ورؤية وفعل الممارسات التسلطية القهرية للنظام الأبوي الذكوري.

    وهذا ما تعلمنا إياه سيرة النساء والبيوت التي لا يمكن أن يكتبها الفكر والإبداع الذكوري. لأنه ببساطة بعيد عن روح وحميمية المكان، باعتباره المجال الخاص بالنساء والمتراس الذي يقف في وجه التهديدات والهواجس الإرهابية القهرية التي فرضها النظام الأبوي الذكوري في التنشئة الاجتماعية الثقافية على النساء: العار، الشرف، العرض، الاغتصاب، الذكورة…

    هذا ما يجعل البيت الحصن المنيع والسند القوي، للحرية والاستقلال والحصانة والقيمة الذاتية. الحضن والبوابة التي تتسع لتحتوي العالم، وتجمع كل التفاصيل الحياتية التي لا تثير تغلب الثقافة الذكورة.

    من هنا نفهم تلك الصور المادية واللامادية التي تحرص النساء على تخزينها في الذاكرة والقلب، وضمن الأوراق الخاصة. لأنها جزء من الهوية الذاتية النرجسية التي يصعب قبول بأي تحولات طبيعية واجتماعية يمكن أن تطالها بالتغيير والإبادة. تبقى حية في الذاكرة، كما لو كانت تسهم في إعادة إنتاج الهوية الذاتية للفرد.

ثالثا /الحصار، التجويع والتهجير القسري

    يأتي هذا الكتاب في تجاربه الذاتية الاجتماعية لحماية الذاكرة من الاندثار والتآكل، جراء التهميش والتغلب الهمجي للطاغية الذي يستأثر بكتابة التاريخ المزيف والمغلوط. كما أن هذه السير النسوية الذاتية المجتمعية تأتي لرد الاعتبار لهؤلاء النساء، ولكل الضحايا، الذين غيبهم انتصار القهر والظلم المحلي والإقليمي والدولي، في انتصار الجميع للمصالح الاقتصادية والجيوسياسية على حساب جرائم الحرب ضد الإنسانية التي ارتكبها النظام السوري بالتعاون مع قوى الممانعة والمقاومة. وبالتعاون مع الصمت الدولي في مؤسساته القانونية والجنائية والاخلاقية…

    فلا أحد يستطيع ترميم الفقد والخسارات والآلام والمحن والعذابات التي تجرعتها هؤلاء النساء، من حصار وتجويع وتهجير قسري، وفك الارتباط بين أرواحهن وروح بيوتهن التي تتغذى على انفعالاتهن ومشاعرهن وأحلامهن…

رابعا/ البطولات النسوية التي يجهلها النظام الأبوي الذكوري

    من يعرف قوة النساء وصبرهن وصمودهن، وقدرتهن على الولادة من جديد. و الدخول في نشأة مستأنفة بالتعبير الخلدوني، للأحلام والأهداف والتطلعات، وتحقيق الطموحات. سيعرف أن ما أتي عليه الكتاب من قوة النساء وصمودهن في وجه الظروف الصعبة، والمحن القاتلة، صريح وصادق ونابع من حقيقة الذات في النظر والتفكير والممارسة الاجتماعية الإنسانية.

    كما أن نصوص هذا الكتاب الجميل والثري، تؤسس فضاءات وأمكنة الذاكرة. في أفق الانتصار لتاريخ المقهورين والمهمشين، من منظور واسع تعددي وجندري للواقع الاجتماعي في تحولاته وتغيراته الاجتماعية السياسية.

    دون أن ننسى أن وراء كل هذا الكم الهائل من العذاب، وليس من الأوراق والحبر فقط، تجارب وخبرات وتاريخ كفاحي نبيل خاضته نساء قويات شجاعات. أثبتن قدرتهن على الصمود والإبداع في الممارسات الاجتماعية الثقافية والقيمية. وعلى التسيير والتدبير والتنظيم والتأطير. وأيضا على الدعم والتضامن والإحساس بآلام ومعاناة الاخرين. والجميل كذلك اقتحام التاريخ وتوثيق وقائعه وأحداثه…

    لن أدعي الإحاطة بأمل نصوص هذا الكتاب، في تنوعه وتعدده واختلافه، في ثرائه ورحابته، ككتاب مضياف، لمن يحسن الإنصات لألم ضرورة عدالة المكان، والإنسان.

     كما لو شبه لي أنه هكذا تكلمت روح المكان؟

Visited 115 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي