حكايات المقاهي: الثرثرة على الطريقة الإسبانية

حكايات المقاهي: الثرثرة على الطريقة الإسبانية

جورج الراسي

       كل ما هو اسباني له في مخيلتنا طعم خاص.  صحيح إن باريس توحي لك بالثقافة والرومانسية،  ولندن بالسياسة  والجاسوسية،  ولكن مدريد وريثة سبعة قرون من حضورنا،  ولها وقع خاص على أسماعنا. فليس هناك رقصة شعبية تقوم على خبط الأرض كالفلامنكو.. إلا الدبكة. و ليس هناك مشروب ناعم ورقيق كفيل بنقلك إلى عالم آخر كالسنغريا  Sangria إلا العرق البلدي…

فليس عبثا أن تكون اسبانيا في طليعة الدول الغربية التي اعترفت بدولة فلسطين بعد المجازر الأخيرة في غزة. وليس عبثا أن قصر الحمرا وقلاع الأندلس تحتل تلك المكانة في ذاكرتنا…

ومن يعرف مدريد،  الموزعة على شوارع مستقيمة ومتوازية بين  ساحتي  Cybele و Colomb يذكر الناس التي تتجمهر تحت اشجار شارع  paseo de Récoletos   الوارفة  اتقاء  للشمس الساطعة في أوائل الصيف.

عند الرقم  21  من  هذا  الشارع،  تقوم  مؤسسة ضخمة من الرخام والخشب المنحوت ذي اللون الأحمر،  تتصدرها لوحة مكتوبة بالأبيض تحمل اسم مقهى Gran Café de Gijon.

وعلى  المدخل لوحة من الحديد المصبوب تذكر بالعيد المئة لهذا المقهى الذي تم تدشينه في  15  أيار/ مايو من عام 1888.

مؤسس المقهى  Gumersindo Gomez  من مقاطعة  Asturia  أعطى للمقهى اسم بلدته الأصلية التي جاء منها إلى العاصمة   Gijon، في  ذلك اليوم  كان  حي  Récoletos  بعيدا عن وسط المدينة، علما أنه في أواخر القرن التاسع عشر، كان من المستحب أن تفتتح مقهى في حي “باب الشمس  ” المركزي La Puerta del Sol ، أو في محيطه القريب. وكان يفترض في هذا المقهى الجديد أن يكون ملجأ ليليا للهاربين من قيظ الحرارة الصيفية…

” جيل  1898″.. وريث كارثة الحرب الإسبانية- الأميركية  

لم يمض وقت طويل حتى بدأت سمعة ذلك المقهى بالانتشار لسببين أساسيين:

 – الأول  أن مسرح الأمير الفونسو  المجازر Théâtre du Prince Afonso بدأ يلاقي نجاحا ويجذب المشاهدين ومحبي الفن.

– السبب الثاني أهم بكثير وذو بعد تاريخي، ألا وهو الحرب الإسبانية- الأميركية، التي جرت بين شهري نيسان/ أبريل  وآب /أغسطس  من عام 1898، والتي  انتهت بكارثة لاسبانيا  تذكر بكارثة  1967 العربية… فقد أدت إلى إنجاز استقلال كوبا،  ووضع يد الولايات المتحدة الأمريكية على المستعمرات الإسبانية في جزر الكاراييب  Caraïbes ، وفي المحيط الهادي.

هذه  الكارثة  كانت في أساس نشوء جيل جديد من المثقفين، اللذين حاولوا فهم جذور تلك الهزيمة،  و إيجاد  الحلول  لمواجهتها. هؤلاء عرفوا بـ  “جيل  1898 “.

هذه المجموعة توسعت فيما بعد، لتضم كل  أطياف التيارات السياسية والثقافية في  اسبانيا، وتوزعت على مختلف الاتجاهات التي تتراوح بين الفوضويين  (الكاتب Pio Baroja)، وأنصار الجنرال فرانكو (زميله الكاتب Azorin)، ومن انطوأ على الماضي السلتي في مسقط رأسه، غاليسيا كالكاتب المسرحي Ramon Maria، أو من انتصب يعارض الإمبريالية الأميركية،  ويحمل شعلة الثورة الفرنسية، كشاعر نيكاراغوا  Ruben Dario، أو من انضوى في صفوف الحزب الاشتراكي، كالشاعر  Miguel de Unamuno.

ويقول الكاتب  Antonio Granados  في كتابه الذي خصصه لمقهى  Gijon  بعنوان : “De Gijon al Café Gijon  1949 – 2001″، أن القاسم  المشترك بين جميع هؤلاء المثقفين هو رفض  محاولات ترقيع الوضع الأسباني  La Restauration espagnole، كما جرى في عام  1874، والتي  تبين فيما بعد  كم كانت فاشلة وهزيلة… وضرورة  اللجوء إلى طريق آخر هو طريق للتقرب من الشعب،  والتواصل مع  “اسبانيا العميقة”، “اسبانيا الحقيقية” التي تعاني الفقر و التهميش.

وكان من انعكاس هذا التوجه الجديد انتقال مركز الثقل من مقاهي  Puerta del Sol  إلى  Gran Café de Gijon.

” الدردشة”  على  الطريقة الإسبانية… Les  Tertulias

هؤلاء  الزبائن الجدد في المقهى الجديد أدخلوا نمطا جديدا من “الحوار “، أقرب إلى ما نسميه بـ”الدردشة ” في مجتمعاتنا العربية. وهو يقتصر على تبادل حر و مفتوح للآراء حول شتى المواضيع، سواء كانت  علمية أو فنية أو سياسية أو غير ذلك من شؤون الساعه. هذا هو “جيل  98 ” الذي يريد أن ينعتق من كل الكوادر الجامدة سواء كانت مدنية أو دينية.

كانت  اللقاءات تبدأ عند الساعة السابعة مساء، حين يتقدم النادل كارلوس بسترته البيضاء المزدانة بالأزرار المذهبة والسيوف الحمراء  اللامعة، ويوزع على الحضور  ما لا بد منه  لكي تحلو السهرة: كأسا من الـ Sangria..

الحضور يجلسون وجها  لوجه أزواجا.. أزواجا، وبينهم جماعات من  النساء  المتحررات  الأقوياء  يطلق عليهن  لقب: Chicas  Aldomovar، نسبة إلى المخرج  الإسباني  الشهير ، الذي  طالما  جعلهن  بطلات  أفلامه، أمثال  Carmen  Maura  و Penélope Cruz.. اللتين تتصدران إحدى الطاولات.

الواقع أن المقهي  موزع على قسمين: واحد خارجي يشتمل على  الباحة  التي يملؤها  الضجيج، و آخر  داخلي  يتكون من قاعة هادئة يلجأ إليها كبار السن  المتكئين على طاولات  من الرخام الأسود…

هؤلاء الزبائن الجدد  أدخلوا ما عرف بتقاليد  الـ  “Tertulias”،  وأقرب ترجمة لها هي  تقاليد  “الدردشة ” في مقاهينا العربية، إذ يتم تناول أي موضوع دون مقدمات ودون جدول أعمال…

لكن  “جيل 98” جعل من تلك  “القعدات”  مناسبة لنشر أفكاره  الجديدة  المستمدة من الثقافتين  الإسبانية و الأوروبية..

  1936-  1939   الحرب  الأهلية  مرت من هنا…

عند اندلاع  الحرب  الأهلية  في اسبانيا  عام 1936، اقتصر دور المقهى  على توزيع  وجبات من الفطور  والغداء  لمقاتلي “الجبهة الشعبية ”  Frente Popular   المكلفين بحماية العاصمة مدريد. لكن المقهى اضطر إلى إغلاق أبوابه  خلال الحصار الطويل  للعاصمة.

وفي عام  1939  بعد سقوط العاصمة، خيم الحزن والسكينة على المقهى، وأصبح معظم رواده من أفراد الجيش  المنتصر .

لم تعد الحياة إلى المقهى  إلا في خمسينيات القرن المنصرم، رغم سيطرة النظام الديكتاتوري. وعادت “الدردشة” أقوى مما كانت عليه في الماضي، إلا  أن الرواد  هذه المرة كانوا من أنصار فرانكو، دون أن يكونوا بالضرورة  منخرطين  في صفوف  “الحركة  الوطنية”..

وكان  على “الجمهوريين” الذين  ظلوا  يرتادون المقهى  أن يلتزموا   جانب الحذر  و”قصر اللسان”، ثم يلتقون في مكان آخر للحديث بحرية حول زجاجة من النبيذ، كما وصف  ذلك الكاتب  Francisco  Umbral في كتبه حول هذا المقهى.

  دون كيشوت  حاضر بقوة…

على جدران ذلك المقهى  علق مالكه  لوحة تحفظ  نصا يعود إلى عام 1986، صاحبه هو  Camilo  José Cela، الحائز  على جائزة  نوبل للآداب. روايته  الأولى  بعنوان  “عائلة   Pascal  Duarte ”  الصادرة عام   1942 ، تعتبر  العمل الأدبي الإسباني الأكثر  ترجمة في العالم  بعد  “دون كيشوت”…

قاتل إلى جانب “الوطنيين”، لكنه رفض بعد ذلك دكتاتورية  فرانكو، و اتخذ موقفا محايدا  من  النظام  الذي أخضعه للرقابة. والطريف في الموضوع أنه عمل هو شخصيا كرقيب على الصحافة بين عامي  1943  و 1944.

وقد تم طبع  عمله الأكثر شهرة   La colmena  – La    laRuche   -(القفير)، سرا  في الأرجنتين عام  1951…

إن تنوع  الكتاب والمثقفين الذين  صنعوا  شهرة ذلك المقهى، خير دليل على مدى تعقد  تاريخ اسبانيا.. ذلك المقهى اختصر تاريخ اسبانيا كما يقول  Francisco   Umbra ، ويضيف:   “تلك  الدردشة ”  – Tertulias  –  هي أشبه ما تكون ببازل  اسبانيا.  المكان الوحيد الذي يمكن أن نجد فيه نوعا من التوازن الوطني.. إننا نعيش التوافق  بين الإسبانيتين”.

Visited 20 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

جورج الراسي

صحفي وكاتب لبناني