كريستين دُورْ السرفاتي.. ذكرى امرأة استثنائية

كريستين دُورْ السرفاتي.. ذكرى امرأة استثنائية

رحمان النوضة

صادف يوم 28 ماي الماضي، مرور عشر سنوات على وفاة السيّدة كريستين دُورْ السرفاتي (Christine Daure Serfati). بالمناسبة نعيد نشر كلمة التأبين التي كتبها رحمان النوضة:

       … هذه المرأة تستحق احترام وتقدير شعب المغرب. لماذا؟ لأنها ساهمت في تسريع وتيرة التقدّم السياسي للمغرب بحوالي عقد من الزمن. في حين أن آخرين، بما في ذلك بعض القوى السياسية والنقابية المغربية، ساهمت، بانتظاريتها،أو بخجلها،أو بمواقفها المحافظة، في تعطيل أو تباطؤ هذا التطورالسياسي.

السيّدة كريستين دُور هي أستاذة فرنسية، مناضلة، أُممية، شجاعة، وملتزمة بمبادئ الديمقراطية، وحقوق الإنسان. وقد ساهمت في نضال شعب المغرب من أجل نيل حقوقه الديمقراطية، وضد ديكتاتورية الحسن الثاني. وقد لعبت دورا هاما في مسار تنظيمات ثورية وسرية بالمغرب، خلال سنوات 1970. وهذه التنظيمات هي على الخصوص “إلى الأمام” و”23 مارس”. وكانت حياة هاتين المنظمتين وجيزة: تقريبا من سنة 1970 إلى سنة 1975. لكن التأثير السياسي لهاته المنظمات كان، بإيجابياته وعيوبه، قويا، وعميقا، وطويل الأمد. وبسبب قمع الدولة الشرس الذي كان سائدا خلال سنوات 1970، كانت مساهمات كريستين دُوربالضرورة خفية أو سرّية. ولهذاالسبب، كثير من المغاربة، بما فيهم بعض مناضلي اليسارالمغربي، لا يعرفون الدعم والمساعدات اللوجستية التي قدّمتها كريستين دُور إلى الثوريين المطاردين من بين مناضلي منظمتي “إلى الأمام”،و”23 مارس”، أو من تيارات أخرى. وأشهد أنني استفدتُ أنا أيضا من بعض مخابئ كريستين دُور، خلال بضعة شهور، عندما كان البوليس السياسي يبحث عنّي لكي يعتقلني. وبين عامي 1972 و1975 ، كان البوليس السياسي يبحث عن معظم قادة وأعضاء المنظمتين ”أ” (‘إلى الأمام’) و ”ب” (’23 مارس’). وخلال هذا الوقت الحالك الذي كُنّا فيه مطاردين، كان العديدمن المغاربة يرفضون مساعدتنا، ويتلافون الاقتراب منّا، بمن فيهم بعض أصدقاءنا، وشخصيات من القوى المغربية السياسية والنقابية التقدمية. وكان مناضلو “إلى الأمام” و “23 مارس” ملاحقين ومضطهدين، مثلما كان اليهود والشيوعيون مطاردين تحت حكم الفاشية في ألمانيا النازية، أو في فرنسا المحتلة إبان الحرب العالمية الثانية، أو مثلما كان الشيوعيون مضطهدين في عهد “المَاكّارثية”  (maccarthisme) في الولايات المتحدة الأمريكية. لأن الاعتقال كان آنذاك يعني “الاختطاف”، والاختفاء القسري، والتعذيب الطويل الأمد، وربّما الموت تحت التعذيب أو خلال الاعتقال في مراكز الاعتقال السرية.

وكانت كريستين  دُور تتدبّر الأمور بشجاعة لكي توفّر باستعجال للثوريين الملاحقين من طرف البوليس السياسي الملجأ الذي يختبئون مؤقتا فيه، وذلك في انتظار العثورعلى حلول أفضل. ومن بين الثوريين المغاربة الذين استفادوا من الدعم اللوجستي الذي كانت تُوفّره كريستيندُور: إبراهام السرفاتي، عبداللطيف زروال، بلعباس المشتري، عبد الفتاح الفاكهاني، عبد العزيز المنبهي، محمد السريفي،عبد الرحمان النوضة، الكرفاتي، رشيد الفكاك، ومناضلون آخرون، سواءً من منظمة “إلى الأمام”، أم من “23 مارس”، أم من غيرها.

وكانت كريستين دُور لا تتردد في مساعدة المناضلين المبحوث عنهم من طرف البوليس السياسي. وكانت تُخاطر بحياتها الشخصية،وبعائلتها، وبأبنائها، وبأصدقائها المقرّبين، وحتى بنقابة الأساتذة الفرنسيين التي كانت في قيادتها. ولم تكن شجاعة كريستين دُور من صنف المُخاطرة العمياء، أو التسرّع، أو التـهوّر، أو الاستخفاف بالأمور. بل كانت كريستين دُور ثورية محترفة. وكانت تفكّر جيّدا في كل مبادراتها، وتنظمها بعناية فائقة ومدروسة، لكي تنجح في إطار سرّية تامّة.

ولم تكن كريستيندُور تسعى  إلى الشّهرة، أو  المجد، أو الجاه، أو المال، أو الزعامة. وكانت تُـتـقن العمل في السّرية، وتضبط إجراءاتها. ولم أر قط كريستين دُور تتدخل في الشؤون الداخلية للتنظيمات السياسية المغربية، ولا تطرح شرطا سياسيا، ولا تُطالب بشيء ما مقابل المساعدة التي كانت تقدمها. بل كان المبدأ الذي يحرّكها كمناضلة ينحصر في تقديم بعض المساعدات اللوجستية للمناضلين المطاردين من طرف النظام السياسي القائم آنذاك.

ولو لم تُوجد كريستين دُور ورفاقها، فالاحتمال الأكبر هو أن العديد من أعضاء تنظيمات ‘أ’ (‘إلى الأمام’) و ‘ب’ (23 مارس) كان سيتمّ القبض عليهم فيعام 1972، وليس في نونبر 1974، أو في العام 1975. وبفضل المساعدة اللوجستية التي منحتها كريستين دُور، استطاع هؤلاء المناضلون مواصلة كفاحهم ضد النظام الاستبدادي خلال قرابة سنتين ثمينتين.

ولو لم توجد كريستين دُور ورفاقها، فالاحتمال الأكبر هو أن منظمة “إلى الأمام” كانت ستـتـعرّض للتصفية التّامة (عن طريق تسلسل الاعتقالات) في عام 1972، وليس في عام 1975. ولو لم تُوجد كريستين دُور ورفاقها، فمن الأكيد أن كتاب ”صديقنا الملك” لكاتبه ”جيل بيرو” لن يكون موجودا. لأن كريستين دُور هي التي كانت تتّـصل بكثير من عائلات المعتقلين، وهي التي جمعت معظم المعلومات الدقيقة الواردة في هذا الكتاب، عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ثم سلّمتها إلى الكاتب ”جيل بيرو”. وبدون هذا الكتاب، فالاحتمال الأكبر هو أنه ما كان سيطلق سراح العشرات من السجناء السياسيين في المغرب في سنة 1991، بل كانوا سيقضون ثمانية أوعشرة سنوات إضافية في السجون والمعتقلات السرية، إلى حين وفاة الحسن الثاني في عام 1999.

ولو لم تُوجد كريستين دُور ورفاقها، فالاحتمال الأكبر هو أن الإفراج عن المعتقلين العسكريين الباقين على قيد الحياة (32 من قرابة 60 معتقلا)، في المعتقل السّري المسمّى بـ ”تَازمَامارت”، لن يحدث في  العام 1991، وإنّما قد يتأجّل إلى ما بعد موت الملك الحسن الثاني في 1999. وفي هذه الحالة، فمن المحتمل أن أعدادًا أخرى من بين معتقلي “تازمامارت” قد يتعرّضون للموت قبل أن يُطلق سراحهم، مثلما حدث لرفاقهم الذي ماتوا داخل هذا المعتقل السري الرهيب.

ولو لم تُوجد كريستين دُور ورفاقها، فالاحتمال الأكبر هو أن التناوب على الحكومة بالمغرب (alternance) الذي قبل به الملك الحسن الثاني (والذي بدأ مع السيد عبدالرحمان اليوسفي من حزب ”الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية”) كان سيتأخّر بحوالي ثمانية أوعشر سنوات. لأن كتاب ”صديقنا الملك” لـ (جيل بيرو) ساهم بقوة في جعل هذا ”التناوب” على الحكومة ضروريا، ومستعجلا، وملحّا. 

وقد أحدث نشر الكتاب ”صديقنا الملك” (للكاتب ”جيل بيرو”) تأثيرا مشابها لتأثير قنبلة عملاقة. ولأول مرة في تاريخ المغرب، كشف هذا الكتاب بالتفصيل إرهاب الدولة الذي كان يمارسه النظام السياسي الذي بناه الملك الحسن الثاني (مثل اختطاف المعارضين السياسيين، وحالات الاختفاء القسري، والتعذيب، ومراكزالاعتقال السرية، وغيرها). وضرب هذا الكتابُ الملكَ الحسن الثاني في المجال الوحيد الذي يؤلمه: وهو صورته أو سمعته لدى المسؤولين الأوروبيين والأمريكيين في الولايات المتحدة الأمريكية. ونتيجة هذا الكتاب هي أن الملك الحسن الثاني اضطر، للمرة الأولى في حياته، إلى تقديم بعض التنازلات السياسية، مثل إطلاق سراح المئات من السجناء السياسيين، والقبول بالتناوب على الحكومة (وليس بالتناوب على السلطة السياسية الحقيقية)، بدءا بحكومة السيد عبد الرحمان اليوسفي، إلى آخره.

وكان المُطَلّق السّابق السيد ابراهام السرفاتي قد انتهى إلى حبّ هذه المرأة المُطَلّقة هي أيضا، كريستين دُور. وفي كتابهما المشترك (سيرة ذاتية) ”ذاكرةالآخر”  (Mémoire de l’autre)، كشف ابراهام السرفاتي في وقت لاحق حبّه الجيّاش تجاه هذه المرأةالشجاعة. بينما كانت هي في هذا الكتاب، تـتحدث عن علاقتها به بطريقة هادئة، موزونة، بل تقريبا محايدة. لكن السيدة كريستين دُور (التي كان مذهبها الأصلي هو المسيحية البروتستانتية) وافقت على الزواج بالمعتقل اليهودي المغربي ابراهام السرفاتي، وذلك فقط لكي تسمح لها إدارة السجون بزيارة ابراهام السرفاتي في السجن، وقبلت بأن يُعـقد هذا الزواج طبقا لطقوس الديانة اليهودية بالمغرب.  

واعتبارا للمساهمات النضالية للسيدة كريستين دُور إلى جانب شعب المغرب في كفاحه من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، يُستحسن بنا أن نمنحها الجنسية المغربية بعد وفاتها.  

وختاما، أعرب عن احترامي، وتقديري، وتعازي لعائلة الفقيدة، ولرفاقها، ولأصدقائها، وللشعب المغربي.

(الخميس 29 مايو 2014 ، الدار البيضاء)

Visited 242 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

رحمان النوضة

كاتب وناشط سياسي مغربي