الدكتور محمد بلاجي وجماعة الأوفياء في دريم لاند
الـمصطفى اجْماهْري
تمتد علاقتنا بالدكتور محمد بلاجي، أستاذ الأدب العربي، إلى أكثر من نصف قرن. فقد انطلقتْ هذه العلاقة ونحن تلامذة لديه بثانوية الإمام مالك بحي بلفدير في الدار البيضاء في بداية سبعينيات القرن الماضي. وبالنسبة لبعضنا فقد بدأت قبل ذلك في ستينيات نفس القرن. يا لها من روابط امتدت عبر الزمن واستمرت حاضرة بشكل أكثر هدوءا وروية، أواصر مبنية على الثقافة بمعناها الإنساني العميق وعلى اقتسام نفس الـمُتع وذات الأفكار. بحيث أن الدكتور بلاجي، الذي غادر ثانوية الإمام مالك، فيما بعد، ليرتقي أستاذا جامعيا، بكلية الآداب بنمسيك، تواصلت علاقتنا به خاصة من خلال ذ. حمادي كيروم، الناقد السينمائي المعروف، والروائي الراحل محمد غرناط، الذي بعدما كان تلميذا لدى الدكتور بلاجي في ثانوية بلفدير أصبح زميلا له في كلية الآداب.
أما الجماعة التي أقصدها بالحديث هنا، فهي “جماعة الأوفياء من الجيل الذهبي” كما يحلو للأستاذ بلاجي أن يسميها. وهي تضم ذ. أحمد لعيوني، مؤرخ منطقة امزاب، وحمادي كيروم، مدير مهرجان السينما المستقلة، ومبارك بيداقي المختص في القضايا الاجتماعية، وأنا. وكثيرا ما يحدث لنا أن نلتقي هنا أو هناك بالدار البيضاء أو الجديدة أو برشيد أو بدريم لاند (أرض الحلم) في الطريق الساحلية للولجة بين آزمور وسيدي رحال.
وغالبا ما يستضيفنا ذ. بلاجي في بيته الجميل بحي النسيم بالدار البيضاء. يوجد هذا البيت في موقع مُيسر لحركة السير بالنسبة لي وللأخ بيداقي ونحن قادمين عنده من الجديدة. إذ يقع تماما في نهاية الطريق السيار، قريبا من أول توقف في الضوء الأحمر، وبذلك نتفادى صعوبة الجولان داخل العاصمة الاقتصادية. يلتحق بنا ذ. أحمد لعيوني من ابن أحمد عبر محطة القطار النسيم، ثم ذ. حمادي كيروم، إن لم يكن مدعوا لمهرجان سينمائي أو لقاء تكويني خارج المدينة. وبعد تبادل الحديث في بيته وأخذ قسط من الراحة والمرطبات، يدعونا ذ. بلاجي لجولة أصبحت لدينا طقسا من الطقوس المتّبعة. حيث أتكلف أنا بالسياقة بينما يجلس بجانبي ذ. بلاجي ليدلني على الطريق. وفي المقعد الخلفي يجلس الثلاثي: بيداقي، لعيوني وكيروم. ودائما حسب طقوسنا المألوفة نتوجه إلى حي الولفة الذي ارتبط به ذ. بلاجي في فترة من حياته لنشرب هناك شايا أو قهوة، ثم نكمل المسار نحو كورنيش عين الذئاب نحو مؤسسة مسجد الحسن الثاني حيث نجتمع قليلا بمكتب ذ. بلاجي في المؤسسة، قبل أن نواصل المشوار ، من جديد، إلى حي بلفدير عبر شارع الجيش الملكي. وهناك قريبا من ثانوية الإمام مالك يدعونا ذ. بلاجي لوجبة غداء في أفخم مطاعم الحي.
في لقائنا الأخير في بداية هذا الشهر (يونيو 2024) والذي عقدناه بمطعم “محطة إفريقيا البستان” عند مدخل الطريق السيار الدار البيضاء، لمناقشة كتابين عن السينما للأخ حمادي كيروم، أثارتني ملاحظة : وهي أننا لم نتحرك من طاولتنا من الساعة 11.30 صباحا إلى حدود الساعة 17 مساء دون أن نحس بملل أو عياء. قرابة ست ساعات متواصلة في مناقشة الكتابين وقضايا أخرى عن السينما وعن أشرطة كبرى أثْرت وأثّرت في وجدان جيلنا، لمخرجين موهوبين مثل كوستا غافراس، وفرنسيس فورد كوبولا، وأوليفر ستون، وألان باكولا، وداميانو دامياني. وكان يمكن أن نستمر في الحديث والاسترجاع ساعات أخرى لولا هاجس رحلة العودة إلى بيوتنا قبل حلول الغروب.
ومن جميل المستملحات التي وقعت ذات مرة، أن ذ. بلاجي دعا “جماعة الأوفياء” للالتحاق به في دريم لاند أو أرض الحلم، وهي إقامة شاطئية تقع على الطريق الساحلية بين آزمور وسيدي رحال. هناك يملك أستاذنا شقة غير بعيدة عن البحر، مطلة على منظر جميل. التحقْنا به هناك حيث قدمت لنا زوجته الكريمة إفطارا مغربيا. وفي الغذاء أخذنا السيارة إلى سيدي رحال القريب ببضع كيلومترات. كالعادة، كنت في المقود إلى جانب مضيفنا، وفي المقعد الخلفي الأصدقاء الثلاثة. وفي منتصف الطريق، التفت الدكتور بلاجي إلى الأخ مبارك بيداقي وسأله: “سي امبارك ماذا تشتهي أكله في الغذاء، أقترح عليك شواء عند طاه مشهور، أو سمكا في مطاعم سيدي رحال”. لم يتردد الأخ مبارك في التفكير حيث حدّد اختياره في وجبة سمك في سيدي رحال. لكن ذ. بلاجي أضاف من أجل التدقيق : “وأي نوع منه تريد ؟”. وبلا أدنى تردد أجاب مبارك وكأنما كان ينتظر منه هذا السؤال: “شرغو ومعه بعض الصولات”. وبما أن طلبات الأخ مبارك لا تُرد، فقد وجهت السيارة إلى المكان المقصود.
كان الأخ مبارك يحظى بالأسبقية في اختيار الطعام، وأفترض أن سبب ذلك يرجع لكون ذ. بلاجي كان يتصل به هاتفيا ويكلفه بنقل الدعوة إلينا.
وحالما وصلنا إلى سوق سيدي رحال، تبضع الأستاذ السمك المطلوب، ثم دفعه إلى صاحب المشواة في أحد المطاعم المختصة والمكتظة بالزبناء الذين يفعلون نفس الشيء.
وحين اقترب وقت الأداء انسللت لتسوية الوضعية حتى أريح الأستاذ هذه المرة. إلا أنه لما علم من صاحب المطعم بأن الوجبة تمت تأديتها من طرفي، ألح عليه في أن يرجع لي ما دفعت. ورغم تفسيرنا للأستاذ أننا اليوم زملاءه ولم نعد تلاميذه كما في الماضي، وأننا، والحمد لله، قادرون على أداء الطلبات، إلا أنه رفض هذا الطرح مطلقا. قائلا لنا: “ليس هناك ماض بتاتا، إنما هو حاضر يتجدد، فهذه اللحظة بدورها ستمضي. وبالنسبة لي فالأساسيات لا تتغير. والصداقة لا تُقدر بثمن”.