تأثير الترجمة على حياتي اليومية
سعيد بوخليط
هناك إجماع متَّفق حوله لدى المهتمين، بأنَّ الترجمة فعل أخلاقي بامتياز، من الدرجة الأولى، ينطوي أولا وأخيرا، على ثلاث محدِّدات أساسية على مستوى تطور الشخصية الإنسانية صوب مراتب السمو. أقصد بذلك: الأمانة، المسؤولية، الحوار اللامتناهي زمانيا ومكانيا.
ذلك، أنَّ أدبيات التعامل مع وثائق النصوص من خلال بوَّابة الترجمة، يضع المترجِم مبدئيا عند موقع الوصيِّ الأول فيما يتعلق بتأويل معاني النص وتفكيك خباياه عبر الانتقال بين دروب لغة ثانية، قصد اكتشاف هويتها وفي الآن ذاته إعادة سبر أغوار الهوية الشخصية للغة المترجِم الأولى حتى لاأقول الأمّ.
حقل لساني، يفترض من الوهلة الأولى تقلُّص الهامش التداولي بين المتكلِّمين، واتساع مساحة اللامعرفة لدى أطراف العملية التواصلية، ثم يزداد الأمر حساسية، إذا انتفى أو انعدم التواصل بين المترجِم والمؤلِّف، وهو الوضع السائد والقائم فعليا، بحيث يمارس المترجِم تمارينه التأويلية ويواصل عمله غاية وضعه نهائيا بين أيادي القرَّاء، دون تواصل يذكر مع صاحب النص أو مجرَّد إحاطته علما بجزئية معينة، بل قد لايعلم بمبادرة انتقال نتاجه إلى لغة أخرى. وضع، يطرح ويثير مختلف الأسئلة والإشكالات الموصولة بفعل الترجمة.
بينما تشير الحالة الثانية، إلى الوجهة الأكثر هدوءا وطمأنينة نتيجة استمرار وصاية الكاتب على منجزه المنخرط في حوارات أوراش الترجمة، وإلحاح رغبته على مصاحبته دائما النص أينما حلَّ وارتحل، مواظبا دون ملل أو تخلٍّ بخصوص سعيه إلى إعادة كتابة ماكتبه قبل وقع آثار الترجمة، يتقاسم يوميات سفر نصِّه عبر الترجمة رفقة المترجِمِ، ولاتخرج الصيغة النهائية للإبداع الجديد، سوى برضاه وموافقته النهائية على طبيعة الدلالات التي اكتساها النص مرة أخرى في كنف عالمه الجديد.
إذن، ألهمتني الترجمة، جانبا من المقوِّمات الأخلاقية الضرورية لوجودي كي ألامس كنه إنسانيتي، وأتخلَّص شيئا فشيئا من نزوعاتي الصغيرة التي تتوخى تقويض الثالوث المتمثل في مدى قدرتي على أن أكونا أمينا، مسؤولا، ثم قادرا بكل تواضع على محاورة ذاتي، فالآخر المغاير ثانية، ما دامت مكامن اختلالات الحياة أصلها غياب الحوار والتواصل بين الأفراد و ذواتهم أولا، وفي غضون ذلك استيعاب اختلاف الآخر وجوديا.
يتهذَّب الحوار ذاتيا باعتباره آلية أخلاقية ومعرفية، قبل قدرته على التبلور موضوعيا، إيجابيا، فالعجز عن محاورة الذات لايمكنه بالضرورة أن يفضي إلى محاورة مبدعة للآخر.
تتوزع يوميات حياتي، بين التأليف والترجمة، لكن نصيب الترجمة يظلُّ مهيمنا، تبعا لأسئلة كثيرة مطروحة يوميا فوق طاولة اشتغالي، بقدر ماتلهمني دواعي الترجمة كل صباح طاقة محفِّزة؛ بالتالي أسباب الشغف بالحياة، وتربطني دائما بمشاريع نحو المستقبل، سعي يصلني دائما بالتواضع وعدم التوقف قط عن تقييم اجتهادي الشخصي، ومدى قدرتي على تبيُّن خبايا النص والتطلع نحو إيجاد سبل إرساء قنوات حوار، يشكِّل لبنات التواصل الذي تتوخاه الترجمة.
تخلق الترجمة الأمل، تمنح المقبل عليها السعادة والكدِّ والاجتهاد، طبعا بناء على شروط الشغف والرغبة الشفافة الأصيلة، وإلا يغدو الوضع روتينا ثقيلا جدا.
هكذا، أنام ليلا، وأنا أضمر أملا نحو صبيحة الغد كي أواصل ماتوقفتُ عنه البارحة، وتواصل قطع أشواط أخرى على مستوى الترجمة، لاسيما إذا اعتبرتُ الأمر تحديا يلزمني النهوض به. شعور يمتد إلى الحياة نفسها، بكل ممكناتها.