اغتيال سليماني والمفاوضات النووية.. قراءة في مذكرات جواد ظريف (2)
نضال آل رشي
في الجزء الأول من هذه السلسة، والذي تم نشره الأسبوع الماضي، استكشفنا سوياً ما قاله محمد جواد ظريف في مذكراته حول المشروع الإقليمي والإستراتيجي الإيراني، وكيف ترى إيران محيطها في ظل الاشتباك المصلحي والأمني مع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، والذي وصل إلى ذروته في بداية العام 2020، حين اغتالت الولايات المتحدة الأمريكية القائد الأعلى لفيلق القدس الجنرال قاسم سليماني.
الحسين الثائر والحسن المسالم وتوجهات إيران السياسية والأيديولوجية
كشفت المذكرات أن المحافظين في إيران، والذين هم الأكثر نفوذاً ويسيطرون على المفاصل الرئيسية للدولة، ينظرون للحسين بن علي بوصفهم أحفاده وأتباعه، بينما ينظرون للحسن بن علي بشيءٍ من الازدراء، نظراً لأنه قبل التنازل عن السلطة لمعاوية بن ابي سفيان. هذا الاختلاف في النظرة التاريخية له تأثير كبير على توجهات إيران السياسية والأيديولوجية، وانعكاسات على السياسة الإيرانية الداخلية، وجعلهم يعتبرون أن حسن روحاني وجواد ظريف هم أتباع الحسن، بينما قاسم سليماني والحرس الثوري هم أتباع الحسين.
الأيام الأولى بعد مقتل قاسم سليماني في 2020؟
بدايةً يكشف ظريف في مذكراته أنه لم يتم إبلاغه رسمياً من السلطات الإيرانية باغتيال سليماني، وأنه قد علم بذلك من خلال وسائل الإعلام.
وبحسب ظريف، فقد تم عقد اجتماعات في المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني لمناقشة الموقف الإيراني من هذه الأزمة. وتم الاتفاق على عدم الرد العسكري المباشر على الولايات المتحدة، وإنما الرد عبر استنزاف مصالحها في المنطقة كما يفعل حزب الله مع إسرائيل. ولكن بعد أيام، تفاجأ ظريف بأن المجلس الأعلى للأمن القومي قرر تنفيذ رد عسكري مباشر على القواعد الأمريكية في العراق، وأن إيران قد أبلغت الولايات المتحدة عبر السفير السويسري بهذا الرد المقبل.
وقد أدى هذا القرار المفاجئ إلى سقوط طائرة أوكرانية مدنية بالخطأ من قبل الحرس الثوري الإيراني، مما أثار جدلاً كبيراً. ورفض ظريف هذا الموقف الذي اعتبره غير أخلاقي واستراتيجي، وقرر مقاطعة اجتماعات المجلس الأعلى للأمن القومي لمدة عام كامل. وربط ظريف هذه الأحداث بالخلاف بينه وبين عناصر محسوبة على الحرس الثوري الذين كانوا يسيطرون على المجلس الأعلى للأمن القومي.
كيف ولماذا أبلغ الإيرانيون الأمريكان بهجومهم على القاعدة الأمريكية في العراق؟
أكد ظريف أن هذا التبليغ المسبق كان بهدف خداع استراتيجي، حيث أرادت إيران أن توجه رسالة ضمنية للعراق بأنها قادرة على ضرب القوات الأمريكية المتواجدة لحمايتهم من دون أن تتعرض لرد فعل كبير. وأشار ظريف إلى أن هذا الأسلوب لم يكن جديدًا على إيران، حيث سبق أن قامت بإبلاغ الأمريكيين بضربة عسكرية على أراضي باكستان في وقت سابق دون أن تواجه ردًا كبيرًا ففي أكتوبر 2018، شنت إيران عملية عسكرية في منطقة بلوشستان الباكستانية. استهدفت العملية جماعات مسلحة تعتبرها إيران مسؤولة عن الهجمات عبر الحدود التي تسببت في خسائر بشرية ومادية داخل إيران، خاصة في إقليم سيستان وبلوشستان وكانت هذه المرة الأولى التي يؤكد فيها مسؤول إيراني إبلاغ الولايات المتحدة قبل الضربة. وأكد ظريف أن الهدف من هذه الخطوة هو تعزيز هيبة إيران وتخويف الأطراف الأخرى من التمادي في مواجهتها. وأوضح أنه لا يرى تناقضًا في هذا الأسلوب، باعتباره أحد الاستراتيجيات التي تتبعها إيران في مواجهة أعدائها.
لماذا ينقسم الإيرانيون حول المفاوضات النووية بين مؤيد ومعارض؟
أشار ظريف إلى وجود معارضة في البرلمان والصحف المحافظة منذ البداية ضد فكرة التفاوض مع أمريكا حول البرنامج النووي وأنّ هناك انقساماً شعبياً بشأن هذه المفاوضات، بين تيار مؤيد وآخر معارض.
فالتيار المؤيد يرى أن البرنامج النووي لم يكن ضروريًا للحصول على مكاسب إقليمية، وأن التفاوض عليه والتوصل إلى اتفاق نووي سيمنح إيران مكاسب اقتصادية واستراتيجية أهمها رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، وانفتاح الغرب على الاستثمارات الداخلية.
أما التيار المعارض فيرى أن البرنامج النووي قضية سيادية لا ينبغي التفاوض عليها، ويجب الشك في نوايا الأمريكيين والأوروبيين في الوفاء بتعهداتهم، إضافة إلى اعتبار البرنامج النووي جزءاً لا يتجزأ من الهويّة القومية الإيرانية والمشروع الحضاري والسياسي للبلاد، وبالتالي لا يمكن التفريط فيه.
هل حاول سليماني مع الروس إفشال الاتفاق مع الغرب؟
كشفت المذكرات أن الجنرال قاسم سليماني قد نجح في إقامة علاقات سياسية وثيقة مع روسيا على أعلى المستويات، حيث كان الشخص الموثوق به من قبل بوتين وأجهزة الدولة الروسية الكبرى. فقد كان أقنع روسيا بالتدخل العسكري في سوريا في خريف عام 2014 لحماية الدولة السورية والنظام الحاكم.
نتيجةً لهذه المكانة، تعاون سليماني مع روسيا لإفشال مفاوضات البرنامج النووي، حيث قام باللعب على تضارب المصالح بين الأطراف الثلاثة (إيران-روسا-الغرب).
فبعد رفع العقوبات عن إيران وانفتاحها على السوق النفطية الدولية، ستستعيد إيران حصتها النفطية والتي كانت تسيطر عليها روسيا آنذاك وتصدر النفط والغاز للغرب بدلاً من إيران. وبهذا تلاقت مصالح الأطياف المحافظة في إيران مع مصالح روسيا الاقتصادية، هذا عدا عن أنّ تقريب إيران من الغرب معناه خسارة النفوذ الروسي في طهران بشكل أو بآخر.
هل حاولت تركيا إفشال المفاوضات النووية؟
تحدث ظريف عن وجود خلافات عميقة بين إيران وتركيا حول العديد من الملفات الإقليمية. فعلى صعيد الأزمة السورية والعراقية، هناك اختلاف جوهري بين الموقفين الإيراني والتركي، حيث تدعم إيران النظام السوري وتتحفظ على التدخل العسكري التركي في سوريا والعراق. كما أن الملف الكردي على الحدود الإيرانية التركية يشكل نقطة خلاف رئيسية، فإيران تتهم تركيا بدعم الجماعات الكردية المسلحة على حدودها، مثل حزب الحياة الحرة الكردستاني، في حين أن تركيا تتهم إيران بدعم حزب العمال الكردستاني المعادي لها. وتتجلى هذه الخلافات في إنشاء تركيا لجدار عازل على طول الحدود مع إيران، وانتقادات جواد ظريف المتكررة للموقف التركي في المنطقة، الذي يعتبره معاديًا لإيران في العديد من القضايا الملحة.
وبناءً عليه قد تكون تركيا حاولت إفشال الاتفاق النووي بين إيران والغرب لعدة أسباب ترتبط بمصالحها الاستراتيجية والأمنية والاقتصادية في المنطقة:
أولاً، لا تخفي تركيا قلقها من أن يؤدي الاتفاق النووي إلى تعزيز النفوذ الإيراني في المنطقة، مما قد يغير توازن القوى لصالح إيران. هذا النفوذ المتزايد قد يعزز من قدرات إيران في دعم الجماعات المسلحة في سوريا والعراق، مما يشكل تهديداً مباشراً على المصالح التركية.
ثانياً، تركيا تعتمد على إيران في جزء كبير من وارداتها من النفط والغاز الطبيعي والذي تشتريه بأسعار بخسة من خلال الالتفاف على العقوبات وفي حال تخفيف العقوبات الاقتصادية على إيران سوف تخسر تركيا هذه الميزة كما أنها تخشى أن يعزز ذلك من قدرة إيران على منافستها اقتصادياً في المنطقة.
ثالثاً، تركيا تخشى من احتمالية تقارب أكبر بين الولايات المتحدة وإيران على حساب العلاقات التقليدية بين تركيا والغرب. هذا الشعور قد يعزز من معارضة تركيا للاتفاق النووي ودفعها في كثير من الأحيان لمحاولة التأثير على مسار الاتفاق لضمان حماية مصالحها القومية والإقليمية.
حقيقة فتوى المرشد الإيراني تحريم السلاح النووي
تكشف المذكرات حقيقة فتوى المرشد الإيراني بتحريم السلاح النووي. فبالرغم من الخطاب الرسمي الإيراني المؤكد على احترام هذه الفتوى، إلا أن هناك تصريحات من مسؤولين إيرانيين بارزين تشير إلى عدم التزام إيران الحقيقي بها. فالمستشار الإيراني كمال خرازي يؤكد أن عقيدة إيران النووية القائمة على هذه الفتوى قابلة للتغيير حسب الظروف، مشيرًا إلى أن الفتوى ليست حكمًا شرعيًا ثابتًا وإنما فتوى قابلة للتغيير. ويوضح خرازي أنه في حال هجوم من دولة نووية، فإن على إيران أن تكون دولة نووية أيضًا لأن الدولة النووية لا تُهزم في الحرب. هذا ما يشير إلى أن إيران تملك جميع المعارف والقدرات النووية، ويتبقى لديها القرار السياسي فقط لإنتاج السلاح النووي.
وتصديقاً لهذه البراغماتية الإيرانية في التعامل مع ملفات الأمن القومي بمعزل عن الفتاوى الشرعية المعلنة تجدر الإشارة إلى أن إيران قامت بشراء أسلحة أمريكية عبر الوسيط الإسرائيلي خلال الحرب العراقية الإيرانية في إطار صفقة “إيران-كونترا” المشهورة.
بالتالي، فإن الاعتماد على فتوى المرشد الإيراني بتحريم السلاح النووي قد لا يكون موثوقاً، وأن إيران قد تغير موقفها وفقاً للظروف.
فضيحة إيران-كونترا لمن لا يعرفها
كانت فضيحة إيران-كونترا حادثة سياسية كبيرة في الولايات المتحدة خلال الثمانينات، حيث تورطت الإدارة الأمريكية في بيع أسلحة لإيران، التي كانت حينها تحت عقوبات أمريكية ودولية. كان الهدف من الصفقة هو تأمين الإفراج عن رهائن أمريكيين محتجزين في لبنان من قبل جماعات مرتبطة بإيران، بالإضافة إلى استخدام عائدات البيع لدعم متمردي الكونترا في نيكاراغوا، الذين كانوا يقاتلون الحكومة الساندينية المدعومة من الاتحاد السوفييتي.
الاتفاقية تمت بترتيب من قبل مستشار الأمن القومي الأمريكي روبرت مكفارلين، وضباط من وكالة الاستخبارات المركزية. وافقت إدارة الرئيس رونالد ريغان على الصفقة على الرغم من حظر الكونغرس تقديم الدعم المالي أو العسكري للكونترا.
بدأت المفاوضات عبر وسطاء إسرائيليين، حيث قامت إسرائيل بشحن الأسلحة إلى إيران ومن ثم استبدالها بأسلحة أمريكية لتعويض مخزوناتها وكان الوسيط الإسرائيلي هو أَل شويمر الذي كان مؤسساً لشركة الصناعات الجوية الإسرائيلية (إسرائيل إيركرافت إندستريز)، حيث شارك في تنظيم اللوجستيات لنقل الأسلحة الأمريكية إلى إيران من خلال إسرائيل، بما في ذلك تأمين طائرات شركة (العال) لنقل الأسلحة. كما قدم شخصيات رئيسية مثل (روبرت مكفارلين) مستشار الأمن القومي الأمريكي إلى (منوشهر قرباني فر) الوسيط الإيراني الذي تواصل مع الجانب الإيراني بشأن المطالب والشروط.
كشفت الفضيحة في عام 1986 عندما تحطمت طائرة تحمل أسلحة للكونترا في نيكاراغوا، وأدت التحقيقات إلى فضح كامل العملية. تم إدانة العديد من المسؤولين، ولكن ألغيت العديد من الإدانات في وقت لاحق أو أعفي عنهم.