أولمبياد باريس: حدود القدرات البشرية.. التكنولوجيا والعقلية النيوليبرالية

أولمبياد باريس: حدود القدرات البشرية.. التكنولوجيا والعقلية النيوليبرالية

نضال آل رشي

     أداء مذهل ويتجاوز القدرات البشرية الطبيعية هكذا علق بعض المختصين في المجال الرياضي على أداء السباح الصيني (بان شانلي) الذي فاز خلال الأسبوع الماضي بميدالية ذهبية لبلاده في سباق ال 100 متر سباحة حرة وحطم الرقم القياسي السابق بفارق أقل من 4 أعشار من الثانية فقط لا غير.

مع مرور الزمن، يبدو أن التميز والتشويق في تحطيم الأرقام القياسية في الألعاب الأولمبية بدأ يتضاءل بحدّة. يعزوا البعض هذا التراجع الكبير في التميز وهذا الاحتفاء بأيّ إنجاز مهما بدا لنا بسيطاً إلى حدود القدرات البشرية وعلى الرغم من أن الفكرة تبدو مقبولة إلا أنها تثير الكثير من الجدل، فما علاقة هذا الموضوع بالعقلية النيوليبرالية وهل ما ينطبق على القدرات البشرية ينطبق على التكنولوجيا؟

تطور الأداء الرياضي عبر الزمن

    الرياضيون المشاركون في أولمبياد باريس 2024 يتمتعون بلا شك بقدرات أعلى مقارنة بالرياضيين في التسعينات من القرن الماضي. لا يعود هذا التقدم إلى ولادة بشر خارقين، بل إلى التطورات الكبيرة في مجالات التدريب والتغذية والصحة الرياضية. وفقًا لدراسة نشرتها مجلة “Journal of Sports Sciences”، فإن التقنيات الحديثة في التدريب والابتكارات في التغذية قد ساهمت بشكل كبير في تحسين الأداء الرياضي على مر العقود.

ومع ذلك، عندما نتحدث عن تحطيم الأرقام القياسية وتحقيق إنجازات رياضية عظيمة، نتصور أحيانًا أن التقدم لا يعرف حدودًا إلا أنّ دراسة نشرتها مجلة “Nature” إحدى أهم المجلّات العلمية البحثية تشير إلى وجود سقف بيولوجي لأداء الإنسان، مما يعني أن هناك حدودًا بيولوجية لا يمكن تجاوزها مهما كانت التقنيات متقدمة والتدريبات مكثّفة.

السقف البيولوجي

    تظهر الأبحاث والدراسات أن هناك سقفًا بيولوجيًا لأداء الإنسان في الرياضات المختلفة. في سباقات الجري لمسافات طويلة، رفع الأثقال، السباحة، ورياضات التحمل، أصبح تحطيم الأرقام القياسية نادراً وتقلصت الفروقات بين الأرقام القياسية إلى فروقات متناهية في الصغر. هذه النتائج تبرز الحدود البيولوجية للإنسان والتي لا يمكن تجاوزها مهما تقدمت التقنيات وتطورت التدريبات وسبل الرعاية فأصبح فهم هذه الحدود يسهم في تقدير الإمكانيات البشرية بشكل أكثر واقعية ويعزز البحث عن طرق جديدة لتحسين الأداء ضمن هذه الحدود.

دراسة نشرت في مجلة “Journal of Applied Physiology” حللت أوقات السباقات في 50 سنة الماضية ووجدت أن التقدم في تحطيم الأرقام القياسية تباطأ بشكل ملحوظ منذ السبعينيات لأسباب مثل القدرة القصوى لاستهلاك الأكسجين (VO2 max) وكفاءة العضلات كعاملين حاسمين في تحديد حدود الأداء وأنّ التكنولوجيا يمكن أن تعزز الأداء الرياضي إلى حدٍّ معين، لكن لا يمكنها تجاوز بعض الحدود المتعلقة بقدرة القلب والرئتين والتحمل العضلي.

حدود التقدم التكنولوجي

    إذا كانت الدراسات والأبحاث العلمية الحديثة تثبت أن هنالك سقفاً بيولوجياً لا يمكن تجاوزه فما الذي يجعل التكنولوجيا استثناء وهل هناك سقفاً تكنولوجياً؟

لبرهنة فرضية محدودية التكنولوجيا والتطور التكنولوجي، يجب النظر في الأسس الفيزيائية والرياضية التي تحدد قدراتنا في الابتكار والتحسين. سنستعرض فيما يلي بعض المبادئ والقوانين الأساسية في الفيزياء والرياضيات لدعم هذه الفرضية.

القانون الثاني للديناميكا الحرارية

    القانون الثاني للديناميكا الحرارية ينص على أن كل نظام معزول يتطور نحو زيادة الإنتروبي (الفوضى). بمعنى آخر، لا يمكن تحويل كل الطاقة المستخدمة في نظام ما إلى عمل مفيد، حيث أن جزءًا منها يتحول دائمًا إلى طاقة مهدرة.

كمثال على ذلك ومهما كانت التكنولوجيا المستخدمة، لا يمكن أن تتجاوز كفاءة محركات السيارات أو الطائرات حدًا معينًا، يعرف بكفاءة كارنو، مما يضع حدًا فيزيائيًا على تحسين الكفاءة.

قانون أينشتاين للنسبية الخاصة

    يحدد القانون أن سرعة الضوء في الفراغ هي الحد الأقصى للسرعة التي يمكن لأي جسم مادي أو إشارة أن تسافر بها. سرعة الضوء تساوي تقريبًا 300,000 كم/ثانية. هذه الحقيقة تضع حدًا مطلقًا على السرعة التي يمكن للتكنولوجيا تحقيقها.

قانون مور

قانون مور ينص على أن عدد الترانزستورات (أشباه الموصلات) على شريحة المعالج يتضاعف تقريباً كل سنتين. رغم أن هذا القانون كان دقيقاً لعقود، إلا أن هناك حدوداً فيزيائية لهذا التضاعف. فحجم الترانزستورات اليوم يقترب من مقاييس ذرية، حيث تصبح تأثيرات النفق الكمومي والضوضاء الإلكترونية مشاكل حقيقية تحد من التصغير المستمر ويشير إلى أن هناك حدوداً لتصغير التكنولوجيا في هذا الاتجاه.

الصِدام مع العقلية النيوليبرالية

   النيوليبرالية هي أيديولوجيا وسياسة اقتصادية متطرفة عن الرأسمالية نشأت في نهايات القرن العشرين، تعمل على تعزيز الليبرالية الاقتصادية وتُعتبر تجسيداً لعقلية النمو الاقتصادي اللامحدود ودفع الشركات والدول إلى تحقيقه حتى لو كان الثمن استغلال كافة أنواع الموارد بشكل غير مستدام ووضع ضغوط هائلة على البيئة يتعارض مع القيود البيولوجية ويزيد من التفاوت الاقتصادي ويخلق تحديات اجتماعية هائلة.

رغم كل ما ذكر سابقاً عن محدودية القدرات البشرية والتكنولوجية تحاول الشركات العملاقة والدول الكبرى وكل من ينتمي إلى المحفل النيوليبرالي إقناع العامّة بأنهم يعملون لصالح الإنسانية، لكن يبدو أنّ هذا التقدم بدأ يواجه تحدياتٍ لا يمكن تجاوزها وتتعارض مع عقلية التقدم اللامتناهي، مما يثير العديد من التساؤلات حول استدامة هذا النموذج الاقتصادي القائم بحد ذاته.

كيف تهدد العقلية النيوليبرالية الوجود البشري

    معادلة التطور التكنولوجي بسيطة وواضحة وهي لا تطور تكنولوجي بدون استكشاف واستغلال موارد جديدة وأسواق جديدة، لكن الاستنفاذ الهائل للموارد الطبيعة والبشرية بداعي تحقيق نمو اقتصادي غير محدود بات واحداً من أكبر التهديدات التي تواجه البشرية اليوم وله آثار بيئية كارثية تهدد بقاء الإنسان.

تعتبر الغابات المطيرة واحدة من أهم الأمثلة على الاستنفاذ البيئي، حيث تُعد هذه الغابات من أكثر النظم البيئية تنوعاً وغنىً بالحياة على سطح الكوكب. وفقًا لتقرير صادر عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، تم تدمير حوالي 420 مليون هكتار من الغابات منذ عام 1990 بسبب الأنشطة البشرية مثل الزراعة غير المستدامة وقطع الأشجار. يأتي هذا التدمير في الوقت الذي أصدرت فيه منظمة الصحة العالمية تقريراً يشير إلى أنّ تلوث الهواء يسبب حوالي 7 ملايين حالة وفاة سنوياً و أن تدمير الغابات يقلل القدرة على تخزين الكربون ومكافحة التغير المناخي و يؤدي أيضًا إلى فقدان التنوع البيولوجي الذي يعد أساسياً لاستقرار النظم البيئية.

في عالم الرياضة، على سبيل المثال لعبة مثل كرة القدم تدرُّ أرباحاً بمئات مليارات الدولارات سنوياً، يتم فيها الضغط على اللاعبين لتحقيق أداء أعلى باستمرار وخوض منافسات أكثر وتقليل أيام الراحة من أجل إرضاء الجماهير والشركات الراعية، مما يؤدي إلى تحمل أعباء بدنية هائلة تؤدي إلى أضرار طويلة الأمد على صحة الرياضيين، ويعكس تأثير النمو الاقتصادي غير المستدام على الأفراد. يتجلى هذا الأمر أيضًا في بيئات العمل، حيث يُطلب من العمال إنتاجية أعلى بأجور منخفضة، مما يزيد من الإجهاد النفسي والجسدي ويؤدي إلى مشاكل صحية واجتماعية مزمنة. تقرير من منظمة العمل الدولية يظهر أن بيئات العمل غير المستدامة تؤدي إلى زيادة معدلات الإصابة بالأمراض والإصابات، مما يؤثر على جودة الحياة ويقلل من الإنتاجية على المدى الطويل.

على الصعيد العالمي، يؤدي هذا النهج المسعور إلى تفاقم التغير المناخي، هذا العنوان الذي تجاوز التقارير والأبحاث العلمية فقد بتنا نشاهد ما يحصل من متغيرات بأم أعيننا. تقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC) يشير إلى أن الارتفاع المستمر في درجات الحرارة العالمية سيؤدي إلى زيادة في الأحداث المناخية المتطرفة مثل الفيضانات والجفاف والأعاصير وبأن ذوبان الجليد القطبي وارتفاع مستوى البحار سيهدد المدن الساحلية ويعرض ملايين الأشخاص لخطر الفيضانات والنزوح. الأبحاث تشير إلى أن المدن الكبرى مثل نيويورك ومومباي وطوكيو معرضة بشكل خاص لهذه المخاطر، مما يتطلب استثمارات هائلة في البنية التحتية للتكيف مع التغيرات المناخية وإلا ستؤدي التغييرات إلى قتل وتشريد الملايين من البشر وزيادة التوترات الاجتماعية والسياسية.

 ختاماً، من الواضح أن هناك حدودًا لقدراتنا، سواء في الرياضة أو التكنولوجيا. ومع استمرارنا في السعي لتحقيق المزيد من الإنجازات، يجب علينا أن نتذكر أن هناك سقفاً بيولوجياً وتكنولوجياً قد نصل إليه في النهاية. فالتقدم البشري، على الرغم من كونه مذهلاً، ليس بالضرورة بلا حدود. علينا أن نتقبل هذه الحقيقة ونتعامل معها بواقعية من أجل تحقيق نموذج اقتصادي مستدام من خلال التعاون الدولي لاتباع نهج شامل يدمج بين الكفاءة في استخدام الموارد والاستثمار في الطاقة المتجددة والتخطيط الحضري الذكي والزراعة المستدامة والسياسات البيئية الصارمة والابتكار الأخضر. تبني هذه المبادئ والسياسات يمكن أن يساعد في تحقيق التوازن بين الرخاء الاقتصادي وحماية البيئة مع الاستمرار في البحث والتطوير والعمل بطرق مستدامة وأخلاقية، لضمان مستقبل أفضل للأجيال القادمة.

Visited 48 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

نضال آل رشي

كاتب وباحث